أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في JO1R FORUM | منتديات شباب و صبايا الأردن، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .

غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس

الفصل الاول



22-07-2007 10:45 مساءً
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
b0749170642


الفصل الاول

أبو قيس





أراح أبو قيس صدره فوق التراب النديّ، فبدأت الأرض تخفق من تحته : ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه … في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقا قاسيا إلى النور قادما من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخرا :
"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض"، أي هراء خبيث .! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهوَمة في عروقه؟. كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه انه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد .. الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيبا .. الخفقان ذاته : كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيرا..
الأرض الندية-فكر- هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا،أمس لم تمطر! . لا يمكن أن تمطر السماء الآن ألا قيظا وغبارا ! أنسيت أين أنت؟ أنسيت؟
دور جسده واستلقى على ظهره حاضنا رأسه بكفيه واخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر اسود يحلق عاليا وحيدا على غير هدى، ليس يدري لماذا امتلأ، فجأة، بشعور آسن من الغربة، وحسب لوهلة انه على وشك أن يبكي .. كلا، لم تمطر أمس، نحن في آب الآن .. أنسيت؟ كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود .. أنسيتها؟ مازال الطائر يحوم وحيدا مثل نقطة سوداء في ذلك الوهج المترامي فوقه.. نحن في آب ! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ انه الشط! السبت تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك؟
-"وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات، يشكلان نهرا واحدا اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى… "
الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود، وكان هو مارا حينذاك حذاء المدرسة في قريته .. فارتقى حجرا واخذ يتلصص من الشباك :كان الأستاذ سليم واقفا أمام التلميذ الصغير وكان يصيح بأعلى صوته وهو يهز عصاه الرفيعة:
-"..وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات…" وكان الصغير يرتجف هلعا فيما سرت ضحكات بقية الأطفال في الصف ..مد يده ونقر طفلا على رأسه فرفع الطفل نظره إليه وهو يتلصص من الشباك:
-"… ماذا حدث؟"

ضحك الطفل و أجاب هامسا:
-"تيس! "
عاد،فنزل عن الحجر واكمل طريقه وصوت الأستاذ سليم مازال يلاحقه وهو يكرر:
-"وحين يلتقي النهران الكبيران…"
في تلك الليلة شاهد الأستاذ سليم جالسا في ديوانية المختار يقرقر بنرجيلته: كان قد أرسل لقريتهم من يافا كي يعلم الصبية، وكان قد أمضى شطرا طويلا من حياته في التعليم حتى صارت كلمة استاذ جزءا لا يتجزأ من اسمه، وفي الديوانية سأله أحدهم، تلك الليلة،
-".. وسوف تؤم الناس يوم الجمعة.. أليس كذلك؟"
وأجاب الأستاذ سليم ببساطة:
-"كلا، إنني أستاذ ولست إماما.."
قال له المختار:
-"وما الفرق؟لقد كان أستاذنا إماما.."
-"كان أستاذ كتاب، أنا أستاذ مدرسة.."
وعاد المختار يلح:
-"وما الفرق؟."
لم يجب الأستاذ سليم بل دور بصره من وراء نظارتيه فوق الوجوه كأنه يستغيث بواحد من الجالسين، إلا أن الجميع كانوا مشوشين حول هذا الموضوع مثل المختار..
بعد فترة صمت طويلة تنحنح الأستاذ سليم وقال بصوت هادئ :
-"طيب، أنا لا اعرف كيف اصلي.."
-"لا تعرف؟"
زأر الجميع، فأكد الأستاذ سليم مجددا:
-"لا اعرف! "
تبادل الجلوس نظرات الاستغراب ثم ثبتوا أبصارهم في وجه المختار الذي شعر بان عليه أن يقول شيئا، فاندفع دون أن يفكر :
-"..وماذا تعرف إذن؟"
وكأن الأستاذ سليم كان يتوقع مثل هذا السؤال، إذ انه أجاب بسرعة وهو ينهض:
-"أشياء كثيرة.. إنني أجيد إطلاق الرصاص مثلا .."
وصل إلى الباب فالتفت، كان وجهه النحيل يرتجف:
-"إذا هاجموكم أيقظوني، قد أكون ذا نفع"

***



ها هو إذن الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات! ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم! . يا رحمة الله عليك ! لا شك انك كنت ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله ! أتوجد ثمة نعمة إلهية اكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك .. ولكنك على أي حال بقيت هناك .. بقيت هناك ! وفرت على نفسك الذل والمسكنة أنقذت شيخوختك من العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم.. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما افعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز؟
نهض، واستند إلى الأرض بكوعيه وعاد ينظر إلى النهر الكبير كأنه لم يره قبل ذلك . إذن هذا هو شط العرب : "نهر كبير تسير فيه البواخر محملة بالتمر والقش كأنه شارع في وسط البلد تسير فيه السيارات .."
هكذا صاح ابنه، قيس، بسرعة حين سأله تلك الليلة :
-"ما هو شط العرب؟"
كان يقصد أن يتحنه، إلا أن قيس صاح الجواب بسرعة، وأردف قائلا:
-"..لقد رأيتك تطل من شباك الصف اليوم.."
التفت إلى زوجه فضحكت، أحس بشيء من الخجل، وقال ببطء:
-"إنني اعرف ذلك من قبل .."
-"كلا، لم تكن تعرفه.. عرفته اليوم وأنت تطل من الشباك.."
-"طيب! وماذا يهمني أن اعرف ذلك أو أن لا اعرفه، هل ستقوم القيامة؟"
رمقته زوجته من طرف عينيها ثم قالت:
-"اذهب والعب يا قيس في الغرفة الأخرى.."
وحين صفق الباب خلفه قالت لزوجها:
-"لا تحكي أمامه بهذا الشكل، الولد مبسوط لأنه يعرف ذلك، لماذا تخيب أمله؟"
قام واقترب منها ثم وضع كفه على بطنها وهمس:
-"متى؟"
"بعد سبعة اشهر"
-"أوف! "
-نريد بنتا هذه المرة.."
-"كلا ! نريد صبيا صبيا"

***



ولكنها أنجبت بنتا سماها"حسنا"، ماتت بعد شهرين من ولادتها وقال الطبيب مشمئزا: "لقد كانت نحيلة للغاية ! "
كان ذلك بعد شهر من تركه قريته، في بيت عتيق يقع في قرية أخرى بعيدة عن خط القتال:
-"يا أبا قيس، أحس بأنني سألد! "
-"طيب، طيب، اهدأي"
وقال في ذات نفسه:
"بودي لو تلد المرأة بعد مئة شهر من الحمل !أهذا وقت ولادة؟"
-"يا الهي! "
-"ماذا؟"
-"سألد."
-"أأنادي شخصا؟"
-"أم عمر"
-"أين أجدها الآن؟"
-"ناولني هذه الوسادة.."
-"أين أجد أم عمر؟"
-"يا الهي..ارفعني قليلا، دعني اتكئ على الحائط.."
-"لا تتحركي كثيرا، دعيني أنادي أم عمر.."
-"أسرع.. أسرع..يا رب الكون! "
هرول إلى الخارج، وحين صفق وراءه الباب سمع صوت الوليد، فعاد والصق إذنه فوق خشب الباب..
صوت الشط يهدر، والبحارة يتصايحون، والسماء تتوهج و الطائر الأسود ما زال يحوَم على غير هدى.
قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر ..
أحس، أكثر من أي وقت مضى، بأنه غريب وصغير، مرر كفه فوق ذقنه الخشنة ونفض عن رأسه كل الافكار التي تجمعت كجيوش زاحمة من النمل .
وراء هذا الشط، وراءه فقط، توجد كل الأشياء التي حرمها هناك توجد الكويت .. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور يوجد هناك .. لابد أنها شئ موجود، من حجر وتراب وماء وسماء، وليست مثلما تهوم في رأسه المكدود.. لابد أن ثمة أزقة وشوارع ورجالا ونساء وصغارا يركضون بين الاشجار ..لا ..لا..لا توجد اشجار هناك ..سعد، صديقه الذي هاجر إلى هناك واشتغل سواقا وعاد باكياس من النقود قال انه لا توجد هناك أية شجرة.. الاشجار موجودة في راسك يا أبا قيس.. في راسك العجوز التعب يا أبا قيس .. عشر اشجار ذات جذوع معقدة كانت تساقط زيتونا وخيرا كل ربيع.. ليس ثمة اشجار في الكويت، هكذا قال سعد.. ويجب ان تصدق سعدا لانه يعرف أكثر منك رغم انه اصغر منك .. كلهم يعرفون أكثر منك .. كلهم.
في السنوات العشر الماضية لم تفعل شيئا سوى أن تنتظر.. لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق انك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها .. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير .. ماذا تراك كنت تنتظر؟أن تثقب الثروة سقف بيتك .. بيتك؟ انه ليس بيتك .. رجل كريم قال لك :
اسكن هنا! هذا كل شئ، وبعد عام قال لك اعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد .. وبقيت مقعيا حتى جاءك سعد واخذ يهزك مثلما يهز الحليب ليصير زبدا.
-"إذا وصلت إلى الشط بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى هناك عبر الصحراء..لماذا لا تذهب؟"
سمعت زوجته كلام سعد فنقلت بصرها بين وجهيهما وأخذت تهدهد طفلها من جديد.
-"إنها مغامرة غير مأمونة العواقب! "
-"غير مأمونة العواقب؟ها! ها! أبو قيس يقول : غير مأمونة العواقب .. هاها "!
ثم نظر إليها وقال :
-"أسمعت ما يقول زوجك؟غير مأمونة العواقب ! كأن الحياة شربة لبن! لماذا لا يفعل مثلنا؟ هل هو احسن؟ .."
لم ترفع بصرها ليه، وكان هو يرجو أن لا تفعل ..
-"أتعجبك هذه الحياة هنا؟لقد مرت عشر سنوات وأنت تعيش كالشحاذ .. حرام ! ابنك قيس، متى سيعود للمدرسة؟وغدا سوف يكبر الآخر .. كيف ستنظر إليه وأنت لم.."
-"طيب ! كفى! "
-"لا ! لم يكف! حرام! أنت مسؤول الآن عن عائلة كبيرة، لماذا لا تذهب إلى هناك؟ما رأيك أنت؟"
زوجته ما زالت صامتة وفكر هو : "غدا سيكبر هو الآخر …" ولكنه قال:
-"الطريق طويلة، وأنا رجل عجوز ليس بوسعي أن أسير كما سرتم أنت .. قد أموت .. "
لم يتكلم أحد في الغرفة، زوجته ما زالت تهدهد طفلها.وكف سعد عن إلحاح ولكن الصوت الغليظ انفجر في رأسه هو :
-"تموت؟ هيه! من قال أن ذلك ليس افضل من حياتك الآن؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزيتون العشر التي امتلكتها مرة في قريتك .. قريتك ! هيه! "
عاد فنظر إلى زوجته:
-"ماذا ترين يا أم قيس؟"
حدقت إليه وهمست:
-"كما ترى أنت…"
"سيكون بوسعنا أن نعلم قيس.."
-"نعم"
-"وقد نشترى عرق زيتون أن اثنين .."
-"طبعا! "
-"وربما نبني غرفة في مكان ما .."
-"اجل"
-"إذا وصلت ..إذا وصلت.."
كف، ونظر إليها..لقد عرف أنها سوف تبكي : ترتجف شفتها السفلى قليلا ثم ستنساب دمعة واحدة تكبر رويدا رويدا ثم تنزلق فوق خدها المغضن الأسمر..حاول أن يقول شيئا، ولكنه لم يستطع، كانت غصة دامعة تمزق حلقه .. غصة ذات مذاق مثلها تماما حين وصل إلى البصرة وذهب إلى دكان الرجل السمين الذي يعمل في تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، وقف أمامه حاملا على كتفيه كل الذل وكل الرجاء اللذين يستطيع رجل عجوز ان يحملهما.. وكان الصمت مطبقا مطنا حين كرر الرجل السمين صاحب المكتب.
_"إنها رحلة صعبة، أقول لك، ستكلفك خمسة عشر دينارا."
-"وهل تضمن أننا سنصل سالمين؟"
-"طبعا ستصل سالما، ولكن ستتعذب قليلا، أنت تعرف، نحن في آب الآن، الحر شديد والصحراء مكان بلا ظل … ولكنك ستصل .."
كانت الغصة ما تزال في حلقه، ولكنه أحس انه إذا ما اجل ذلك الذي سيقوله فلن يكون بوسعه ان يلفظه مرة اخرى :
-"لقد سافرت آلافا من الأميال كي اصل إليك، لقد أرسلني سعد، أتذكره؟ ولكنني لا املك إلا خمسة عشر دينارا، ما رأيك ان تاخذ منها عشرة وتترك الباقي لي؟"
قاطعه الرجل:
-"إننا لا نلعب .. ألم يقل لك صديقك أن السعر محدود هنا؟ أننا نضحي بحياة الدليل من أجلكم.."
-"ونحن أيضا نضحي بحياتنا.."
-"إنني لا أجبرك على هذا "
-"عشرة دنانير؟"
-"خمسة عشر دينارا..ألا تسمع؟"
لم يعد بوسعه أن يكمل، كان الرجل السمين الجالس وراء كرسيه، المتصبب عرقا، يحدق إليه بعينين واسعتين و تمنى هو لو يكف الرجل عن التحديق، ثم أحس بها، ساخنة تملأ مؤقه و على وشك أن تسقط .. أراد أن يقول شيئا لكنه لم يستطع، أحس أن رأسه كله قد امتلأ بالدمع من الداخل فاستدار وانطلق إلى الشارع، هناك بدأت المخلوقات تغيم وراء ستار من الدمع : اتصل أفق النهر بالسماء وصار كل ما حوله مجرد وهج ابيض لا نهائي، عاد، فارتمى ملقيا صدره فوق التراب الندي الذي اخذ يخفق تحته من جديد .. بينما انسابت رائحة الأرض إلى انفه وانصبت في شرايينه كالطوفان.
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:47 مساءً   [1]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
الفصل الثاني

أسعد





وقف أسعد أمام الرجل السمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، ثم انفجر:
-خمسة عشر دينارا سأدفعها لك ! .. لا باس ! ولكن بعد أن اصل وليس قبل ذلك قط ..
حدق إليه الرجل من وراء جفنيه السمينين وسال ببلاهة :
-لماذا؟
-لماذا؟ ها ! لان الدليل الذي سترسلونه معنا سوف يهرب قبل أن نصل إلى منصف الطريق ! خمسة عشر دينارا، لا باس .. ولكن ليس قبل أن نصل ..
طوى الرجل أوراقا صفراء أمامه وقال بلؤم :
-أنا لا أجبرك على أي شئ .. أنا لا أجبرك .
-ماذا تعني؟
-اعني انه إذا لم تعجبك شروطنا فبوسعك أن تستدير، وخطو ثلاث خطوات، وستجد نفسك في الطريق .
-الطريق ! .. أتوجد بعد طرق في هذه الدنيا؟ ألم يمسحها بجبينه ويغسلها بعرقه طوال أيام وأيام؟ كلهم يقولون ذلك : ستجد نفسك على الطريق ! .. قال له أبو العبد الذي هربه من الأردن إلى العراق:
-"ما عليك إلا أن تدول حول الاتشفور، لا باس أن تضرب قليلا إلى الداخل، أنت مازلت فتى وبوسعك أن تتحمل قليلا من القيظ .. ثم عد، وستجدني بانتظارك على الطريق.. "
-"ولكن هذا لم يكن ضمن الشروط ..لقد قلت لي، ونحن في عمان انك ستأخذني إلى بغداد ودفعت لك عشرين دينارا كاملا .. لم تقل لي أنني سأدور حول الاتشفور.."
وضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر فعلمت أصابعه الخمسة وبان من تحتها لون السيارة الأحمر الفاقع .. كانت السيارة الضخمة واقفة إلى جانب البيت قرب جبل عمان حين تفاوض معه، وهو يذكر تماما كل الشروط التي قيلت :
-"إنها مهمة صعبة، وسوف يأخذونني إلى السجن لو أمسكوك معي، ورغم ذلك فسوف اقدم لك خدمة كبرى لأنني كنت اعر ف والدك، رحمه الله .. بل أننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات .."
صمت أبو العبد قليلا ..كان قميصه الأزرق ينضح بالعرق وأعطاه وجهه الحاد شعورا بأنه أمام واحد من أولئك الرجال الذين يعتقدون أن اجتراح معجزة ما هو واجب من واجبات رب العائلة :
-"سآخذ منك عشرين دينارا .. وسوف تجد نفسك في بغداد .. "
-"عشرون دينارا؟"
-"نعم! وعليك أيضا أن تساعدني طوال الطريق.
سنبدأ بعد غد، علي أن اشحن سيارة صغيرة لرجل ثري في بعداد كان قد أمضى شطرا من الصيف في رام الله ثم رأى أن يعود إلى بغداد بالطائرة.."
-"ولكن.. عشرين دينارا؟"
نظر إليه أبو العبد بالحاج، ثم انفجر:
-" إنني أنقذ حياتك بعشرين دينارا .. أتحسب انك ستمضي عمرك مختفيا هنا؟ غدا يلقون القبض عليك.."
-"ولكن من أين .. احضر لك عشرين دينارا؟"
-"استدن .. استدن، أي صديق بوسعه أن يعطيك عشرين دينارا إذا عرف بأنك ستسافر إلى الكويت.."
-"عشرون دينارا؟"
-"عشرون . عشرون.."
-"إلى بغداد؟"
-مباشرة!
ولكنه كذب عليه، استغل براءته وجهله، خدعه، أنزله من السيارة، بعد رحلة يوم قائظ، وقال له أن عليه أن يدور حول الاتشفور كي يتلافى الوقوع في أيدي رجال الحدود، ثم يلتقيه على الطريق!
"ولكنني لا اعرف هذه المنطقة ..أتفهم أنت معنى أن أسير كل هذه المسافة حول الاتشفور، في عز الحر؟"
ضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر مرة أخرى، كانا واقفين منفردين قبل ميل من الاتشفور وصاح:
-ماذا تعتقد؟أن اسمك مسجل في كل نقاط الحدود، إذا رأوك معي الآن، لا جواز سفر ولا سمة مرور .. ومتآمر على الدولة ماذا تعتقد انه سيحدث؟كفاك دلالا .. انك قوي كالثور وبوسعك أن تحرك ساقيك .. سألاقيك وراء الاتشفور على الطريق.
كلهم يتحدثون عن الطرق .. يقولون : تجد نفسك على الطريق ! وهم لا يعرفون من الطريق إلا لونها الأسود وارصفتها ! وها هو الرجل السمين، المهرب البصراوي يكرر القصة بنفسها.
-ألا تسمع؟ إنني رجل مشغول جدا . قلت لك : خمسة عشر دينارا وسأوصلك إلى الكويت، طبعا عليم ان تمشي قليلا ولكنك فتى في غأية القوة، لن يضيرك هذا .
-ولكن لماذا لا تصغي إلى؟ قلت لك إنني سأعطيك المبلغ إذا ما وصلنا إلى الكويت.
-ستصل ! ستصل!
-كيف؟
-إنني اقسم لك بشرفي انك ستصل إلى الكويت!
-تقسم بشرفك؟
-اقسم لك بشرفي أنني سأتقيك وراء الاتشفور ! ما عليك إلا أن تدور حول تلك المنطقة الملعونة وستجدني بأنتظارك !
لقد دار دورة كبيرة حول الاتشفور، كانت الشمس تصب لهبا فوق رأسه، وأحس فيما كان يرتقي الوهاد الصفر، انه وحيد في كل هذا العالم .. جرجر ساقيه فوق الرمل كما لو انه يمشي على رمل الشاطئ بعد أن سحب زورقا كبيرا امتص صلابة ساقيه .. اجتاز بقاعا صلبة من صخور بنية مثل الشظأيا ثم صعد كثبانا واطئة ذات قمم مسطحة من تراب اصفر ناعم كالطحين.. تراهم لو حملوني إلى معتقل الجفر الصحراوي ..هل سيكونالأمرارحم مما هو الآن؟عبث .. عبث.. الصحراء موجودة في كل مكان، كان أبو العبد قد اعطاه كوفيه لف بها رأسه، ولكنها لم تكن ذات جدوى في رد اللهب بل خيل إليه انها اخذة، هي الأخرى، في الاحتراق ..كان الافق مجموعة من الخطوط المستقيمة البرتقالية، ولكنه كان قد عقد عزمه على المسير بجد .. وحتى حينما انقلب التراب إلى صفائح لامعة من ورق اصفر، لم يتباطأ.. وفجأة بدأت الأوراق الصفر تتطأير فانحنى يلمها:
-شكرا، شكرا ..إن هذه المروحة الملعونة تطير الأوراق من أمامي، ولكن دونها ليس بوسعي أن أتنفس .. ها! ماذا قررت؟.
-هل أنت متأكد من أن الدليل الذي سترسله معنا لن يهرب؟
-كيف يهرب أيها الغبي؟ستكونون أكثر من عشرة أشخاص .. لن يكون بوسعه أن يهرب منكم..
-وإلى أين سيوصلنا؟
-حتى طريق الجهرة، وراء المطلاع، وهناك ستكونون داخل الكويت..
-هل سنمشي كثيرا؟.
-ست أو سبع ساعات فقط..
بعد أربع ساعات وصل إلى الطريق، كان قد خلف الاتشفور وراءه، وكان الشمس قد سقطت وراء التلال البنية إلا أن رأسه كان ما يزال يلتهب وخيل إليه أن جبينه يتصبب دما .. لقد اقتعد حجرا و ألقى بصره بعيدا إلى راس الطريق الأسود المستقيم، كان رأسه مشوشا تخفق فيه آلاف الأصوات المتشابكة، وبدا له أن بروز سيارة كبيرة حمراء في راس تلك الطريق أمر خيالي وسخيف.. وقف، حدق إلى الطريق من جديد، لم يكن بوسعه أن يرى بوضوح بعد، تراه الغسق أم العرق؟ .كان رأسه ما يزال يطن مثل الخلية، وصاح بملء رئتيه:
-أبو العبد . يلعن أبوك .. يلعن أصلك..
-ماذا قلت؟
-أنا؟ لا شئ، لا شئ .. متى ستبدأ الرحلة؟
-حال يصير عددكم عشرة .. أنت تعرف، ليس بوسعنا أن نرسل دليلا مع كل واحد منكم، ولذلك فنحن ننتظر حتى يرتفع العدد إلى عشرة أشخاص ونرسل معهم دليلا واحدا .. هل ستعطيني النقود الآن؟
شد على النقود في جيبه وفكر:"سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في اقل من شهر.. هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقودا في مثل لمح البصر.."
- لا تتفاءل كثيرا، قبلك ذهب العشرات ثم عادوا دون أن يحضروا قرشا…ورغم ذلك سأعطيك الخمسين دينارا التي طلبتها، وعليك أن تعرف أنها جنى عمر..
إذن لماذا تعطيني النقود إذا كنت متأكدا من أنني لن أعيدها لك؟
-أنت تعرف لماذا ..الست تعرف؟أنني أريدك أن تبدأ..أن تبدأ ولو في الجحيم حتى يصير بوسعك ان تتزوج ندى .. انني لا استطيع ان اتصور ابنتي المسكينة تنتظر أكثر.. هل تفهمني؟
أحس الإهانة تجترح حلقه ورغب في أن يرد الخمسين دينارا لعمه يقذفها بوجه بكل ما في ذراعه من عنف وفي صدره من حقد، يزوجه ندى ! من الذي قال له انه يريد أن يتزوج ندى؟ لمجرد أن أباه قرأ معه الفاتحة حين ولد هو وولدت هي في يوم واحد؟ أن عمه يعتبر ذلك قدرا، بل انه رفض مئة خاطب قدموا ليتزوجوا ابنته، وقال لهم أنها مخطوبة ! يا اله الشياطين ! من الذي قال له انه يريد أن يتزوجها؟من قال له انه يريد أن يتزوج أبدا؟ وها هو الآن يذكره مرة أخرى ! يريد أن يشتريه لابنته مثلما يشري كيس الروث للحقل، شد على النقود في جيبه وتحفز في مكانه.. ولكنه حين لمسها هناك، في جيبه، دافئة ناعمة، شعر بأنه يقبض على مفاتيح المستقبل كله، فلو أتاح الآن لحنقه أن يسيطر عليه ليرجع النقود إلى عمه، إذن لما تيسرت له قط فرصة الحصول على خمسين دينار بأي شكل من الأشكال .. هدأ غضبه مطبقا فمه بإحكام وشد أصابعه على النقود الملتفة في جيب بنطاله، ثم قال :
-لا، لا، سأسلمك النقود حالما تجهز الرحلة تماما…سوف أراك مرة في كل يوم .. إنني انزل في فندق قريب ..
ابتسم الرجل السمين، ثم تطاولت ابتسامته فانفجر ضاحكا بصخب:
- من الخير لك أن لا تضيع وقتك يا بني.. كل المهربين يتقاضون نفس السعر، نحن متفقون فيما بيننا .. لا تتعب نفسك .. وعلى أي حال : احتفظ بنقودك حتى تجهز الرحلة، أنت حر..ما اسم الفندق الذي تنزل فيه؟
-فندق الشط ..
-آه! فندق الجرذان! .
نط جرذ الحقل عبر الطريق فلمعت عيناه الصغيرتان في ضوء السيارة وقالت الفتاة الشقراء لزوجها المنهمك بالسياقة:
-انه ثعلب ! رأيته؟
قال الزوج الأجنبي ضاحكا:
-أف منكن أيتها النساء! تجعلن من الجرذ ثعلبا! .
كانا قد التقطاه بعد الغروب بقليل بعد أن لوح لهما وهما في سيارتهما الصغيرة، فلما اوقف الزوج السيارة، اطل هو من النافذة .. كان يرجف من فرط البرد،وكانت الزوجة خائفة منه .. إلا انه جمع بذهنه ما تعلمه من اللغة الإنكليزية و قال :
- لقد اضطر صديقي أن يعود إلى الاتشفور بالسيارة وتركني ..
قاطعه الرجل :
-لا تكذب ..أنت هارب من هناك، لا باس، اصعد.. سأوصلك إلى بعقوبة.
كان المقعد الخلفي مريحا وناولته الفتاة بطانية التفح بها وكان لا يستطيع أن يعرف بالضبط، هل هو يرجف بسبب البرد الصحراوي، أم بسبب الخوف، أم بسبب التعب.. وقال الرجل:
-هل مشيت كثيرا؟
-لست ادري.. ربما أربع ساعات..
-لقد تركك الدليل .. أليس كذلك؟ إن ذلك يحدث دائما .
التفتت إليه الفتاة وسالت:
-لماذا تهربون من هناك؟
أجابها زوجها:
-إنها قصة طويلة .. قل لي .. هل تجيد قيادة السيارات
-نعم ..
-بوسعك أن تأخذ مكاني بعد أن تستريح قليلا .. قد أستطيع أن أساعدك على عبور مركز الحدود العراقي.. سنصل هناك في الثانية بعد منصف الليل، وسيكون المسؤولون نياما.
لم يكن يستطيع أن يركز رأسه على محور واحد، كان مشوشا ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ، ولذلك حاول جهده أن ينام ولو لنصف ساعة..
-من أين أنت؟
-من فلسطين.. من الرملة.
-أوف .. إن الرملة بعيدة جدا .. قبل أسبوعين كنت في زيتا..أتعرف زيتا؟ لقد وقفت أمام الأسلاك الشائكة، فاقترب مني طفل صغير وقال بالإنكليزية أن بيته يقع على بعد خطوات وراء الأسلاك ..
-هل أنت موظف؟
-موظف؟ ها ! إن الشيطان نفسه تأبى عليه براءته أن يكون موظفا.كلا يا صديقي .. أنا سائح..
-"انظر .. انظر، انه ثعلب آخر .. ألم تر إلى عينيه كيف تتقدان؟"
-"يا عزيزتي انه جرذ ..جرذ.. لماذا تصرين على انه ثعلب؟هل سمعت ما حدث أخيرا هناك، قرب زيتا؟"
-"كلا..ماذا حدث؟"
-"الشيطان لا يعرف ماذا حدث ! هل ستستقر في بغداد؟"
"كلا.."
-"أوف! إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟"
أجاب بهدوء:
-"جرذان اصغر منها.."
قالت الفتاة:
-"حقا؟ انه شئ مرعب؟ الجرذ نفسه حيوان مرعب كريه.."
قال الرجل السمين صاحب المكتب:
-"الجرذ حيوان كريه .. كيف بوسعك أن تنام في ذلك الفندق؟"
-"انه رخيص."
نهض الرجل السمين صاحب المكتب واقترب منه ثم وضع ذراعه الثقيلة فوق كتفيه :
-"تبدو متعبا أيها الفتى.. ماذا حدث؟هل أنت مريض؟"
-"أنا؟كلا! "
-"إذا كنت مريضا قل لي.. قد أستطيع أن أساعدك .. لي كثير من الأصدقاء يعملون أطباء ..و اطمئن، لن تدفع شيئا .."
-"بارك الله فيك، ولكنني تعب قليلا.. هذا كل ما في الأمر.. هل سيتأخر أعداد الرحلة؟"
-"كلا، نحمد الله أنكم كثر .. خلال يومين ستجد نفسك على الطريق .. "
أدار ظهره واتجه إلى الباب، ولكن قبل أن يجتازه سمع الرجل السمين يقهقه من وراء كتفيه:
-"… لكن حاذر أن تأكلك الجرذان قبل أن تسافر
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:49 مساءً   [2]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
مروان


الفصل الثالث


خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة .. لم تكن لديه أية فكرة محددة عنة وجهته الجديدة .. فهناك، داخل الدكان، تقطعت آخر خيوط الأمل التي شدت، لسنوات طويلة، كل شئ في داخله ..كانت الكلمات الأخيرة التي يلفظها الرجل السمين حاسمة ونهائية، بل خيل إليه انها كانت مصبوبة من رصاص:
-خمسة عشر دينارا .. ألا تسمع؟
- ولكن…
-أرجوك ! أرجوك ! لا تبدأ بالنواح ! كلكم تأتون إلى هنا ثم تبدأون بالنواح كالأرامل! .. يا أخي، يا روحي .. لا أحد يجبرك على الالتصاق هنا، لماذا لا تذهب و تسال غيري، البصرة مليئة بالمهربين !
طبعا سيذهب ويسال غيره، لقد قال له حسن – الذي اشتغل في لكويت أربع سنين –أن تهريب الفرد الواحد من البصرة إلى الكويت يكلف خمسة دنانير فقط لا غير، وانه يجب أن يكون- حين يمثل أمام المهرب- اكبر من رجل وأكثر من شجاع وإلا ضحك عليه وخدعه واستغل سنيه الست عشرة وجعل منه ألعوبة .
-قالوا أن سعر الواحد خمسة دنانير.
-خمسة دنانير؟هاها! كان ذلك قبل أن تزف حواء إلى ادم .. يا بني، استدر، واخط ثلاث خطوات، وستجد نفسك في الطريق غير مطرود!
جمع شجاعته كلها وحشدها في لسانه، كل ما تبقى في جيبه لا يزيد عن السبعة دنانير، ولقد كان يحسب قبل هنيهة انه غني.. أما الآن .. أتراه يستصغره؟
-سوف تأخذ مني خمسة دنانير وأنت مبسوط .. وإلا ..
-وإلا ماذا؟
-وإلا فضحتك في مخفر الشرطة! .
قام الرجل السمين ودار حول كتبه ثم وقف أمامه وهو يلهث و يتصبب عرقا .. حدق فيه هنيهة قاسه فيها من رأسه حتى قدميه ثم رفع يده الثقيلة في الهواء..
-تريد أن تشكوني إلى الشرطة يا ابن ألـ…
وهوت اليد الثقيلة فوق خده، فضاعت الكلمة في طنين شيطاني اخذ يدور بين إذنيه.. لم يستطع أن يحتفظ بتوازنه للحظة فخطا إلى الوراء خطوتين صغيرتين، ووصله صوت الرجل السمين مبحوحا بالغضب : -اذهب وقل للقواويد انني ضربتك .. تشكوني للشرطة؟
تحفز في مكانه لبرهة وجيزة، ولكنها كانت كافية ليكتشف فيها عبث أية محاولة يقوم بها لترميم كرامته، بل انه أحس حتى عظامه .. بأنه قد اخطأ ـ خطأ ـ لا يغتفر، فاخذ يمضغ ذله وعلامات الأصابع فوق خده الأيسر تلتهب..
-ماذا تراك تنتظر هنا؟
دار على عقبيه، واجتاز الباب إلى الخارج فصفعت انفه روائح التمر وسلال القش الكبيرة .. تراه ماذا سيفعل الآن؟لم يكن يريد أن يسال السؤال لنفسه قط .. ولكنه ليس يدري لماذا كان يحس بنوع من الارتياح .. ترى ما السبب في ذلك؟لقد احب ان يشغل نفسه بالتقصي عن السبب .. ثمة شعور يملا جانبا من رأيه ويوحي له بالارتياح والسعادة، ولكنه لم يكن ليستطيع ان يفصله عن كل الاحداث المؤسية التي احتشدت في صدره خلال نصف الساعة الماضي .. وحين أنتهت كل محاولاًته إلى الفشل اتكأ على الحائط.. كانت جموع الناس تعبر حوإليه دون ان تلتفت إليه، ربما يحدث هذا للمرة الأولى في حياته:
ان يكون منفردا وغريبا في مثل هذا الحشد من البشر ولكنه كان يريد ان يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي له الاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد ان ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي فيحس بان الحياة كبيرة وواسعة وانه سوف يكون في المستقبل واحدا من أولئك الذين يصرفون حياتهم، لحظة اثر لحظة وساعة اثر ساعة بامتلأء وتنوع مثيرين .. ولكن ما السب في كونه يحس الآن مثل ذلك الشعور رغم انه لم يشاهد منذ زمن بعيد فيلما من ذلك النوع، ورغم ان خيوط الامل التي نسجت في صدره احلاما كبارا قد تقطعت، قبيل لحظات، داخل دكان الرجل السمين؟.
لا فائدة .. يبدو انه لن يستطيع اختراق الحجاب الكثيف من خيبة الامل الذي ارتفع دونه ودون ذلك الشعور الملتف على نفسه في مكان ما من رأسه .. وقرر، فيا بعد، ان لا يرهق رأسه قط .. وان يشغل نفسه بالمسير .. ولكنه ما ان ترك الجدار وبدا يمشي في الزحام حتى شعر بيد تربت على كتفيه ,,
-لا تياس إلى هذا الحد …إلى أين ستذهب الآن؟
كان الرجل الطويل قد بدأ يسير إلى جانبه بالفه، وحين نظر اله خيل له انه قد شاهده في مكان ما من قبل، ولكنه رغم ذلك، ابتعد عنه خطوة وصب فوق وجهه عينين متسائلتين، فقال الرجل:
-انه لص شهير.. ما الذي قادك إليه؟
اجاب بعد تردد قصير:
-كلهم ياتون إليه..
اقترب الرجل منه وشبك ذراعه بذراعه كانه يعرفه منذ زمن بعيد:
-اتريد ان تسافر إلى الكويت؟
-كيف عرفت؟
لقد كنت واقفا إلى جانب باب تلك الدكان، وشهدتك تدخل ثم شهدتك تخرج..ما اسمك؟
-مروان .. وأنت؟
-انهم ينادونني "أبو الخيزران."
لأول مرة منذ راه لاحظ الآن ان منظره يوحي حقا بالخيزران، فهو رجل طويل القامة جدا، نحيل جدا،ولكن عنقه وكفيه تعطي الشعور بالقوة والمتانة وكان يبدو لسبب ما انه بوسعه ان يقوس نفسه، فيضع رأسه بين قدميه دون ان يسبب ذلك أي ازعاج لعموده الفقري او بقية عظامه.
-حسنا، ماذا تريد مني؟
تجاهل أبو خيزران السؤال بسؤال من عنده:
-لماذا تريد ان تسافر إلى الكويت؟
-اريد ان اشتغل .. أنت تعرف كيف تجري الامور هناك .. منذ شهور طويلة وأنا.
صمت فجأة ووقف.
الآن، فقط، عرف منشا ذلك الشعور بالارتياح والاكتفاء الذي لم يكن بوسعه، قبل دقائق، ان يكتشفه .. انه ينفتح أمام عينيه بكل اتساعه وصفائه، بل انه هدم، بشكل رائع كل سدود الكآبة التي حالت بينه وبين معرفته .. وها هو الآن يمتلكه من جديد بسطوة لا مثيل لها قط .. كان أول شئ فعله ذلك الصباح الباكر هو كتابة رسالة طويلة إلى امه .. وانه يشعر الآن بمزيد من الارتياح لانه كتب تلك الرسالة قبل ان تخيب اماله كلها في دكان الرجل السمين فيضيع صفاء الفرح الذي صبه في تلك الرسالة .. لقد كان بديعا ان يعيش بعض ساعة مع امه.
نهض باكرا جدا ذلك الصباح.. كان الخادم قد رفع السرير إلى سطح الفندق لان النوم داخل الغرفة في مثل ذلك القيظ وتلك الرطوبة امر مستحيل .. وحينما اشرقت الشمس فتح عينيه .. كان الجو رائعا وهادئا وكانت السماء مازالت تبدو زرقاء تحوم فيها حمامات سود على علو منخفض ويسمع رفيف اجنحتها كلما اقتربت- في دورتها الواسعة-من سماء الفندق.. كان الصمت مطبقا بكثافة، والجو يعبق برائحة رطوبة مبكرة صافية .. مد يده إلى حقيبته الصغيرة الموضوعة تحت السرير فاخرج دفترا وقلما ومضى يكتب رسالة إلى امه وهو مستلق هناك.
كان ذلك احسن ما فعله خلال الشهور، لم يكن مجبرا على فعله، ولكنه كان يريد ذلك بملء رغبته وارادته .. كان مزاجه رائقا، وكانت الرسالة تشبه صفاء تلك السماء فوقه .. ليس يدري كيف اجاز لنفسه ان يصف أباه بانه مجرد كلب منحط ولكنه لم يشا ان يشطب ذلك بعد ان كتبه، لم يكن يريد ان يشطب أية كلمة في الرسالة كلها.. ليس لان امه تتشاءم من الكلمات المشطوبة فقط، بل لانه كان لا يريد ذلك أيضا و ببساطة.
ولكنه –على أي حال –لا يحقد على ابيه إلى ذلك الحد.. صحيح ان أباه قام بعمل كريه، ولكن من منا لا يفعل ذلك بين الفينة والأخرى؟انه يستطيع ان يفهم بالضبط ظروف والده، وبوسعه ان يغفر له .. ولكن هل بوسع والده ان يغفر لنفسه تلك الجريمة؟
"ان يترك اربعة اطفال. ان يطلقك أنت بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك الإمرأه الشوهاء .. هذا امر لن يغفره لنقسه حين يصحو، ذات يوم، ويكتشف ما فعل .
انني لا اريد ان اكره احدا، ليس بوسعي ان افعل ذلك حتى لو اردت .. ولكن لماذا فعل ذلك، معك أنت؟ أنا اعرف انك لا تحبين لاحد منا ان يحكي عنه، اعرف .. ولكن لماذا تعتقدين انه فعل ذلك؟
لقد مضى كل شئ الآن وراح ولا امل لنا بان نستعيده مرة اخرى .. ولكن لماذا فعل ذلك؟ دعينا نسال، لماذا؟
أنا سوف اقول لك لماذا .. منذ ان انقطعت عنا اخبار اخي زكريا اختلف الوضع نهائيا.. كان زكريا يرسل لنا من الكويت، كل شهر حوالي مئتي روبية .. كان هذا المبلغ يحقق لابي بعض الاستقرار الذي يحلم به .. ولكن حين انقطعت اخبار زكريا-نرجو ان يكون ذلك خيرا– ماذا تعتقدين انه فكر؟
لقد قال لنفسه –بل قال لنا كلنا- ان الحياة امر عجيب وان الرجل يريد ان يستقر في شيخوخته لا ان يجد نفسه مجبر على اطعام نصف دزينة من الافواه المفتوحة .. الم يقل ذلك؟ زكريا راح .. زكريا، ضاعت اخباره، من الذي سيطعم الأفواه؟ من الذي سيكمل تعليم مروان ويشتري ملابس مي ويحمل خبزا لرياض وسلمى وحسن؟ من؟
انه رجل معدم، أنت تعرفين ذلك .. لقد كان طموحه كله .. كال طموحه، هو ان يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنوات ويسكن تحت سقف من اسمنت، كما كان يقول .. الآن، زكريا راح .. اماله كلها تهاوت .. احلامه انهارت .. مطامحه ذابت.. فماذا تعتقدين انه سيفعل؟
لقد عرض عليه صديقه القديم والد شفيقه ان يتزوجها. قال له انها تمتلك بيتا من ثلاث غرف في طرف البلد، دفعت ثمنه من لك النقود التي جمعتها لها منظمة خيرية.. وأبو شفيقة يريد شيئا واحدا: ان يلقي حمل ابنته-التي فقدت ساقها اليمنى اثناء قصف يافا- على كاهل زوج! انه على عتبة قبره ويريد ان يهبطه مطمئنا على مصير ابنته التي رفضها الجميع بسبب تلك الساق المبتورة من اعلى الفخذ.. لقد فكر والدي بالأمر: لو اجر غرفتين وسكن مع زوجته الكسحاء في الثالثة إذن لعاش ما تبقى له من الحياة مستقرا غير ملاحق بأيما شئ .. واهم من ذلك ..تحت سقف من اسمنت ..
-اتريد ان تبقى واقفا هنا إلى الابد؟
نفض رأسه وسار.. كان "أبو الخيزران"ينظر إليه من طرف حدقتيه، وخيل إليه انه على وشك ان يبتسم ساخرا.
-ما بالك تفكر بهذا الشكل؟ ان التفكير غير ملائم لك يا مروان، مازلت صغير السن .. والحياة طويلة..
وقف مرة اخرى والقى برأسه إلى الوراء قليلا:
-والآن .. ماذا تريد مني؟.
واصل "أبو الخيزران" المسير فلحق به من جديد:
-استطيع ان اهربك إلى الكويت ..
-كيف؟
هذا شاني أنا.. أنت تريد ان تذهب إلى الكويت اليس كذلك؟ ها هو ذا إنسان بوسعه ان ياخذك إلى هناك .. ماذا تريد غير ذلك؟
-كم ستأخذ مني؟
-هذا ليس مهما في الواقع ..
انه المهم.
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فانشقت شفتاه عن صفين من الاسنان الكبيرة الناصعة البيضاء ثم قال :
-ساخبرك الأمر بكل صراحة.. أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي: لا بأس من ان ارتزق فاحمل معي بعض من يريد ان يذهب إلى هناك..كم بوسعك ان تدفع؟
-خمسة دنانير..
-فقط؟
-لا املك غيرها.
-حسنا، ساقبلها ..
وضع أبو الخيزران يديه في جيبه ومضى يسير بخطوات واسعة حتى اوشك مروان ان يضيعه، فاضطر إلى اللحاق به مسرعا، الا ان أبا الخيزران وقف فجأة وهز اصبعه أمام فمه:
-ولكن! لا تقل ذلك لأي إنسان .. اعني إذا طلبت من رجل اخر عشرة دنانير فلا تقل له انني اخذت منك خمسة فقط..
-ولكن كيف تريدني ان اثق بك؟
فكر أبو الخيزران قليلا ثم عاد فابتسم تلك الابتسامة الواسعة وقال:
-معك حق! ستعطيني النقود في ساحة الصفاة في الكويت ..في العاصمة.. في منتصف العاصمة، مبسوط؟
-موافق!
-ولكننا سنحتاج إلى عدد اخر من المسافرين .. وعليك ان تساعدني، هذا شرط.
-انني اعرف واحدا ينزل معي في الفندق ويرغب في السفر.
-هذا رائع، أنا اعرف واحدا اخر .. انه من بلدتي في فلسطين أيام زمان قابلته صدفة هنا .. ولكنني لم اسالك ماذا تريد ان تفعل في الكويت .. هل تعرف احداً؟
وقف مرة اخرى، الا ان أبا الخيزران شده من ذراعه فعاد يخب إلى جانبه ..
-ان اخي يعمل هناك .
هز أبو الخيزران رأسه فيما كان يسير متعجلا ثم رفع كتفيه فغاصت عنقه وبدا اقصر من ذي قبل..
-وإذا كان اخوك يشتغل هناك .. فلماذا تريد أنت ان تشتغل؟ الذين في سنك مازالوا في المدارس! ..
-لقد كنت في المدرسة قبل شهرين، ولكنني اريد ان اشتغل الآن كي أعيل عائلتي..
وقف أبو الخيزران ثم رفع كفيه من جيبه وثبتهما على خصريه واخذ يحدق إليه ضاحكا..
-ها! لقد فهمت الآن .. اخوك لم يعد يرسل لكم نقوداً، اليس كذلك؟
هز مروان رأسه وحأول ان يسير، الا ان أبا الخيزران شده من ذراعه فاوقفه ..
-لماذا؟ هل تزوج؟
حدق مروان إلى ابي الخيزران مشدوها ثم همس:
-كيف عرفت؟
-ها! إلى لا يحتاج إلى ذكاءه خارق، كلهم يكفون عن ارسال النقود إلى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون ..
أحس مروان بخيبة أمل صغيرة تنمو في صدره، لا لانه فوجئ، بل لانه اكتشف ان الأمر شائع ومعروف، لقد كان يحسب انه يخنق صدره على سر كبير لا يعرفه غيره: حجبه عن أمه وعن أبيه طوال شهور وشهور .. وها هو الآن يبدو على لسان ابى الخيزران كانه قاعدة معروفة وبديهية..
-ولكن .. لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يتنكرون لـ…
صمت فجأة، كان أبو الخيزران قد بدا يضحك :
-أنا مبسوط انك ستذهب إلى الكويت لانك ستتعلم هناك اشياء عديدة .. أول شئ ستتعلمه هو ان: القرش ياتي أولا، ثم الاخلاق .
-حين تركه أبو الخيزران على امل لقاء بعد الظهر كان قد فقد –من جديد- كل تلك المشاعر الرائعة التي كانت تغسله، من الداخل طوال الصباح .. بل انه استغرب كيف تكون تلك الرسالة التي كتبها لامه قد اعطته الشعور الرائق الذي جعل خيبة امله تبدو اقل قيمة مما هي في الواقع .. رسالة سخيفة كتبها تحت وطاة الشعور بالوحدة والامل على سطح فندق حقير مرمي في طرف الكون.. ما هو الخارق في الأمر؟ أيحسب ان امه لا تعرف القصة كلها؟ ماذا كان يريد ان يقول؟ اكان يريد ان يقنعها بان هجران زوجها لها ولأولادها امر رائع وطبيعي؟
إذن لماذا كل تلك الثرثرة؟ انه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع.. ولكن هذا لا يغير شيئا من الحقيقة الراعبة .. الحقيقة التي تقول ان أباه قد هرب .. هرب .. هرب.. تماما كما فعل زكريا الذي تزوج وارسل له رسالة صغير قال له فيها ان دوره قد اتى، وان عليه ان يترك تلك المدرسة السخيفة التي لا تعلم شيئا وان يغوص في المقلاة مع من غاص..
كل عمره كان على طرفي نقيض مع زكريا.. بل انهما كأنا-في الواقع –يكرهان بعضهما .. زكريا لم يكن يستطيع ان يفهم قط لماذا يتوجب عليه ان يصرف على العائلة طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجئ إلى المدرسة مثل الاطفال.. وكان هو يريد ان يصبح طبيبا .. كان يقول لامه ان زكريا لن يفهم قط معنى ان يتعلم الإنسان لانه ترك المدرسة حين ترك فلسطين وغاص منذ ذاك، في المقلاة، كما يحب ان يقول.
وها هو الآن قد تزوج دون ان يقول ذلك لاحد غيره، كانه كان يريد ان يضعه أمام ضميره وجها لوجه .. ولكن ماذا ترك له ليختار. لا شئ غير ان يترك المدرسة ويعمل، يغوص في المقلاة من هنا وإلى الابد!
لا باس ! لا باس .. أيام قليلة ويصل إلى الكويت .. إذا ساعده زكريا كان ذلك افضل، إذا تجاهله فلسوف يعرف كيف يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى الكثيرون.. ولسوف يرسل كل قرش يحصله إلى امه، سوف يغرقها ويغرق اخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة الهية .. ويجعل أباه ياكل اصابعه ندما!
ورغم ذلك، فانه لا يكره أباه إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو ان أباه مازال يحبهم جميعا .. لقد تاكد من ذلك تماما حين ذهب إليه يودعه قبل ان يسافر، لم يقل لامه انه سيذهب إلى بيت شفيقة والا لكانت جنت .. قال له أبوه هناك:
-أنت تعرف يا مروان بان لا يد لي في إلى، هذا شئ مكتوب لنا منذ بدء الخليقة.
قالت شفيقة:
-قلنا لامك ان تاتي وتسكن هنا لكنها لم تقبل .. ماذا تريدنا ان نفعل أكثر من ذلك؟
كانت جالسة فوق بساط من جلد ماعز، وكان العكاز ملقى إلى جانبها، وفكر هو: "ترى أين ينتهي فخذها؟" كان وجهها جميلا ولكنه حاد الملامح مثل وجه كل أولئك المرضى الذي لا يرجى لهم الشفاء، وكانت شفتها السفلى مقوسة كانها على وشك ان تبكي ..
قال أبوه:
-خذ، هذه عشرة دنأينر .. قد تنفعك .. واكتب لنا دائما.
حين قام رفعت شفيقة ذراعها في الهواء ودعت له بالتوفيق، كان صوتها فاجعا وحين التفت إليها قبل ان يجتاز الباب بدأت تشهق بالبكاء . وقال له أبوه:
-وفقك الله يا مروان يا سبع.
وحاول أن يضحك إلى انه لم يستطع فاخذ يربت بكفه الكبيرة الخشنة على ظهره بينما تناولت شفيقة عكازها واستوت واقفة بحركة سريعة، كانت قد كفت عن البكاء.
صفق الباب وراءه وسار . كان مازال يسمع صوت عكاز شفيقة يقرع البلاط برتابة، وعند المنعطف تلاشى الصوت
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:52 مساءً   [3]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
الصفقة

الفصل الثالث
اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع إلى الخيزران، وصلا متاخرين قليلا فوجدا أبا الخيزران بإنتظارهما، جالسا مع ابي قيس فوق مقعد اسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.
-لقد اجتمعت العصابة كلها الآن، أليس كذلك؟
صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.
-هذا هو صديقك إذن .. ما اسمه؟
أجاب مروان باقتضاب:
-أسعد.
دعني إذن أعرفكما على صديقي العجوز .. "أبو قيس.."
وبهذا تكون العصابة قد اكتملت .. لا باس أن تزداد واحدا .. ولكنها الآن كافية أيضا.
قال أسعد:
-يبدو لي انك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟
-نعم، أنا .
-كيف؟
-هذا شأني أنا ..
ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:
-لا يا سيدي .. انه شاننا نحن .. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.
قال أبو الخيزران بصوت حاسم :
-سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك ..
قال أسعد :
-لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟
لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:
-ما رأي العم أبو قيس؟
قال أبو قيس:
-الرأي رأيكم ..
-ما رأيك يا مروان؟
-أنا معكم.
قال أسعد بعنف:
-إذن، دعونا نختصر الوقت .. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، اما مروان فانها تجربته الأولى . أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم ان اتفاوض عنكم؟
رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقا، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبى الخيزران ..
-لقد رأيت : الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا : إننا من بلد واحد. نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق،لا باس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل ..سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط..
قال أبو قيس:
-الأخ أسعد يحكي الحق .. يجب أن نكون على بينة من الأمر، وكما يقول المثل: ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .
رفع أبو الخيزران كفيه من جيبيه ووضعهما على خصريه، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قر قراره فوق وجه أسعد:
-أولا، كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون؟
قال أبو قيس:
-أنا موافق.
قال أسعد:
-أرجوك ..لقد سلمتني الأمر إذن دعني احكي ..
عشرة دنانير مبلغ كبير، إن المهرب المحترف يأخذ خمسة عشرة دينارا .. ثم..
قاطعه أبو الخيزران :
-لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلسا ..السلام عليكم .
أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا:
-لماذا غضبت؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر..
-حسنا، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا؟
-ها! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع .
جلس أبو الخيزران على مقعد الأسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعينا بيديه الطويلتين:
-لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود .. ها ! يجب أن تنتبهوا : إنها ليست سيارتي .. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة انني سائقها! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فانها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم..
كان أبو الخيزران سائقا بارعا، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنوات، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحس سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدوا الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها اثر هجوم يهودي .. ورغم انه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا انه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق . إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولاًت التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية .. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فان خيبة أمله كانت اكبر، ولكن أبا الخيزران –على أي حال –أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحج رضا في الكويت؟
لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحي موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص ..إلا أن الربيع كان خادعا، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة اثر الأخرى..
إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الو رائية في الوحل، أوقف سيارته وهبط ثم اقترب من الحج وقال له :
-ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ان أنتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من اربع ساعات، وفي هذا الوقت يكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته .
قال الحج رضا :
-تمام ! إن صوت محرك سيارتك ارحم من الوقوف هنا مدة أربع ساعات.
قاد أبو الخيزران سيارته الضخمة طوال ست ساعات فوق تلك الأرض الخادعة التي تبدو بيضاء صلدة بسبب طبقة رقيقة من الملح الذي جف على السطح، وكان أبو الخيزران، طوال الطريق، يحرك مقود سيارته حركات خفيفة وسريعة ذات اليمين وذات اليسار كي تستطيع العجلتان الأماميتان أن تفتحا طريقا اوسع قليلا من حاجتهما..
لقد سر الحج رضا للغاية من براعة أبى الخيزران وتحدث بذلك لكل أصدقائه طوال شهور .. وقد سر الحج أكثر حين نما إليه أن أبا الخيزران رفض عروضا عديدة للعمل عند سواه، بعد أن تفشت هذه الأخبار، واستدعاه وأثنى عليه ثم زوّد راتبه قليلا .. ما هو أهم من ذلك أن الحج رضا بات يشترط أن يكون أبو الخيزران رفيقا ضروريا لكل رحلة قنص أو سفر بعيد.
منذ أسبوع خرج الحج رضا في قافلة من سياراته إلى رحلة قنص أقامها خصيصا من اجل ضيوف ينزلون عنده، وقد كلف أبو الخيزران بقيادة سيارة الماء الكبيرة التي سترافق القافلة طوال الرحلة وتؤمن الماء الوفير للرجال أثناء الرحلة التي قد تستغرق أكثر من يومين .. لقد ضربت القافلة بعيدا في الصحراء حتى أن الحج رضا فضل أن يسلك في طرق عودته دروبا أخرى تصل به إلى الزبير، ومن الزبير يستطيع أن يسلك الطريق الرئيسي الذي يعود إلى الكويت .. كان من الممكن أن يكون أبو الخيزران الآن في الكويت، مع بقية القافلة لو لم يصب سيارته الكبيرة عطل صغير يضطره للبقاء في البصرة يومين آخرين حتى يصلحه، ثم يلحق بمن سبق .
-أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟
-بالضبط ! لقد قلت لنفسي : لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا، وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟
نظر مروان إلى آبي قيس، ثم إلى أسعد فنظرا إليه بدورهما متسائلين :
-اسمع يا أبا الخيزران .. هذه اللعبة لا تعجبني! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟في مثل هذا الحر من يستطيع ان يجلس في خزان ماء مقفل؟
-لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة ..هل تعرف ما الذي سيحدث؟ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين مترا، ساقف على الحدود اقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق اخرى، ثم هوب! ستجدون انفسكم في الكويت!
هز أسعد رأسه ثم حدق إلى الأرض لبرهة وقد قلب شفته السفلى، أما مروان فقد اخذ يتلهى بقصف عود جاف، وواصل أبو قيس التحديق إلى السائق طويل القامة.. وفجأة قال مروان :
-هل يوجد ماء في الخزان؟
انفجر أبو الخيزران ضاحكا وابتسم أسعد:
-طبعا لا .. ماذا تعتقد؟ هل أنا مهرب أم معلم سباحة؟
وكأنما راقت الفكرة لأبي الخيزران فقد مضى يقهقه ويضرب فخذيه بكفيه ويدور حول نفسه..
-ماذا تعتقد؟ هل أنا معلم سباحة؟أيها الصغير : أن الخزان لم ير الماء منذ ستة شهور!
قال أسعد بهدوء :
-حسبت انك كنت تنقل الماء في رحلة قنص قبل أسبوع؟
-أوف .. أنت تعرف، تعرف ماذا اقصد .
-لا، لا اعرف.
-اقصد منذ ستة أيام ..إن المرء يبالغ أحيانا .. والآن، هل اتفقنا؟..دعونا ننهي هذا الاجتماع الخطير ! .
وقف أبو قيس مهيئا نفسه للقول الفصل، ولكنه قبل أن ينطق دور بصره على الجميع وتوقف هنيهة وهو ينظر إلى أسعد كأنه يرجوه العون، ثم اقترب من أبي الخيزران.
-اسمع يا أبا الخيزران .. أنا رجل درويش ولا افهم بكل هذه التعقيدات .. ولكن قصة رحلة القنص تلك، لم تعجبني.
تقول انك حملت للحج رضا ماء، ثم تقول الآن أن خزان سيارتك لم يشم رائحة الماء منذ ستة اشهر . سأقول لك الحقيقة و وأرجو أن لا تغضب : أنا اشك في انك تملك سيارة ..
التفت أبو قيس للبقية ومضى يكمل بصوت خزين :
-أنا افضل أن ادفع خمسة عشر دينارا واذهب مع مهرب عن طريق الصحراء ..لا أريد مزيدا من المشاكل.
ضحك أبو الخيزران وقال بصوت عال:
-اذهب وجرب .. أتحسب أنني لا اعرف هؤلاء المهربين؟ سيتركونكم في منتصف الطريق ويذوبون مثل فص الملح ! . وأنتم بدوركم ستذوبون في قيظ آب دون أن يشعر بكم أحد .. اذهب .. اذهب وجرب.. قبلك جرب الكثيرون ..تريد أن أدلك؟ لماذا تحسب انهم يأخذون منكم المبلغ سلفا؟
-"ولكنني اعرف كثيرين وصلوا إلى هناك عن طريق المهربين ".
-"عشرة بالمئة على الأكثر..ثم اذهب واسألهم وسيقولون لك انهم اكملوا الطريق بلا مهرب وبلا دليل، وان حظهم قد ساعدهم على النجاة."
جمد أبو قيس في مكانه، وبدا للحظة انه موشك على السقوط ولاحظ مروان أن أبا يقيس يشبه والده إلى حد بعيد، فأشاح بوجهه عنه، لم يعد بوسعه أن يركز رأسه على موضوع واحد.. فيما مضى أبو الخيزران صائحا:
-يجب أن تقرروا بسرعة ! ليس لدي مزيد من الوقت لأضيعه، اقسم لكم بشرفي..
قال أسعد مقاطعا بهدوء
-اترك موضوع الشرف في ناحية أخرى .. الأمور تمضي بشكل افضل حين لا يقسم المرء بشرفه ..
التفت أبو الخيزارن إليه وقال:
-الآن يا سيد أسعد، أنت رجل ذكي ومجرب .. ما رأيك ..؟
-رأيي بماذا؟
-بكل شئ.
ابتسم أسعد ولاحظ أن أبا قيس ومروان ينتظران أن يسمعا قراره، فمضى يحكي ببطء وسخرية:
-أولا، اعفينا من تصديق قصة رحلة القنص ! .يبدو لي أن الحج رضا وجنابك تعملان بالتهريب.. عفوك قليلا، دعني اكمل.. الحج رضا يعتقد ان تهريب الاشخاص في طريق العودة امر تافه، لذلك يتركه لك، اما أنت فتترك له بالمقابل تهريب الامور الاهم.. وبنسبة من الارباح المعقولة، ام تراه لا يعرف انك تهرب اشخاصا في طريق العودة؟
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فبانت أسنانه البيضاء النظيفة من جديد وبدا انه لا يريد أن يجيب أسعد .. قال مروان فجأة:
-وقصة القنص؟
-أوه! قصة القنص معدة لرجال الحدود، ليس لنا ولكن أبا الخيزران لا يجد باسا من أن يرويها..
اتسعت ابتسامة آبي الخيزران أكثر من قبل واخذ يبادل الرجال النظر دون أن يتكلم .. وبدا، للحظة، انه غبي .
قال أبو قيس:
-ولكن ماذا يهرب الحج رضا؟لقد قلت انه رجل ثري! .
نظر الجميع إلى آبي الخيزران الذي كف، فجأة، عن الابتسام وعاد وجهه يكتسي بطابع اللامبالاة والتسلط ثم قال بحزم:
-والآن كفوا عن الثرثرة.. يجب أن لا تعتقد يا سيد أسعد انك ذكي إلى هذا الحد.. ماذا قررتم؟
قال أسعد بهدوء؟
-أنا شخصيا لا اهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك فانه لا يعنيني .. ولذلك فإنني سأسافر مع آبي الخيزران .
قال مروان بحماسة:
-وأنا سأسافر معكما.
قال أبو قيس:
-هل تعتقدون انه بوسعي أن أرافقكم، أنا رجل عجوز .. ضحك أبو الخيزران بعنف ثم شبك ذراعه بذراع ابى قيس : -له ! له! يا أبا قيس .. من الذي اوهمك انك عجوز إلى هذا الحد؟ ربما ام قيس ! له! يجب ان تاتي معنا..
كانا قد سارا خطوات قليلة معا وتركا مروان وأسعد واقفين إلى جانب مقعد الاسمنت الكبير، التفت أبو الخيزران من فوق كتفه وصاح :
-سينام أبو قيس معي في السيارة .. وسأزمر لكما صباح غد الباكر أمام الفندق
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:54 مساءً   [4]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
الطريق


الفصل الخامس


لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجاً كثيراً .. فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هوادة فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر.. كان أبو قيس قد صعد مع مروان إلى فوق وجلسا على حافة الخزان متجاورين أما أسعد فقد رست عليه القرعة ليجلس إلى جانب السائق في الفترة الأولى من الرحلة .
قال أسعد محدثاً نفسه:
-"سوف يأتي دور العجوز أخيراً ليستظل هنا .. ولكن لا بأس، على أي حال، فان الشمس تبقى محتملة الآن .. أما عند الظهيرة فسيكون حظ العجوز حسناً.."
قال أبو الخيزران فجأة، بصوت عال ليسمع عبر هدير المحرك :
-هل تتصور؟ .. إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار ..فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود..
انفجر أبو الخيزران ضاحكاً كأنه لم يكن هو الذي قال ذلك، ثم أخذ يضرب المقود بكلتا يديه ويهز رأسه ..
-أتعرف؟ إنني أخاف أن تفطس البضاعة، هناك ..
أشار بعنقه إلى حيث يجلس العجوز مع مروان فوق الخزان ومضى يضحك بعنف..
قال أسعد بهدوء:
-قل لي يا أبا الخيزران .. ألم تتزوج أبداً؟
-أنا؟
سأل بعجب، واكتسى وجهه الهزيل بالأسى كأنه لم يكن يضحك قبل هنيهة .. ثم قال ببطء:
-لماذا تسأل؟
-لا لشيء معين ..كنت أقول لنفسي إن حياتك رائعة ..لا أحد يشدك من هنا ولا أحد يشدك من هناك.. وتطير أنت منفردا حيث شئت، تطير .. تطير.. تطير..
هز أبو الخيزران رأسه ثم ضيق جفنيه كي يتلافى ضوء الشمس الذي انصب، فجأة، فوق زجاج الواجهة.. كان الضوء ساطعا بحدة حتى انه لم يستطع، بادئ إلى، أن يرى شيئاً .. إلا انه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه، ثم استطاع أن يتبين، بعد لأي، أن ساقيه مربوطتان إلى حمالتين ترفعانهما إلى فوق وان عددا من الرجال يدور حوله .. اغمض عينيه برهة ثم فتحهما، مرة أخرى، على وسعيهما. كان الضوء المستدير الموضوع فوق رأسه يحجب عنه السقف ويعشي بصره.. ولم يستطع أن يتذكر، وهو مقيد هناك على ذلك الشكل المحكم والغريب، أكثر من شئ واحد حدث له منذ برهة، ليس غير .. كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجرت جهنم أمامه فسقط على وجهه .. هذا كل شئ، والآن، الألم الفظيع مازال يغوص بين فخذيه والضوء المستدير الضخم معلق فوق عينيه وهو يحاول أن يرى إلى الأمور والأشخاص مضيقا جفنيه قدر ما يستطيع .. وفجأة خطر له خاطر اسود فبدا يصيح بجنون، ليس يذكر ما الذي قاله حينذاك، ولكنه أحس بيد تطبق فوق فمه بعنف، كانت تلبس قفازا لزجا .. ووصله الصوت، كأنما عبر قطن :
-كن عاقلا ..كن عاقلا..إن ذلك على أي حال افضل من أن تموت ! ..
ليس يدري هل استطاعوا أن يسمعوه وهو يصيح من بين أسنانه واليد اللزجة مطبقة فوق فمه. أم أن صوته ضاع في حلقه؟ انه، على أي حال، مازال يسمع الصوت نفسه كأن إنساناً آخر كان يصيح في أذنيه:
-لا ..الموت افضل.
والآن ..مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه..
مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يوما وراء يوم وساعة اثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر، ورغم ذلك فانه لم يعتده قط، لم يقبله قط .. عشر سنوات طوال، وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبا لكل شئ في هذا الكون الملعون ..
كلا انه لم يقبل، بعد عشر سنوات، أن ينسى مأساته ويعتادها .. بل انه لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بان فقدان الرجولة ارحم من فقدان الحياة .. يا اله الشياطين، انهم لا يعرفون ذلك قط، لا يعرفون شيئا ثم يتنطعون لتعليم الناس كل الأشياء .. أتراه لم يقبل أم انه كان عاجزا عن القبول؟ منذ اللحظات الأولى كان قد قرر أن لا يقبل، نعم، هذا هو الصحيح بل انه كان عاجزا عن تصور إلى بتمامه حتى انه، بلا وعي، هرب من المستشفى قبل أن يشفى نهائيا .. كأن هروبه كان قادرا على تسوية الأمور من جديد، لقد احتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد مجرد الحياة .. ولكن، تراه اعتادها . ليس بعد .. كلما سئل بشكل عابر : "لماذا لا تتزوج؟ "عاد إليه الإحساس الكريه بألم يغوص بين فخذيه كأنه ما زال ملقى تحت الضوء المستدير الساطع وساقاه مرفوعتان إلى فوق.
كان الضوء متوهجا وساطعا حتى أن عينيه بدأتا تدمعان، عندها مد أسعد بيده فانزل حاجبة الشمس المستطيلة ليقع الظل على وجه أبى الخيزران:
-"نعم، أن هذا افضل .. شكرا .. أتعرف؟.
إن أبا قيس رجل محظوظ! " أحس أسعد بان أبا الخيزران يريد تغيير موضوع الزواج الذي أثاره بسؤاله فاستجاب لذلك ببساطة:
-لماذا؟
-لو قدر له أن يذهب مع المهربين لكان وصوله إلى الكويت بمثابة أعجوبة لا أكثر ولا اقل.
كتف أبو الخيزران ذراعيه على المقود واتكأ بصدره فوقهما ..
-أنت لا تعرف كيف تجري الأمور هنا .. كلكم لا تعرفون .. اسألني أنا .. اسألني، إنني اعرف قصصا يبلغ عددها عدد شعر القط!
-إلى الرجل السمين يبدو طيبا .. لقد ملت إليه.
انزل أبو الخيزران رأسه ومسح عرق جبينه بكمه المتكئ على المقود وقال :
-هه! إلى الرجل السمين لا يذهب معك عبر الحدود وهو لا يعرف ماذا يحدث ..
-ماذا يحدث؟
-لي ابن عم يدعى حسنين، هرب مرة عبر الحدود، وبعد مسير أكثر من عشر ساعات، حل الظلام .. عندها أشار المهرب إلى مجموعة من الأضواء البعيدة وقال : تلك هي الكويت..
تصلونها بعد مسير نصف ساعة.. أتدرى ما الذي حدث؟ لم تكن تلك الكويت .. كانت قرية عراقية نائية! أستطيع أن اروي لك آلافا من القصص المشابهة. قصص رجال تحولوا إلى كلاب وهم يبحثون عن نقطة ماء واحدة يغسلون بها ألسنتهم المشققة.. وماذا تحسب انه حدث حين شاهدوا خيام البدو؟ لقد اشتروا جرعة الماء، بكل ما يملكون من نقود أو خواتم زواج أو ساعات .. يقولون أن حاتم كان بدويا .. ولكنني اعتقد أنها مجرد كذبة ! .. ذلك زمن راح يا أبا السعد .. راح .. ولكنكم لا تدركون ذلك .. تحسبون أن الرجل السمين بوسعه أن يعمل كل شئ .. اعرف رجلا عاش في الصحراء وحيدا مدة أربعة أيام، وحين التقطته سيارة على طريق الجهرة كان على وشك أن يلفظ آخر أنفاسه .. أتدرى ماذا فعل؟ كان يريد شيئا واحدا من كل هذه الحياة.. كان يريد أن يعود إلى البصرة فور أن يسترد صحته، ويعود إليها عبر الصحراء أيضا إذا لزم الأمر .. أتعرف لماذا؟ قال لي انه يريد العودة إلى هناك كي يطبق بكفيه حول عنق الرجل السمين ويخنقه، ثم لتقم القيامة .. كان قد بدأ رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه، من غزة، عبر إسرائيل، عبر الأردن، عبر العراق .. ثم تركهم المهرب في الصحراء، وهم لم يعبروا حدود الكويت .. لقد دفن صديقيه بتلك الأراضي المجهولة وحمل معه هويتهما على أمل أن يصل إلى الكويت، فيرسلهما إلى أهليهما. لم يكن يريد لأحد أن ينصحه .. كان يقول انه لا يريد أن ينسى ولا يريد أن يغفر وبعد مرور اقل من شهر عاد أدراجه إلى العراق، ولكنهم القوا القبض عليه .. وهو الآن يمضي سنته الثانية في سجن حقير .. ماذا تراك تحسب؟ تأتون إلينا من المدارس مثل الأطفال وتحسبون أن الحياة هينة .. أتحسب أن أبا قيس لم يكن يقامر بحياته .. وسوف يكون هو الخاسر ! . أنا متأكد من ذلك تأكدي من الشمس الملعونة هذه!غدا حين تصل إلى الكويت ستتذكرني بالخير وتقول : كان أبو الخيزران يحكي الصحيح، ثم تحمد ربك ألف مرة لأنني أنقذتك من أظافر الرجل السمين .. هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟
-ماذا قلت؟
-سألتك : هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟
-كلا…
دوّر أبو الخيزران مقود سيارته بعنف ليتجاوز حفرة واسعة في الرمل، ثم بدأت السيارة تخب وترتجف فوق طريق تشبه الدرج المنبسط، أحس أسعد أن أمعاءه على وشك إلى تقفز من بين أسنانه المصطكة .
-كنت سترى الكثير منها لو مشيت مع المهربين .. وعلى أي حال، سوف لن يعني ذلك شيئا…
-لماذا؟
-لأنك ستكون مشغولا عن التفكير به .. أو، مثلما قال حسنين، لأنك لا تريد أن تفكر به ..
ابتسم أسعد ببلاهة، لمجرد انه لا يعرف ماذا يتعين عليه أن يفعل،ثم سأل وهو يلكز أبا الخيزران في خاصرته:
-لماذا تعمل إذن في التهريب؟
-أنا؟ أنا لا اعمل في التهريب…
ضحك أسعد وضرب كفه فوق فخذ أبى الخيزران :
-إذن ماذا تسمي هذا؟
-أقول لك الحقيقة؟ إنني أريد مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. ولقد اكتشفت انه من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب ..أترى هذا المخلوق الحقير الذي هو أنا؟ أنني امتلك بعض المال! .. وبعد عامين سأترك كل شئ واستقر .. أريد أن استريح .. أتتمدد .. استلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر .. لا أريد أن أتحرك قط .. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف! إي والله، أكثر من كاف..
أطفأ أبو الخيزران المحرك بسرعة، وفتح الباب ثم قفز إلى الأرض .. واخذ يصيح:
-لقد بدأ الجد .. هيا.. سأفتح لكم باب الخزان .. هاها! سيكون الطقس كالآخرة، هناك في الداخل…
صعد بخفة فوق السلم الحديدي الصغير واخذ يعالج باب الخزان المستدير وفكر مروان ببطء: "إن ذراعيه قويتان.." كانوا يتصببون عرقا، إلا أن قميص أبى الخيزران كان مبتلا تماما وكان وجهه يبدو كأنه مطلي بالوحل .
انفتح الباب مقرقعا ورفع أبو الخيزران طرف القرص الحديدي إلى فوق فاستوى واقفا فوق مفصله وبدا باطنه احمر من فرط الصدأ .. جلس أبو الخيزران إلى جانب الفوهة موسعا ما بين ساقيه المدلاتين واخذ يمسح عرقه بالمنديل الأحمر الذي يلفه على مؤخرة رقبته، تحت قبة القميص الأزرق، وكان يلهث:
-أنصحكم أن تنزعوا قمصانكم .. الحر خانق ومخيف هنا وسوف تعرقون كأنكم في المقلى .. ولكن.. لخمس دقائق أو سبع، وسوف أقود بأقصى ما أستطيع من السرعة …توجد في الداخل عوارض حديدية .. في كل زاوية عارضة .. إنني افضل أن تتمسكوا بها جيدا وإلا تدحرجتم كالكرات.. طبعا ستخلعون أحذيتكم ..
بقي الجميع واقفين على الأرض دون حراك، نهض أبو الخيزران ثم قفز إلى تحت وكان يحاول أن يضحك:
-بوسع المرء أن ينام في الداخل لو كان الطقس ارحم قليلا .. نظر أبو قيس إلى مروان ثم نظر كلاهما إلى أسعد .. الذي خطا-تحت تأثير تلك النظرات –خطوتين صغيرتين إلى الأمام، ثم عاد، فوقف من جديد، وكان أبو الخيزران يراقبه.
-أنصحكم أن تعجلوا قليلا ..إننا ما زلنا في مطلع النهار وبعد قليل سيصبح الخزان من الداخل فرنا حقيقيا .. بوسعكم إلى تأخذوا معكم مطارة، ولكن لا تستعملوها حين تحسون أن السيارة واقفة..
حسم مروان رأيه فاقترب متسرعا من السلم الحديدي، إلا أن أسعد سبقه فتسلق العجل ثم انحنى فوق الفوهة المفتوحة واسقط رأسه داخل الخزان لبرهة وجيزة، ثم عاد فرفعه :
-هذه هي جهنم! إنها تتقد!
قال أبو الخيزران وهو يفرش كفيه الكبيرتين :
-لقد قلت لكم ذلك من قبل ..
كان مروان قد وصل هو الآخر ودس رأسه داخل الفوهة ثم عاد فرفعه وقد ارتسمت على وجهه علائم الاشمئزاز والرعب أما أبو قيس فقد وصل إلى جانبهما لاهثا .. وصاح أبو الخيزران من تحت:
-أتعرفون ماذا تفعلون إذا راود أحدكم العطاس؟
ابتسم أسعد ابتسامة باهتة بينما نظر مروان إلى تحت وبدا أن أبا قيس لم يفهم السؤال ..
-ليضع إصبعه تحت منخريه مستقيما .. هكذا ..
مثل أبو الخيزران الحركة فبدا وجهه مضحكا، وقال أسعد وهو يخطو إلى الأمام:
-لا اعتقد أن أحدنا سيعطس في هذا الفرن ..لا تقلق من هذه الناحية..
وضع أسعد كفيه على خاصرتيه ووقف إلى جانب الفوهة مطأطئا رأسه وكأنه يريد أن يرى ماذا يوجد في الداخل .. بينما خلع أبو قيس قميصه ولفه باعتناء تحت إبطه، وبدا صدره مشعرا شائبا وعظام كتفيه بارزة إلى الأمام ..جلس على حافة الفوهة مدليا ساقيه داخلها. رمى بقميصه أولا، ثم بدأ ينزلق بطيئا مستقيما معتمدا على ذراعيه المشدودتين فوق حافة الفوهة حتى إذا ما لمست قدماه ارض الخزان أرخى ذراعيه وجعل جسده ينساب باعتناء، فغاص رأسه ثم توارت ذراعاه..
قوس أسعد جسده وصاح:
-كيف ترى الأمور؟
دوّى صوت عريض من الداخل كأنه آت من عمق سحيق :
-انه بئر ملعونة .. تعال.
نظر أسعد إلى مروان الذي خلع قميصه ووقف ينتظر بينما بدأ أبو الخيزران يتسلق السلم الحديدي من جديد.
-دور من؟
-دوري.
توجه مروان إلى الفوهة أدار لها ظهره .. انزل ساقيه أولا جاعلا بطنه فوق الحافة ثم انزلق الجسد ببراعة، وبقيت الكفان متمسكتين بإطار الفوهة لبرهة، ثم اختفتا.
لحق أسعد بزميليه دون أن يخلع قميصه، وحين وارته الفوهة انحنى أبو الخيزران محاولاً أن يرى الوضع في الداخل إلا انه لم ير شيئا، في كل مرة كان يطل بها كان جسده يحجب الضوء المتسلل من الفوهة فتتعذر الرؤيا، وأخيرا صاح:
-ها؟
وأجابه صوت عريض :
-ماذا تنتظر؟ عجل، إننا على وشك الاختناق‍‍‍
‍اغلق أبو الخيزران الغطاء بسرعة ودوّر يده المضلعة دورتين ثم انحدر راكضا إلى مقعده، وبدأت السيارة، قبل أن يغلق الباب، تلتهم الطريق.
في تلك الدقائق القليلة كانت، ثمة، فكرة واحدة تحوّم في راس أبى الخيزران، ليس غير.
إن الطريق المحفّرة، التي تشبه درجا منبسطا، تهز السيارة وترجفها بلا هوادة و بلا انقطاع..إن هذا الهزيز جدير بان يجعل البيض عجة في وقت اقل مما تستطيع الخفاقة الكهربائية أن تفعل .. لا بأس بذلك بالنسبة لمروان فهو فتى، ولا بأس بذلك بالنسبة لأسعد فهو قوي البنية ..ولكن، ماذا عن أبى قيس؟ لا شك أن أسنانه تصطك الآن مثل إنسان على وشك أن يموت من شدة الصقيع، ولكن الفرق انه ليس ثمة صقيع هنا.
بوسع أبى الخيزران أن يتلافى بعض هذا الهزيز لو زاد من سرعته أكثر .. لو جعل هذه الدبابة الجهنمية تسير بسرعة مئة وعشرين بدل التسعين التي يشير لها المؤشر الآن .. ولكن إذا فعل ذلك من يضمن أن لا تنقلب السيارة فوق مثل هذه الطريق الملعونة؟ لا بأس أن تنقلب السيارة، فهي ليست له، ولكن ماذا لو استقرت على قفاها؟ ثم من قال أن محرك السيارة يتحمل مثل هذه السرعة في مثل هذا الجو وهذه الأرض؟ انهم يضعون دائما على المؤشر أرقاما عالية ليس من الحكمة إلى يبلغها السائق الماهر ..
لم يخفف السرعة حين وصل إلى صفوان، بل انه –حين دوّر في الساحة متجها إلى اليسار حيث يقوم المخفر لم يرفع قدمه عن مضغط البنزين قيد شعرة بل جعلها دورة واسعة نثرت الغبار في حلقة واسعة .. ولم يرفع قدمه إلا حين ضغط المكبح أمام باب الخفر بعنف، ومرق كالسهم إلى الداخل.
ساحة الجمرك ساحة رملية واسعة في صفوان تتوسطها شجرة كبيرة يتيمة تتهدل أوراقها المتطاولة فترمي ظل واسعا في الساحة .. وعلى الأطراف تنتصب حجرات ذات أبواب خشبية واطئة في داخلها مكاتب مكتظة ورجال مشغولون دائما .. لم يلحظ أبو الخيزران، وهو يقتحم الساحة بقده المديد، سوى بعض النسوة الجالسات في ظل الشجرة ملتفعات بالعباءات، كان ثمة طفل أو طفلان يقفان إلى جانب صنبور المياه وكان الحاجب دائما فوق كرسي القش العتيق.
-أبو الخيزران متعجل اليوم!
-نعم ..الحج رضا ينتظر.. إذا تأخرت طردني.
-الحج رضا لن يطردك، لا تخف..لا يمكن أن يعثر على شاب مثلك .
-هه! الشباب يملأون الأرض كالفقع ..لو اشر بيديه لتهاووا فوقه كالذباب.
-ماذا تحمل معك؟
-أسلحة! دبابات! ومصفحات! وست طائرات ومدفعين..
انفجر الرجل ضاحكا من أعماقه وتناول أبو الخيزران الأوراق من تحت يديه بخفة وانطلق إلى الخارج .. قال في ذات نفسه وهو يدخل إلى غرفة آخر:"اصعب المراحل انتهت"
بعد دقيقة واحدة خرج من الغرفة الأخرى .. وبأقل من لمح البصر كان يدوّر المحرك فيمزق السكون الضارب فوق صفوان، وينطلق إلى الطريق من جديد.
فيما كانت السيارة تنطلق كالسهم تاركة وراءها خطا من غيوم الغبار كان أبو الخيزران ينزف عرقا غزيرا يصب في وجهه المغبر ممرات متشعبة تلتقي عند ذقنه ..كانت الشمس ساطعة متوهجة وكان الهواء ساخنا مشبعا بغبار دقيق كأنه الطحين : "لم أر في حياتي مثل هذا الطقس اللعين .."فك أزرار قميصه فلامست أصابعه شعر صدره الغزير المبتل.. كانت الطريق قد استوت، ولم تعد السيارة ترجف شانها من قبل فزاد من سرعته – كان المؤشر يندفع إلى الأمام ككلب ابيض مربوط إلى وتد.
نظر إلى الأمام بعينيه الغارقتين في عرقه فتبين نهاية الهضبة الصغيرة .. وراء هذه الهضبة تحتجب صفوان، وهناك يتعين عليه أن يقف .
زوّد ضغط قدمه فوق المضغط كما تتسلق السيارة الهضبة دون إلى تتباطأ، أحس بان عضلة ساقه قد تكوّرت حتى أوشكت أن تتمزع، الأرض تنطوي والسيارة تزأر، والزجاج يتوهج والعرق يحرق عينيه، وما تزال قمة الهضبة تتراءى له بعيدة كالأبد .. يا الهي العزيز العلي القدير، كيف يمكن لقمة هضبة ما أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوّث بالوحل عرقا مالحا؟ يا الهي العلي الذي لم تكن معي أبداً، الذي لم تنظر إلى أبداً ـ الذي لا أومن بك أبداً. أيمكن أن تكون هنا هذه المرة؟ هذه المرة فقط؟
رفّ عينيه رفات سريعة ليغسل العرق عن جفنيه، وحين فتحهما آخر مرة كانت قمة الهضبة قد صارت أمامه ..
وصل إلى أعلاها فأطفأ المحرك وترك السيارة تنزلق قليلا ثم أوقفها وقفز من الباب إلى ظهر الخزان.
خرج مروان أولا : رفع ذراعيه فأنتشله أبو الخيزران بعنف وتركه مفروشا فوق سطح الخزان .. اطل أبو قيس برأسه ثم حاول أن يخرج إلا أنه لم يستطع، عاد فاخرج ذراعيه وترك أبا الخيزران يساعده .. أما أسعد فقد استطاع أن يتسلق الفوهة : كان قد خلع قميصه.
جلس أبو الخيزران فوق سطح الخزان الساخن : كان يلهث وبدا انه قد كبر عن ذي قبل.. بينما انزلق أبو قيس ببطء فوق العجلات واستلقى في ظل السيارة منبطحا على وجهه . وقف أسعد هنيهة يتنشق بملء صدره . كان يبدو انه يريد أن يتكلم إلا انه لم يستطع .. وأخيرا قال لاهثا :
-أووف! الطقس هنا في غاية البرودة!
كان وجهه محمرا ومبتلا، وكان بنطاله مغسولا بالعرق أما صدره فقد انطبعت عليه علائم الصدأ فبدا وكانه ملطخ بالدم .. نهض مروان وهبط السلم الحديدي بإعياء .. كانت عيناه حمراوين وكان صدره مصبوغا بالصدا وحين وصل إلى الأرض وضع رأسه فوق فخذ أبى قيس ومدد جسده ببطء إلى جانب العجل .. بعد لحظة تبعه أسعد ثم أبو الخيزران فجلسا واضعين راسيهما فوق ركبهما المطوية.. قال أبو الخيزران بعد فترة :
-هل كان الأمر مخيفا؟
لم يجبه أحد .. فدوّر نظره فوق وجوههم فبدت له وجوها صفراء محنطة، ولولا أن صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخيل إليه إذن انهما ميتان..
-قلت لكم سبع دقائق …ورغم ذلك لم يستغرق الأمر أكثر من ست.
نظر إلى أسعد ببرود بينما فتح مروان عينيه دون أن ينظر إلى شئ معين ودوّر أبو قيس وجهه إلى الناحية الأخرى.
-اقسم لك بشرفي : ست دقائق ! انظر إلى الساعة يا أسعد:
ست دقائق بالضبط! انظر! لماذا لا تريد أن تنظر؟ لقد قلت لكما ذلك، قلته منذ البدء، وأنتم تعتقدون الآن أنني اكذب عليكم .. هاهي الساعة..انظر..انظر.
رفع مروان رأسه ثم استند على عضديه واخذ ينظر، ملقيا برأسه بعض الشيء إلى الوراء، باتجاه أبى الخيزران ..لم يكن يبدو انه يراه بوضوح..
-هل جربت أن تجلس هناك ست دقائق؟
-لقد قلت لكم..
-ثم أنها لم تكن ست دقائق .
-لماذا لا تنظر إلى ساعتك ..لماذا؟ إنها في رسغك، هيا انظر..انظر..وكف عن التحديق بي كالمجنون.
قال أبو قيس:
-إنها ست دقائق..كنت طوال الوقت اعد.. من الواحد إلى الستين:دقيقة، هكذا حسبت .. عددت ست مرات .. في المرة الأخيرة عددت ببطء شديد..
كان يتكلم بصوت منخفض وببطء .. فقال أسعد:
-ماذا بك يا أبا قيس؟ هل أنا مريض؟
-أنا؟ أنا؟ أوف، كلا..ولكنني أتنفس حصتي من الهواء.
وقف أبو الخيزران ونفض عن بنطاله الرمل ثم ثبت كفيه فوق خاصرتيه واخذ ينقل بصره بين الرجال الثلاثة :
-هيا بنا .. يجب أن لا نضيع وقتا أكثر .. أمامكم حمام تركي آخر بعد فترة وجيزة.
نهض أبو قيس واتجه إلى غرفة السائق بينما تسلق أسعد السلم الحديدي وبقي مروان جالسا في الظل.
قال أبو الخيزران:
-ألا تريد أن تنهض؟
-لماذا لا تستريح قليلاً؟
صاح أسعد من فوق:
-سنستريح كثيراً بعد أن نصل وليس قبل ذلك .. هيا… ضحك أبو الخيزران بصوت عال .. ثم ضرب بكفه فوق كتف مروان وقال:
-تعال اجلس إلى جانب أبى قيس، انك نحيل ولن تضايقنا كثيرا.ثم انك، كما يبدو، متعب جدا .
صعد مروان فجلس إلى جانب أبى قيس بينما صاح أبو الخيزران بصوت عال قبل أن يغلق الباب:
البس قميصك يا أسعد والا شوتك الشمس ..
قال مروان لابي الخيزران بصوت موهن:
-قل له أن يترك باب الفرن مفتوحا عله يبترد.
صاح أبو الخيزران جذلا:
-واترك باب الخزان مفتوحا..
هدر المحرك ومضت السيارة الكبيرة ترسم في الصحراء خطا من الضباب: يتعالى، ثم يذوب في القيظ..
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:56 مساءً   [5]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
الشمس و الظل

الفصل السادس

شق العالم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة .. كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد احد منهم يهتم بتجفيف عرقه ..فرش أسعد قميصه فوق رأسه وطوى ساقيه إلى فخذيه وترك للشمس إن تشويه بلا مقاومة .. اما مروان فقد اتكا برأسه على كتف أبى قيس واغمض عينيه .. وكان أبو قيس يحدق إلى الطريق مطبقا شفتيه باحكام تحت شاربه الرمادي الكث.
لم يكن أي واحد من الاربعة يرغب في مزيد من الحديث .. ليس لان التعب قد انهكهم فقط بل لان كل واحد منهم غاص في افكاره عميقا عميقا .. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وباحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم و ماضيهم ومستقبلهم.. كما لو انها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول .. وكانت العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية.
سوف يكون بوسعنا أن نعلم قيسا وان نشتري عرق زيتون أو عرقين، وربما نبني غرفة نسكنها وتكون لنا، أنا رجل عجوز قد اصل وقد لا اصل .. أو تحسب إذن أن حياتك هنا افضل كثيرا من موتك؟ لماذا لا تحأول مثلنا؟لماذا لا تنهض من فوق تلك الوسادة وتضرب في بلاد الله بحثا عن الخبز؟هل ستبقى كل عمرك تأكل من طحين الإعاشة الذي تهرق من أجل كيلو واحد منه كل كرامتك على أعتاب الموظفين؟
و تمضي السيارة فوق الأرض الملتهبة ويدوي محركها بلا هوادة ..
شفيقة امرأة بريئة .. كانت صبية يافعة حين طوحت قنبلة مورتر بساقها فبترها الاطباء من أعلى الفخذ.. وأمه لا تحب أن يحكي إنسان عن أبيه : زكريا راح.. هناك، في الكويت، ستتعلم كل شئ .. ستعرف كل شئ .. أنت مازلت فتى لا تفهم من الحياة إلا قدر ما يفهم الطفل الرضيع من بيته ! المدرسة لا تعلم شيئا .. لا تعلم سوى الكسل فاتركها وغص في المقلاة مثلما فعل سائر البشر.
السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويدوي محركها بهدير شيطاني..
ربما كانت قنبلة مزروعة في الأرض تلك التي داس عليها فيما كان يركض، أو ربما قذفها، أمامه، رجل كان مختبئا في خندق قريب، كل ذلك لا يهم الآن : ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه مازالتا فوق السرير الابيض المريح والألم الرهيب يتلولب بين فخذيه .. كانت، ثمة،، امرأة تساعد الاطباء، كلما يتذكر ذلك يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية؟ لقد صرفت حياتك مغامرا، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة ! وما الذي افدته؟ليكسّر الفخار بعضه :أنا لست أريد الآن إلا مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.
السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة .. ويدوي محركها بالهدير.
دفعه الشرطي أمام الضابط فقال له : تحسب نفسك بطلا وأنت على اكتاف البغال تتظاهرون في الطريق! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرك فيما اخذت البصقة تسبل ببطء نازلة من جبينه : لزجة كريهة تتكوم على قمة انفه ..أخرجوه، وحينما كان في الممر سمع الشرطي القابض على ذراعه بعنف يقول بصوت خفيض:"يلعن أبو هالبدلة" .. ثم اطلقه فمضى يركض. عمه يريد أن يزوجه ابنته ولذلك يريده أن يبدأ ..لولا ذلك لما حصل الخمسين دينارا كل حياته.
السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويهدر محركها مثل فم جبار يزدرد الطريق..
الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قبة عريضة من لهب ابيض، وشريط الغبار يعكس وهجا يكاد يعمي العيون..كانوا يقولون لهم أن فلأنا لم يعد من الكويت لأنه مات، قتلته ضربة شمس، كان يغرس معوله في الأرض حين سقط فوقه وفوقها، وماذا؟ضربة شمس قتلته، تريدون أن تدفنوه هنا أو هناك؟هذا كل شئ، ضربة شمس ! هذا صحيح، من الذي سماها ضربة؟ ألم يكن عبقريا؟كان هذا الخلاء عملاق خفي يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي . ولكن أيمكن للشمس إلى تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم؟كأن الافكار كانت تسيل من رأس إلى رأس وتخفق بهواجس واحدة، لقد التقت العيون فجأه : نظر أبو الخيزران إلى مروان ثم إلى ابي قيس فوجده يحدق به ,حاول أن يبتسم ولكنه لم يستطع فمسح عرقه جبينه بكمه وقال بصوت خفيض:
-هذه جهنم التي سمعت عنها.
جهنم الله.
-نعم.
مدّ أبو الخيزران يده فأطفا المحرك، ثم نزل ببطء فتبعه مروان وأبو قيس بينما بقي أسعد معلقا فوق .
جلس أبو الخيزران في ظل السيارة وأشعل لفافة ثم قال بصوت خفيض:
-لنستريح قليلا قبل إلى نبدأ التمثيلية مرة أخر.
قال أبو قيس :
-لماذا لم تتحرك بمساء أمس فتوفر علينا برودة الليل وكل هذه المشقة؟
قال أبو الخيزران دون أن يرفع بصره عن الأرض:
-الطريق بين صفوان والمطلاع تمتلئ بالدوريات في الليل..
في النهار لا يمكن لأية دورية أن تغامر بالاستطلاع في مثل هذا القيظ..
قال مروان:
-إذا كانت سيارتك معصومة عن التفتيش.. فلماذا لا نبقى خارج ذلك السجن الرهيب؟
قال أبو الخيزران بحدة :
-لا تكن سخيفا .. هل أنت خائف إلى هذا الحد من البقاء خمس أو ست دقائق في الداخل؟لقد اجتزنا أكثر من نصف الطريق ولم يبق إلا الأسهل ..
نهض أبو الخيزران واقفا ثم اتجه إلى المطّارة المعلقة خارج الباب وفتحها:
-سوف أقيم لكم حفلة غداء رائعة حين نصل .. سأذبح دجاجتين ..
رفع المطّارة وصب في فمه الماء فبدأ يسيل من ركنيه مزرزبا إلى ذقنه ثم إلى قميصه المبتل، وحين إرتوى صب ما تبقى في المطّارة فوق رأسه وترك الماء يسيل على عنقه وصدره وجبينه وبدأ شكله عجيبا . علق المطّارة من جديد خارج الباب وفرش كفيه الكبيرتين وصاح:
-هيا بنا .. لقد تعلمتم الصنعة جيدا .. كم الساعة الآن؟
انها الحادية عشرة والنصف .. إحسبوا: سبع دقائق على الأكثر وأفتح لكم الباب..تذكروا ذلك جيدا : الحادية عشرة والنصف..
نظر مروان إلى ساعته وهز رأسه، لقد حاول أن يقول شيئا إلا أنه لم يستطع، فمشى خطوات قليلة إلى السلم الحديدي وبدأ يتسلقه .
طوى أسعد قميصه وغاص في الفوهة .. تردد مروان قليلا ثم تبعه متكئا ببطنه فوق الحافة منزلقا ببراعة وقسوة بينما هز أبو قيس رأسه وقال :
-سبع دقائق؟
-على الأكثر!
ربت أبو الخيزران على كتف أبى قيس ونظر مباشرة في عينه، كأنا واقفين هناك معا يتصببان عرقا، ولكنهما لم يستطيعا الكلام.
تسلق أبو قيس السلم بثبات ثم أسقط ساقيه داخل الفوهة فأعانه الشابان على النزول.
أغلق أبو الخيزران الباب ودوّر الذراع المضلعة دورتين ثم قفز إلى الأرض متعجلا وانطلق إلى مقعده .
بعد دقيقة ونصف فقط إجتاز أبو الخيزران بسيارته الباب الكبير المفتوح في الأسلاك الشائكة المشدودة حول مركز المطلاع وأوقف سيارته أمام السلم العريض الذي يرقى إلى البناء المقرمد ذي الطابق الواحد، والذي تمتد على جانبيه غرف صغيرة ذات شبابيك واطئة مغلقة، بينما تقوم بضعة عربات لبيع المأكولات قبالته، وكانت أصوات مكيفات الهواء تملأ المساحة بالضجيج.
لم يكن ثمة، غير سيارة أو سيارتين واقفتين في طرف الساحة الكبيرة بالإنتظار، كان الصمت مطبقا بكثافة إلا من اصوات هدير مكيفات الهواء المثبتة على كل الشبابيك المطلة على الساحة، ولم يكن هناك سوى جندي واحد واقف في كوخ خشبي صغير يقع إلى جانب الدرج العريض .
إرتقى أبو الخيزران الدرج مسرعا وإتجه إلى الغرفة الثالثة إلى اليمين، وفور أن فتح الباب ودخل أحس، نتيجة للنظرات التي إنصبت عليه من قبل الموظفين، أن شيئا ما سوف يحدث، إلا أنه لم يتباطا ودفع أوراقه أمام الموظف السمين الذي كان يجلس في صدر الغرفة .
-ها‍‍‍‍‍! أبو الخيزران! !
قال الموظف وهو ينحي الأوراق من أمامه بلا مبالاة متعمدة ويكتف ذراعه فوق الطاولة الحديدية..
-أين كنت كل هذا الوقت؟
قال أبو الخيزران لاهثا؟
-في البصرة.
-سأل عنك الحاج رضا أكثر من ست مرات .
-كانت السيارة معطلة.
ضج الموظفون الثلاثة الذين يشغلون الغرفة ضاحكين بصخب فالتفتت أبو الخيزران حواليه حائرا ثم ثبت نظره على وجه الرجل السمين:
-ما الذي يضحككم في هذا الصباح؟
تبادل الموظفون النظر ثم انفجروا ضاحكين من جديد ..
قال أبو الخيزران متوترا وهو ينقل قدما ويضعها مكان الأخرى:
-والان يا أبو باقر .. لا وقت لديّ للمزاح.. أرجوك .
مدّ يده فقرب الأوراق إلى أمامه، إلا أن أبا باقر عاد فنحى الأوراق إلى طرف الطاولة وكتف ذراعيه من جيد وهو يبتسم ابتسامة خبيثة :
-سأل عنك الحج رضا ست مرات ..
-قلت لك : كانت السيارة معطلة .. ثم إنني والحج رضا نستطيع أن نتفاهم حين نلتقي .. وقع الأوراق رجاء، إنني على عجل ..
قرب الأوراق من جديد إلا أن أبا باقر نحاها مرة أخرى .
-كانت سيارتك معطلة؟
-نعم ..أرجوك إني مستعجل .
نظر الموظفون الثلاثة إلى بعضهم وضحكوا بخبث-ولكن بصوت خفيض-كانت طاولة أحدهم فارغة تماما إلا من كأس شاي زجاجي صغير، وكان الآخر قد كف عن عمله وأخذ يتابع ما يحدث.
قال الرجل السمين المسمى أبو باقر وهو يتجشأ :
-والآن .. كن عقلا يا أبوخيزرانة .. لماذا تتعجل السفر في مثل هذا الطقس الرهيب؟الغرفة هنا باردة وسوف اطلب لك إستكانة شاي..فتمتع بالنعم!
حمل أبو الخيزران الأوراق ثم تناول القلم من أمام أبى باقر ودار حول الطاولة حتى صار إلى جانبه فانحنى ودفع له القلم وهو يدفع، بذراعه، كتف أبى باقر :
-في طريق عودتي سأجلس عندك ساعة، ولكن الآن دعني امشي كرامة لباقر وأم باقر ..خذ.
إلا أن أبا باقر لم يمد يده وبقي يحدق إليه بعينين بلهاوين وهو على وشك أن ينفجر بالضحك.
-آه يا ملعون يا أبا خيزرانه ! لماذا لا تتذكر أنك على عجلة حين تكون في البصرة؟ها؟
-قلت لك ان السيارة كانت في الكاراج.
دفع له القلم مرة أخرى إلا أن أبا باقر لم يتحرك :
-لا تكذب يا أبوخيزرانة .. لا تكذب ..الحج رضا حكى لنا القصة من الألف للياء.
-أية قصة؟
نظر الجميع إلى بعضهم فيما انقلب وجه أبي الخيزران الهزيل فصار مبيضاً من فرط الرعب وأخذ القلم يرتجف في يده .
-قصة تلك الراقصة .. ما اسمها يا علي؟
أجاب علي من وراء الطاولة الفارغة:
-كوكب .
ضرب أبو باقر طاولته بيده واتسعت ابتسامته:
-كوكب ! كوكب! يا أبا خيزرانة يا ملعون ..لماذا لا تحكي لنا قصصك في البصرة؟ تمثل أمامنا أنك رجل مهذب، ثم تمضي إلى البصرة فتمارس الشرور السبعة مع تلك الراقصة ..كوكب ..آه .. كوكب هذا هو الإسم .
صاح أبو الخيزران محاولاً أن لا يتجاوز حد المزاح:
-أي كوكب وأي بطيخ ! دعني أمضي قبل أن يطردني الحج..
قال أبو باقر:
-لا يمكن ! حدثنا عن تلك الراقصة .. الحج يعرف قصتك كلها وقد رواها لنا .. هيا.
-إذا رواها الحج لكم .. فلماذا تريدونني أن أرويها مرة أخرى؟
وقف أبو باقر وصاح كالثور:
-إذن .. إنها قصة حقيقية! ..قصة حقيقية!
دار حول الطاولة حتى صار في منتصف الغرفة . كانت القصة الفاجرة قد هيجته.
لقد فكر بها ليل نهار، ركّب فوقها كل المجون الذي خلقه حرمانه الطويل الممض، كانت فكرة أن صديقا له قد ضاجع عاهرة ما، فكرة مهيجة تستحق كل تلك الأحلام:
-تذهب إلى البصرة وتدعي أن السيارة قد تعطلت .. ثم تمضي مع كوكب أسعد ليالي العمر! يا سلام يا أبو خيزرانة..يا سلام يا ملعون .. ولكن قل لنا كيف أحبتك؟ الحج رضا يقول انها من فرط حبها لك تصرف نقودها عليك وتعطيك شيكات .. آه يا أبو خيزرانة يا ملعون!
اقترب منه ! كان وجهه محمرا وكان من الواضح أنه أمضى وقتا طيبا وهو يتفكر في القصة كما رواها الحج رضا له على الهاتف .. انحنى فوق إذنه وهمس بصوت مبحوح:
-اتراها فحولتك؟ أم قلة الرجال؟
ضحك أبو الخيزران ضحكة هستيرية ودفع الأوراق إلى صدر أبى باقر الذي تناول القلم دون وعي وأخذ يوقعها وهو يرتج بالضحك المكبوت، ولكن حين مدّ أبو الخيزران يده ليتناولها خبأها أبو باقر وراء ظهره ومد ذراعه الأخرى بينه وبين أبى الخيزران.
في المرة القادمة سأذهب معك إلى البصرة .. أتوافق؟
تعرفني على كوكب هذه .. الحج رضا يقول أنها جميلة حقا.
قال أبو الخيزران راجفا وهو يمد ذراعه محاولاً أن يصل إلى الأوراق :
-موافق ..
-بشرفك؟
-بشرفي..
ضج أبو باقر بالضحك من جديد واخذ يهز رأسه المدورّ وهو يعود إلى مكتبه بينما أندفع أبو الخيزران بأوراقه إلى الخارج وصوت أبى باقر يلاحقه :
-يا ملعون يا أبا خيزرانة! خدعنا أكثر من سنتين وانكشف الآن .. آه يا ملعون يا أبا خيزرانة.
اقتحم أبو الخيزرانة الغرفة الأخرى وهو يحدق إلى ساعته،كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا ربعا..توقيع الأوراق الأخرى لم يستغرق أكثر من دقيقة .. وحين صفق وراءه الباب لسعه القيظ من جديد ولكنه لم يهتم بالأمر وقفز الدرج العريض مثنى مثنى حتى صار أمام سيارته، حدق إلى الخزان لحظة وخيل إليه أن حديده على وشك أن ينصهر تحت تلك الشمس الرهيبة، استاجب المحرك لأول ضغطة، وطوى الباب في لحظة دون أن يلوح للحارس .. الطريق الآن معبدة تماما وأمامه دقيقة أو دقيقة ونصف ليتجاوز أول منعطف يحجبه عن مركز المطلاع، لقد اضطر إلى تخفيف السرعة قليلا حين التقى سيارة شحن كبيرة، ثم عاد فأطلق لسيارته كل العنان الممكن وحين وصل إلى المنعطف صفرت العجلات صفيرا متواصلا كأنه النواح وكادت أن تمس الرصيف الرملي وهي تقوم بدورتها الشيطانية الواسعة .. لم يكن في رأسه أي شئ سوى الرعب وخيل إليه أنه على أن يقع فوق مقوده مغميا عليه: كان المقود ساخنا وكان يحسه يحرق كفيه الخشنين ولكنه لم يخفف من تمسكه به، كان المقعد الجلدي يلتهب تحته وكان زجاج الواجهة مغبرا يتوهج ببريق الشمس.
أزيز عريض ترسله العجلات كأنها تسلخ الأسفلت سلخا من تحتها، أكان من الضروري أن تتفلسف يا أبا باقر؟ أكان من الضروري أن تقيء كل قاذوراتك على وجهي وعلى وجوههم؟ يا لعنة الإله العلي القدير عليك، يا لعنة الإله الذي لا يوجد قط في أي مكان تنصب عليه يا أبا باقر! وعليك يا حاج رضا يا كذاب ! راقصة؟ كوكب؟ يا لعنة الله عليكم كلكم..
اوقف السيارة بعنف وتسلق فوق العجل إلى سطح الخزان .. وحين لامست كفاه السطح الحديدي أحس بهما تحترقان ولم يستطع أن يبقيهما هناك فسحبهما وإتكأ بكميه –عند الكوعين –فوق حديد السطح ثم زحف إلى القفل المضلع، وأمسكه بطرف قميصه الأزرق ودورّه فانفتح مقرقعا واستوى القرص الحديدي الصدئ مستقيما فوق مفصله..
حين ترك القرص لمح عقارب الساعة الملتفة على زنده :كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا تسع دقائق وكان زجاجهاالمدور قد تشقق شقوقا مضلعة صغيرة.
الفوهة المفتوحة بقيت تخفق بالفراغ لحظة، كان وجه أبى الخيزران مشدودا إليها متشنجا وشفته السفلى ترتجف باللهاث والرعب، سقطت نقطة عرق عن جبينه إلى سطح الخزان الحديدي وما لبثت أن جفت .. وضع كفيه على ركبتيه وقوس ظهره حتى صار وجهه فوق الفوهة السوداء وصاح بصوت خشبي يابس:
-أسعد!
دوّى الصدى داخل الخزان فكاد أن يثقب أذنيه وهو يرتد إليه، وقبل أن تتلاشى دوامة الهدير التي خلقها نداءه الأول صاح مرة أخرى :
-يا هوه .
وضع كفين صلبتين فوق حافة الفوهة واعتمد على ذراعيه القويتين ثم انزلق إلى داخل الخزان .. كان الظلام شديدا في الداخل حتى إنه لم يستطع أن يرى شيئا بادئ الأمر، وحين نحى جسده بعيدا عن الفوهة سقطت دائرة ضوء صفراء إلى القاع وأضاءت صدراً يملؤه شعر رمادي كث أخذ يلتمع متوهجا بألم مطلي بالقصدير .. انحنى أبو الخيزران ووضع أذنه فوق الشعر الرمادي المبتل كان الجسد باردا وصامتا .مد يده وتحسس طريقه إلى ركن الخزان،كان الجسد الآخر مازال متمسكا بالعارضة الحديدية . حاول أن يهتدي إلى الرأس فلم يستطع أن يتحسس إلا الكتفين المبتلين ثم تبين الرأس منحدراً إلى الصدر، وحين لأمست كفه الوجه سقطت في فم مفتوح على وسعه.
أحس أبو الخيزران أنه على وشك أن يختنق، كان جسده قد بدأ ينزف عرقا بشكل مريع حتى بات يشعر أنه مدهون بالزيت الثقيل ولم يدر، أهو يرتجف بسبب إطباق هذا الزيت على صدره وظهره، أم بسبب الرعب؟تحسس طريقه منحنيا إلى الفوهة وحين أخرج رأسه منها لم يدر لماذا سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح . لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل صورة ترتجف على حائط فأخذ يهز رأسه بعنف وهو ينسل من الفوهة فتحرق رأسه شمس لا ترحم .. وقف هنيهة يتنشق هواء جديدا، لم يكن ليستطيع أن يفكر بأي شئ، كان وجه مروان يطغى في رأسه مثل نبعة انبثقت هادرة من الأرض شامخة إلى علو رهيب .. وحين وصل إلى كرسيه تذكر أبا قيس، كان قميصه مازال موضوعا على المقعد إلى جانبه فتناوله باصابعه الطويلة وقذف به بعيدا .. دوّر محرك سيارته فبدأ يهدر من جديد، ومضت السيارة تدرج فوق المنحدر ببطء وجبروت .
التفت وراءه، عبر النافذة المشبكة الصغيرة، فشاهد القرص الحديدي مفتوحا مستويا فوق مفصله يأكل باطنه الصدأ.. وفجأة غاب القرص الحديدي وراء نقاط من الماء المالح ملأت عينيه .. كان الصداع يتاكله وكان يحس بالدوار إلى حد لم يعرف فيه: هل كانت هذه النقاط المالحة دموعا؟ أم عرقا نزفه جبينه الملتهب؟
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:57 مساءً   [6]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
القبر

الفصل السابع

الفصل الاخير

قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجها إلى خارج المدينة النائمة.. كانت الأضواء الشاحبة ترتعش على طول الطريق، وكان يعرف أن هذه الأعمدة التي تنسحب أمام شباك سيارته سوف تنتهي بعد قليل حينما يغرق في البعد عن المدينة.. وسوف يعم الظلام .. فالليلة لا قمر فيها، وأطراف الصحراء ستكون صامتة كالموت .
أنحرف بسيارته عن الطريق الأسفلت ومضى يتدرج في طريق رملي إلى داخل الصحراء . لقد قر قراره منذ الظهيرة على أن يدفنهم، واحدا واحدا، في ثلاثة قبور أما الآن فإنه يحس بالتعب يتأكله فكأن ذراعيه قد حقنتا بمخدر .. لا طاقة له على العمل .. ولن يكون بوسعه أن يحمل الرفش ساعات طويلة ليحفر ثلاثة قبور .. قبل أن يتجه إلى سيارته ويخرجها من كاراج الحج رضا قال في ذات نفسه أنه لن يدفنهم،بل سيلقى بالأجساد الثلاثة في الصحراء ويكر عائدا إلى بيته .. الآن، لم تعجبه الفكرة، لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء ثم تكون نهبا للجوارح والحيوانات .. ثم لا يبقى منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمل.
درجت السيارة بصوت هزيل فوق الطريق الرملي، ومضى هو يفكر . لم يكن يفكر بالمعنى الصحيح، كانت اشرطة من مشاهد مقطعة تمر في جبينه بلا أي توقف اوترابط أو تفسير .. وكان يشعر بإرهاق مر يتسرب في عظامه كقوافل مستقيمة من النمل .
هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة.. قال في ذات نفسه:"هنا تكّوم البلدية القمامة"ثم فكر : "لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح، ولدفنت باشراف الحكومة" دوّر مقود سيارته وتتبع آثار عجلات عديدة حفرت طريقها قبله في الرمل ثم أطفأ فانوسي سيارته الكبيرتين وسار متمهلا على ضوء الفانوسين الصغيرين ..حين لاحت أمامه أكوام القمامة سوداء عاليةأطفأالفانوسين الصغيرين.. كانت الرائحة النتنة قد ملأت الجو حواليه ولكنه ما لبث أن اعتادها .. ثم اوقف سيارته وهبط . وقف أبو الخيزران إلى جانب سيارته لحيظات ليتاكد من أن احدا لا يشاهده ثم صعد ظهر الخزان :كان بردا رطبا..دوّر القفل المضلع ببطء ثم شد القرص الحديدي إلى فوق فقرقع بصوت متقطع .. اعتمد ذراعيه وانزلق إلى الداخل بخفة : كانت الجثة الأولى باردة صلبة، القى بها فوق كتفيه، أخرج الرأس أولا من الفوهة ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمع صوتها الكثيف يتدحرج فوق حافة الخزان ثم صوت إرتطامها المخنوق على الرمل، لقد لاقى صعوبة جمة في فك يدي الجثة الأخرى عن العارضة الحديدية، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه : مستقيمة متشجنة وسمع صوت ارتطامها بالأرض .. أما الجثة الثالثة فقد كان اسهل من اختيها ..
قفز إلى الخارج واغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفا مطبقا و أحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه، جر الجثث-واحدة واحدة-من اقدامها والقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر.
صعد إلى مقعده ودوّر المحرك ثم كر عائدا إلى الوراء ببطء محاولاً قدر الإمكان أن يخلط آثار عجلات سيارته بالآثار الأخرى، كان قد اعتزم أن يعود إلى الشارع الرئيسي بذلك الشكل الخلفي حتى يشوش الأثر تماما ..ولكنه ما لبث أن تنبه إلى أمر ما بعد أن قطع شوطا فأطفا محرك سيارته من جديد وعاد يسير إلى حيث ترك الجثث فأخرج النقود من جيوبها، وانتزع ساعة مروان وعاد ادراجه إلى السيارة ماشيا علىحافتي حذائه.
حين وصل إلى باب السيارة ورفع ساقا إلىفوق تفجرت فكرة مفاجئة في رأسه ..بقي واقفا متشنجا في مكانه محاولاً أن يفعل شيئا، أويقول شيئا ..فكر أن يصيح إلا أنه ما لبث أن أحس بغباء الفكرة، حاول أن يكمل صعوده إلى السيارة إلا أنه لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل.. لقد شعر بأن رأسه على وشك أن تنفجر، وصعّد كل التعب الذي كان يحسه فجأة، إلى رأسه وأخذ يطن فيه حتى أنه احتواه بين كفيه وبدأ يشد شعره ليزيح الفكرة .. ولكنها كانت ما تزال هناك :
كبير داوية ضخمة لا تتزعزع ولا تتوارى، التفت إلى الوراء، حيث القى بالجثث، إلا أنه لم ير شيئا، ولم تجد النظرة تلك إلا بأن اوقدت الفكرة ضراما فبدأت تشتعل في رأسه .. وفجأة لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه وحدق في العتمة وسع حدقتيه .
انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:
-"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟.."
دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعّد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:
-لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟لماذا لم تقولوا؟لماذا؟
وفجأة بدأت الصحراء كلها ترد الصدى:
-لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟لماذا؟لماذا؟لماذا؟



-انتهت-
توقيع :JO1R
:no::no::no::no:

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  11-12-2007 07:20 مساءً   [7]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 23-10-2007
رقم العضوية : 1,586
المشاركات : 82
الجنس :
قوة السمعة : 50
thanks alot

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  11-12-2007 07:20 مساءً   [8]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 23-10-2007
رقم العضوية : 1,586
المشاركات : 82
الجنس :
قوة السمعة : 50
good working

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  11-12-2007 07:22 مساءً   [9]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 23-10-2007
رقم العضوية : 1,586
المشاركات : 82
الجنس :
قوة السمعة : 50
keep on that

look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  11-01-2009 02:42 مساءً   [10]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 10-06-2008
رقم العضوية : 8,656
المشاركات : 4,768
الجنس :
قوة السمعة : 322,693
يسلمــــــــــــــــــــــــــــــــــو
توقيع :=¤§ ابن البتراء §¤=
Son of petra
l7njo-78b1148109

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 2 من 2 < 1 2 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
لا يوجد كلمات دلالية ..









الساعة الآن 10:57 AM