القبر
الفصل السابع
الفصل الاخير
قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجها إلى خارج المدينة النائمة.. كانت الأضواء الشاحبة ترتعش على طول الطريق، وكان يعرف أن هذه الأعمدة التي تنسحب أمام شباك سيارته سوف تنتهي بعد قليل حينما يغرق في البعد عن المدينة.. وسوف يعم الظلام .. فالليلة لا قمر فيها، وأطراف الصحراء ستكون صامتة كالموت .
أنحرف بسيارته عن الطريق الأسفلت ومضى يتدرج في طريق رملي إلى داخل الصحراء . لقد قر قراره منذ الظهيرة على أن يدفنهم، واحدا واحدا، في ثلاثة قبور أما الآن فإنه يحس بالتعب يتأكله فكأن ذراعيه قد حقنتا بمخدر .. لا طاقة له على العمل .. ولن يكون بوسعه أن يحمل الرفش ساعات طويلة ليحفر ثلاثة قبور .. قبل أن يتجه إلى سيارته ويخرجها من كاراج الحج رضا قال في ذات نفسه أنه لن يدفنهم،بل سيلقى بالأجساد الثلاثة في الصحراء ويكر عائدا إلى بيته .. الآن، لم تعجبه الفكرة، لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء ثم تكون نهبا للجوارح والحيوانات .. ثم لا يبقى منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمل.
درجت السيارة بصوت هزيل فوق الطريق الرملي، ومضى هو يفكر . لم يكن يفكر بالمعنى الصحيح، كانت اشرطة من مشاهد مقطعة تمر في جبينه بلا أي توقف اوترابط أو تفسير .. وكان يشعر بإرهاق مر يتسرب في عظامه كقوافل مستقيمة من النمل .
هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة.. قال في ذات نفسه:"هنا تكّوم البلدية القمامة"ثم فكر : "لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح، ولدفنت باشراف الحكومة" دوّر مقود سيارته وتتبع آثار عجلات عديدة حفرت طريقها قبله في الرمل ثم أطفأ فانوسي سيارته الكبيرتين وسار متمهلا على ضوء الفانوسين الصغيرين ..حين لاحت أمامه أكوام القمامة سوداء عاليةأطفأالفانوسين الصغيرين.. كانت الرائحة النتنة قد ملأت الجو حواليه ولكنه ما لبث أن اعتادها .. ثم اوقف سيارته وهبط . وقف أبو الخيزران إلى جانب سيارته لحيظات ليتاكد من أن احدا لا يشاهده ثم صعد ظهر الخزان :كان بردا رطبا..دوّر القفل المضلع ببطء ثم شد القرص الحديدي إلى فوق فقرقع بصوت متقطع .. اعتمد ذراعيه وانزلق إلى الداخل بخفة : كانت الجثة الأولى باردة صلبة، القى بها فوق كتفيه، أخرج الرأس أولا من الفوهة ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمع صوتها الكثيف يتدحرج فوق حافة الخزان ثم صوت إرتطامها المخنوق على الرمل، لقد لاقى صعوبة جمة في فك يدي الجثة الأخرى عن العارضة الحديدية، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه : مستقيمة متشجنة وسمع صوت ارتطامها بالأرض .. أما الجثة الثالثة فقد كان اسهل من اختيها ..
قفز إلى الخارج واغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفا مطبقا و أحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه، جر الجثث-واحدة واحدة-من اقدامها والقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر.
صعد إلى مقعده ودوّر المحرك ثم كر عائدا إلى الوراء ببطء محاولاً قدر الإمكان أن يخلط آثار عجلات سيارته بالآثار الأخرى، كان قد اعتزم أن يعود إلى الشارع الرئيسي بذلك الشكل الخلفي حتى يشوش الأثر تماما ..ولكنه ما لبث أن تنبه إلى أمر ما بعد أن قطع شوطا فأطفا محرك سيارته من جديد وعاد يسير إلى حيث ترك الجثث فأخرج النقود من جيوبها، وانتزع ساعة مروان وعاد ادراجه إلى السيارة ماشيا علىحافتي حذائه.
حين وصل إلى باب السيارة ورفع ساقا إلىفوق تفجرت فكرة مفاجئة في رأسه ..بقي واقفا متشنجا في مكانه محاولاً أن يفعل شيئا، أويقول شيئا ..فكر أن يصيح إلا أنه ما لبث أن أحس بغباء الفكرة، حاول أن يكمل صعوده إلى السيارة إلا أنه لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل.. لقد شعر بأن رأسه على وشك أن تنفجر، وصعّد كل التعب الذي كان يحسه فجأة، إلى رأسه وأخذ يطن فيه حتى أنه احتواه بين كفيه وبدأ يشد شعره ليزيح الفكرة .. ولكنها كانت ما تزال هناك :
كبير داوية ضخمة لا تتزعزع ولا تتوارى، التفت إلى الوراء، حيث القى بالجثث، إلا أنه لم ير شيئا، ولم تجد النظرة تلك إلا بأن اوقدت الفكرة ضراما فبدأت تشتعل في رأسه .. وفجأة لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه وحدق في العتمة وسع حدقتيه .
انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:
-"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟.."
دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعّد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:
-لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟لماذا لم تقولوا؟لماذا؟
وفجأة بدأت الصحراء كلها ترد الصدى:
-لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟لماذا؟لماذا؟لماذا؟
-انتهت-