أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في JO1R FORUM | منتديات شباب و صبايا الأردن، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .

غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس الفصل الخامس لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجب

الفصل الخامس لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجاً كثيراًفرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هوادة فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب



look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:54 مساءً  
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
الطريق


الفصل الخامس


لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجاً كثيراً .. فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هوادة فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر.. كان أبو قيس قد صعد مع مروان إلى فوق وجلسا على حافة الخزان متجاورين أما أسعد فقد رست عليه القرعة ليجلس إلى جانب السائق في الفترة الأولى من الرحلة .
قال أسعد محدثاً نفسه:
-"سوف يأتي دور العجوز أخيراً ليستظل هنا .. ولكن لا بأس، على أي حال، فان الشمس تبقى محتملة الآن .. أما عند الظهيرة فسيكون حظ العجوز حسناً.."
قال أبو الخيزران فجأة، بصوت عال ليسمع عبر هدير المحرك :
-هل تتصور؟ .. إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار ..فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود..
انفجر أبو الخيزران ضاحكاً كأنه لم يكن هو الذي قال ذلك، ثم أخذ يضرب المقود بكلتا يديه ويهز رأسه ..
-أتعرف؟ إنني أخاف أن تفطس البضاعة، هناك ..
أشار بعنقه إلى حيث يجلس العجوز مع مروان فوق الخزان ومضى يضحك بعنف..
قال أسعد بهدوء:
-قل لي يا أبا الخيزران .. ألم تتزوج أبداً؟
-أنا؟
سأل بعجب، واكتسى وجهه الهزيل بالأسى كأنه لم يكن يضحك قبل هنيهة .. ثم قال ببطء:
-لماذا تسأل؟
-لا لشيء معين ..كنت أقول لنفسي إن حياتك رائعة ..لا أحد يشدك من هنا ولا أحد يشدك من هناك.. وتطير أنت منفردا حيث شئت، تطير .. تطير.. تطير..
هز أبو الخيزران رأسه ثم ضيق جفنيه كي يتلافى ضوء الشمس الذي انصب، فجأة، فوق زجاج الواجهة.. كان الضوء ساطعا بحدة حتى انه لم يستطع، بادئ إلى، أن يرى شيئاً .. إلا انه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه، ثم استطاع أن يتبين، بعد لأي، أن ساقيه مربوطتان إلى حمالتين ترفعانهما إلى فوق وان عددا من الرجال يدور حوله .. اغمض عينيه برهة ثم فتحهما، مرة أخرى، على وسعيهما. كان الضوء المستدير الموضوع فوق رأسه يحجب عنه السقف ويعشي بصره.. ولم يستطع أن يتذكر، وهو مقيد هناك على ذلك الشكل المحكم والغريب، أكثر من شئ واحد حدث له منذ برهة، ليس غير .. كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجرت جهنم أمامه فسقط على وجهه .. هذا كل شئ، والآن، الألم الفظيع مازال يغوص بين فخذيه والضوء المستدير الضخم معلق فوق عينيه وهو يحاول أن يرى إلى الأمور والأشخاص مضيقا جفنيه قدر ما يستطيع .. وفجأة خطر له خاطر اسود فبدا يصيح بجنون، ليس يذكر ما الذي قاله حينذاك، ولكنه أحس بيد تطبق فوق فمه بعنف، كانت تلبس قفازا لزجا .. ووصله الصوت، كأنما عبر قطن :
-كن عاقلا ..كن عاقلا..إن ذلك على أي حال افضل من أن تموت ! ..
ليس يدري هل استطاعوا أن يسمعوه وهو يصيح من بين أسنانه واليد اللزجة مطبقة فوق فمه. أم أن صوته ضاع في حلقه؟ انه، على أي حال، مازال يسمع الصوت نفسه كأن إنساناً آخر كان يصيح في أذنيه:
-لا ..الموت افضل.
والآن ..مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه..
مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يوما وراء يوم وساعة اثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر، ورغم ذلك فانه لم يعتده قط، لم يقبله قط .. عشر سنوات طوال، وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبا لكل شئ في هذا الكون الملعون ..
كلا انه لم يقبل، بعد عشر سنوات، أن ينسى مأساته ويعتادها .. بل انه لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بان فقدان الرجولة ارحم من فقدان الحياة .. يا اله الشياطين، انهم لا يعرفون ذلك قط، لا يعرفون شيئا ثم يتنطعون لتعليم الناس كل الأشياء .. أتراه لم يقبل أم انه كان عاجزا عن القبول؟ منذ اللحظات الأولى كان قد قرر أن لا يقبل، نعم، هذا هو الصحيح بل انه كان عاجزا عن تصور إلى بتمامه حتى انه، بلا وعي، هرب من المستشفى قبل أن يشفى نهائيا .. كأن هروبه كان قادرا على تسوية الأمور من جديد، لقد احتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد مجرد الحياة .. ولكن، تراه اعتادها . ليس بعد .. كلما سئل بشكل عابر : "لماذا لا تتزوج؟ "عاد إليه الإحساس الكريه بألم يغوص بين فخذيه كأنه ما زال ملقى تحت الضوء المستدير الساطع وساقاه مرفوعتان إلى فوق.
كان الضوء متوهجا وساطعا حتى أن عينيه بدأتا تدمعان، عندها مد أسعد بيده فانزل حاجبة الشمس المستطيلة ليقع الظل على وجه أبى الخيزران:
-"نعم، أن هذا افضل .. شكرا .. أتعرف؟.
إن أبا قيس رجل محظوظ! " أحس أسعد بان أبا الخيزران يريد تغيير موضوع الزواج الذي أثاره بسؤاله فاستجاب لذلك ببساطة:
-لماذا؟
-لو قدر له أن يذهب مع المهربين لكان وصوله إلى الكويت بمثابة أعجوبة لا أكثر ولا اقل.
كتف أبو الخيزران ذراعيه على المقود واتكأ بصدره فوقهما ..
-أنت لا تعرف كيف تجري الأمور هنا .. كلكم لا تعرفون .. اسألني أنا .. اسألني، إنني اعرف قصصا يبلغ عددها عدد شعر القط!
-إلى الرجل السمين يبدو طيبا .. لقد ملت إليه.
انزل أبو الخيزران رأسه ومسح عرق جبينه بكمه المتكئ على المقود وقال :
-هه! إلى الرجل السمين لا يذهب معك عبر الحدود وهو لا يعرف ماذا يحدث ..
-ماذا يحدث؟
-لي ابن عم يدعى حسنين، هرب مرة عبر الحدود، وبعد مسير أكثر من عشر ساعات، حل الظلام .. عندها أشار المهرب إلى مجموعة من الأضواء البعيدة وقال : تلك هي الكويت..
تصلونها بعد مسير نصف ساعة.. أتدرى ما الذي حدث؟ لم تكن تلك الكويت .. كانت قرية عراقية نائية! أستطيع أن اروي لك آلافا من القصص المشابهة. قصص رجال تحولوا إلى كلاب وهم يبحثون عن نقطة ماء واحدة يغسلون بها ألسنتهم المشققة.. وماذا تحسب انه حدث حين شاهدوا خيام البدو؟ لقد اشتروا جرعة الماء، بكل ما يملكون من نقود أو خواتم زواج أو ساعات .. يقولون أن حاتم كان بدويا .. ولكنني اعتقد أنها مجرد كذبة ! .. ذلك زمن راح يا أبا السعد .. راح .. ولكنكم لا تدركون ذلك .. تحسبون أن الرجل السمين بوسعه أن يعمل كل شئ .. اعرف رجلا عاش في الصحراء وحيدا مدة أربعة أيام، وحين التقطته سيارة على طريق الجهرة كان على وشك أن يلفظ آخر أنفاسه .. أتدرى ماذا فعل؟ كان يريد شيئا واحدا من كل هذه الحياة.. كان يريد أن يعود إلى البصرة فور أن يسترد صحته، ويعود إليها عبر الصحراء أيضا إذا لزم الأمر .. أتعرف لماذا؟ قال لي انه يريد العودة إلى هناك كي يطبق بكفيه حول عنق الرجل السمين ويخنقه، ثم لتقم القيامة .. كان قد بدأ رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه، من غزة، عبر إسرائيل، عبر الأردن، عبر العراق .. ثم تركهم المهرب في الصحراء، وهم لم يعبروا حدود الكويت .. لقد دفن صديقيه بتلك الأراضي المجهولة وحمل معه هويتهما على أمل أن يصل إلى الكويت، فيرسلهما إلى أهليهما. لم يكن يريد لأحد أن ينصحه .. كان يقول انه لا يريد أن ينسى ولا يريد أن يغفر وبعد مرور اقل من شهر عاد أدراجه إلى العراق، ولكنهم القوا القبض عليه .. وهو الآن يمضي سنته الثانية في سجن حقير .. ماذا تراك تحسب؟ تأتون إلينا من المدارس مثل الأطفال وتحسبون أن الحياة هينة .. أتحسب أن أبا قيس لم يكن يقامر بحياته .. وسوف يكون هو الخاسر ! . أنا متأكد من ذلك تأكدي من الشمس الملعونة هذه!غدا حين تصل إلى الكويت ستتذكرني بالخير وتقول : كان أبو الخيزران يحكي الصحيح، ثم تحمد ربك ألف مرة لأنني أنقذتك من أظافر الرجل السمين .. هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟
-ماذا قلت؟
-سألتك : هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟
-كلا…
دوّر أبو الخيزران مقود سيارته بعنف ليتجاوز حفرة واسعة في الرمل، ثم بدأت السيارة تخب وترتجف فوق طريق تشبه الدرج المنبسط، أحس أسعد أن أمعاءه على وشك إلى تقفز من بين أسنانه المصطكة .
-كنت سترى الكثير منها لو مشيت مع المهربين .. وعلى أي حال، سوف لن يعني ذلك شيئا…
-لماذا؟
-لأنك ستكون مشغولا عن التفكير به .. أو، مثلما قال حسنين، لأنك لا تريد أن تفكر به ..
ابتسم أسعد ببلاهة، لمجرد انه لا يعرف ماذا يتعين عليه أن يفعل،ثم سأل وهو يلكز أبا الخيزران في خاصرته:
-لماذا تعمل إذن في التهريب؟
-أنا؟ أنا لا اعمل في التهريب…
ضحك أسعد وضرب كفه فوق فخذ أبى الخيزران :
-إذن ماذا تسمي هذا؟
-أقول لك الحقيقة؟ إنني أريد مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. ولقد اكتشفت انه من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب ..أترى هذا المخلوق الحقير الذي هو أنا؟ أنني امتلك بعض المال! .. وبعد عامين سأترك كل شئ واستقر .. أريد أن استريح .. أتتمدد .. استلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر .. لا أريد أن أتحرك قط .. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف! إي والله، أكثر من كاف..
أطفأ أبو الخيزران المحرك بسرعة، وفتح الباب ثم قفز إلى الأرض .. واخذ يصيح:
-لقد بدأ الجد .. هيا.. سأفتح لكم باب الخزان .. هاها! سيكون الطقس كالآخرة، هناك في الداخل…
صعد بخفة فوق السلم الحديدي الصغير واخذ يعالج باب الخزان المستدير وفكر مروان ببطء: "إن ذراعيه قويتان.." كانوا يتصببون عرقا، إلا أن قميص أبى الخيزران كان مبتلا تماما وكان وجهه يبدو كأنه مطلي بالوحل .
انفتح الباب مقرقعا ورفع أبو الخيزران طرف القرص الحديدي إلى فوق فاستوى واقفا فوق مفصله وبدا باطنه احمر من فرط الصدأ .. جلس أبو الخيزران إلى جانب الفوهة موسعا ما بين ساقيه المدلاتين واخذ يمسح عرقه بالمنديل الأحمر الذي يلفه على مؤخرة رقبته، تحت قبة القميص الأزرق، وكان يلهث:
-أنصحكم أن تنزعوا قمصانكم .. الحر خانق ومخيف هنا وسوف تعرقون كأنكم في المقلى .. ولكن.. لخمس دقائق أو سبع، وسوف أقود بأقصى ما أستطيع من السرعة …توجد في الداخل عوارض حديدية .. في كل زاوية عارضة .. إنني افضل أن تتمسكوا بها جيدا وإلا تدحرجتم كالكرات.. طبعا ستخلعون أحذيتكم ..
بقي الجميع واقفين على الأرض دون حراك، نهض أبو الخيزران ثم قفز إلى تحت وكان يحاول أن يضحك:
-بوسع المرء أن ينام في الداخل لو كان الطقس ارحم قليلا .. نظر أبو قيس إلى مروان ثم نظر كلاهما إلى أسعد .. الذي خطا-تحت تأثير تلك النظرات –خطوتين صغيرتين إلى الأمام، ثم عاد، فوقف من جديد، وكان أبو الخيزران يراقبه.
-أنصحكم أن تعجلوا قليلا ..إننا ما زلنا في مطلع النهار وبعد قليل سيصبح الخزان من الداخل فرنا حقيقيا .. بوسعكم إلى تأخذوا معكم مطارة، ولكن لا تستعملوها حين تحسون أن السيارة واقفة..
حسم مروان رأيه فاقترب متسرعا من السلم الحديدي، إلا أن أسعد سبقه فتسلق العجل ثم انحنى فوق الفوهة المفتوحة واسقط رأسه داخل الخزان لبرهة وجيزة، ثم عاد فرفعه :
-هذه هي جهنم! إنها تتقد!
قال أبو الخيزران وهو يفرش كفيه الكبيرتين :
-لقد قلت لكم ذلك من قبل ..
كان مروان قد وصل هو الآخر ودس رأسه داخل الفوهة ثم عاد فرفعه وقد ارتسمت على وجهه علائم الاشمئزاز والرعب أما أبو قيس فقد وصل إلى جانبهما لاهثا .. وصاح أبو الخيزران من تحت:
-أتعرفون ماذا تفعلون إذا راود أحدكم العطاس؟
ابتسم أسعد ابتسامة باهتة بينما نظر مروان إلى تحت وبدا أن أبا قيس لم يفهم السؤال ..
-ليضع إصبعه تحت منخريه مستقيما .. هكذا ..
مثل أبو الخيزران الحركة فبدا وجهه مضحكا، وقال أسعد وهو يخطو إلى الأمام:
-لا اعتقد أن أحدنا سيعطس في هذا الفرن ..لا تقلق من هذه الناحية..
وضع أسعد كفيه على خاصرتيه ووقف إلى جانب الفوهة مطأطئا رأسه وكأنه يريد أن يرى ماذا يوجد في الداخل .. بينما خلع أبو قيس قميصه ولفه باعتناء تحت إبطه، وبدا صدره مشعرا شائبا وعظام كتفيه بارزة إلى الأمام ..جلس على حافة الفوهة مدليا ساقيه داخلها. رمى بقميصه أولا، ثم بدأ ينزلق بطيئا مستقيما معتمدا على ذراعيه المشدودتين فوق حافة الفوهة حتى إذا ما لمست قدماه ارض الخزان أرخى ذراعيه وجعل جسده ينساب باعتناء، فغاص رأسه ثم توارت ذراعاه..
قوس أسعد جسده وصاح:
-كيف ترى الأمور؟
دوّى صوت عريض من الداخل كأنه آت من عمق سحيق :
-انه بئر ملعونة .. تعال.
نظر أسعد إلى مروان الذي خلع قميصه ووقف ينتظر بينما بدأ أبو الخيزران يتسلق السلم الحديدي من جديد.
-دور من؟
-دوري.
توجه مروان إلى الفوهة أدار لها ظهره .. انزل ساقيه أولا جاعلا بطنه فوق الحافة ثم انزلق الجسد ببراعة، وبقيت الكفان متمسكتين بإطار الفوهة لبرهة، ثم اختفتا.
لحق أسعد بزميليه دون أن يخلع قميصه، وحين وارته الفوهة انحنى أبو الخيزران محاولاً أن يرى الوضع في الداخل إلا انه لم ير شيئا، في كل مرة كان يطل بها كان جسده يحجب الضوء المتسلل من الفوهة فتتعذر الرؤيا، وأخيرا صاح:
-ها؟
وأجابه صوت عريض :
-ماذا تنتظر؟ عجل، إننا على وشك الاختناق‍‍‍
‍اغلق أبو الخيزران الغطاء بسرعة ودوّر يده المضلعة دورتين ثم انحدر راكضا إلى مقعده، وبدأت السيارة، قبل أن يغلق الباب، تلتهم الطريق.
في تلك الدقائق القليلة كانت، ثمة، فكرة واحدة تحوّم في راس أبى الخيزران، ليس غير.
إن الطريق المحفّرة، التي تشبه درجا منبسطا، تهز السيارة وترجفها بلا هوادة و بلا انقطاع..إن هذا الهزيز جدير بان يجعل البيض عجة في وقت اقل مما تستطيع الخفاقة الكهربائية أن تفعل .. لا بأس بذلك بالنسبة لمروان فهو فتى، ولا بأس بذلك بالنسبة لأسعد فهو قوي البنية ..ولكن، ماذا عن أبى قيس؟ لا شك أن أسنانه تصطك الآن مثل إنسان على وشك أن يموت من شدة الصقيع، ولكن الفرق انه ليس ثمة صقيع هنا.
بوسع أبى الخيزران أن يتلافى بعض هذا الهزيز لو زاد من سرعته أكثر .. لو جعل هذه الدبابة الجهنمية تسير بسرعة مئة وعشرين بدل التسعين التي يشير لها المؤشر الآن .. ولكن إذا فعل ذلك من يضمن أن لا تنقلب السيارة فوق مثل هذه الطريق الملعونة؟ لا بأس أن تنقلب السيارة، فهي ليست له، ولكن ماذا لو استقرت على قفاها؟ ثم من قال أن محرك السيارة يتحمل مثل هذه السرعة في مثل هذا الجو وهذه الأرض؟ انهم يضعون دائما على المؤشر أرقاما عالية ليس من الحكمة إلى يبلغها السائق الماهر ..
لم يخفف السرعة حين وصل إلى صفوان، بل انه –حين دوّر في الساحة متجها إلى اليسار حيث يقوم المخفر لم يرفع قدمه عن مضغط البنزين قيد شعرة بل جعلها دورة واسعة نثرت الغبار في حلقة واسعة .. ولم يرفع قدمه إلا حين ضغط المكبح أمام باب الخفر بعنف، ومرق كالسهم إلى الداخل.
ساحة الجمرك ساحة رملية واسعة في صفوان تتوسطها شجرة كبيرة يتيمة تتهدل أوراقها المتطاولة فترمي ظل واسعا في الساحة .. وعلى الأطراف تنتصب حجرات ذات أبواب خشبية واطئة في داخلها مكاتب مكتظة ورجال مشغولون دائما .. لم يلحظ أبو الخيزران، وهو يقتحم الساحة بقده المديد، سوى بعض النسوة الجالسات في ظل الشجرة ملتفعات بالعباءات، كان ثمة طفل أو طفلان يقفان إلى جانب صنبور المياه وكان الحاجب دائما فوق كرسي القش العتيق.
-أبو الخيزران متعجل اليوم!
-نعم ..الحج رضا ينتظر.. إذا تأخرت طردني.
-الحج رضا لن يطردك، لا تخف..لا يمكن أن يعثر على شاب مثلك .
-هه! الشباب يملأون الأرض كالفقع ..لو اشر بيديه لتهاووا فوقه كالذباب.
-ماذا تحمل معك؟
-أسلحة! دبابات! ومصفحات! وست طائرات ومدفعين..
انفجر الرجل ضاحكا من أعماقه وتناول أبو الخيزران الأوراق من تحت يديه بخفة وانطلق إلى الخارج .. قال في ذات نفسه وهو يدخل إلى غرفة آخر:"اصعب المراحل انتهت"
بعد دقيقة واحدة خرج من الغرفة الأخرى .. وبأقل من لمح البصر كان يدوّر المحرك فيمزق السكون الضارب فوق صفوان، وينطلق إلى الطريق من جديد.
فيما كانت السيارة تنطلق كالسهم تاركة وراءها خطا من غيوم الغبار كان أبو الخيزران ينزف عرقا غزيرا يصب في وجهه المغبر ممرات متشعبة تلتقي عند ذقنه ..كانت الشمس ساطعة متوهجة وكان الهواء ساخنا مشبعا بغبار دقيق كأنه الطحين : "لم أر في حياتي مثل هذا الطقس اللعين .."فك أزرار قميصه فلامست أصابعه شعر صدره الغزير المبتل.. كانت الطريق قد استوت، ولم تعد السيارة ترجف شانها من قبل فزاد من سرعته – كان المؤشر يندفع إلى الأمام ككلب ابيض مربوط إلى وتد.
نظر إلى الأمام بعينيه الغارقتين في عرقه فتبين نهاية الهضبة الصغيرة .. وراء هذه الهضبة تحتجب صفوان، وهناك يتعين عليه أن يقف .
زوّد ضغط قدمه فوق المضغط كما تتسلق السيارة الهضبة دون إلى تتباطأ، أحس بان عضلة ساقه قد تكوّرت حتى أوشكت أن تتمزع، الأرض تنطوي والسيارة تزأر، والزجاج يتوهج والعرق يحرق عينيه، وما تزال قمة الهضبة تتراءى له بعيدة كالأبد .. يا الهي العزيز العلي القدير، كيف يمكن لقمة هضبة ما أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوّث بالوحل عرقا مالحا؟ يا الهي العلي الذي لم تكن معي أبداً، الذي لم تنظر إلى أبداً ـ الذي لا أومن بك أبداً. أيمكن أن تكون هنا هذه المرة؟ هذه المرة فقط؟
رفّ عينيه رفات سريعة ليغسل العرق عن جفنيه، وحين فتحهما آخر مرة كانت قمة الهضبة قد صارت أمامه ..
وصل إلى أعلاها فأطفأ المحرك وترك السيارة تنزلق قليلا ثم أوقفها وقفز من الباب إلى ظهر الخزان.
خرج مروان أولا : رفع ذراعيه فأنتشله أبو الخيزران بعنف وتركه مفروشا فوق سطح الخزان .. اطل أبو قيس برأسه ثم حاول أن يخرج إلا أنه لم يستطع، عاد فاخرج ذراعيه وترك أبا الخيزران يساعده .. أما أسعد فقد استطاع أن يتسلق الفوهة : كان قد خلع قميصه.
جلس أبو الخيزران فوق سطح الخزان الساخن : كان يلهث وبدا انه قد كبر عن ذي قبل.. بينما انزلق أبو قيس ببطء فوق العجلات واستلقى في ظل السيارة منبطحا على وجهه . وقف أسعد هنيهة يتنشق بملء صدره . كان يبدو انه يريد أن يتكلم إلا انه لم يستطع .. وأخيرا قال لاهثا :
-أووف! الطقس هنا في غاية البرودة!
كان وجهه محمرا ومبتلا، وكان بنطاله مغسولا بالعرق أما صدره فقد انطبعت عليه علائم الصدأ فبدا وكانه ملطخ بالدم .. نهض مروان وهبط السلم الحديدي بإعياء .. كانت عيناه حمراوين وكان صدره مصبوغا بالصدا وحين وصل إلى الأرض وضع رأسه فوق فخذ أبى قيس ومدد جسده ببطء إلى جانب العجل .. بعد لحظة تبعه أسعد ثم أبو الخيزران فجلسا واضعين راسيهما فوق ركبهما المطوية.. قال أبو الخيزران بعد فترة :
-هل كان الأمر مخيفا؟
لم يجبه أحد .. فدوّر نظره فوق وجوههم فبدت له وجوها صفراء محنطة، ولولا أن صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخيل إليه إذن انهما ميتان..
-قلت لكم سبع دقائق …ورغم ذلك لم يستغرق الأمر أكثر من ست.
نظر إلى أسعد ببرود بينما فتح مروان عينيه دون أن ينظر إلى شئ معين ودوّر أبو قيس وجهه إلى الناحية الأخرى.
-اقسم لك بشرفي : ست دقائق ! انظر إلى الساعة يا أسعد:
ست دقائق بالضبط! انظر! لماذا لا تريد أن تنظر؟ لقد قلت لكما ذلك، قلته منذ البدء، وأنتم تعتقدون الآن أنني اكذب عليكم .. هاهي الساعة..انظر..انظر.
رفع مروان رأسه ثم استند على عضديه واخذ ينظر، ملقيا برأسه بعض الشيء إلى الوراء، باتجاه أبى الخيزران ..لم يكن يبدو انه يراه بوضوح..
-هل جربت أن تجلس هناك ست دقائق؟
-لقد قلت لكم..
-ثم أنها لم تكن ست دقائق .
-لماذا لا تنظر إلى ساعتك ..لماذا؟ إنها في رسغك، هيا انظر..انظر..وكف عن التحديق بي كالمجنون.
قال أبو قيس:
-إنها ست دقائق..كنت طوال الوقت اعد.. من الواحد إلى الستين:دقيقة، هكذا حسبت .. عددت ست مرات .. في المرة الأخيرة عددت ببطء شديد..
كان يتكلم بصوت منخفض وببطء .. فقال أسعد:
-ماذا بك يا أبا قيس؟ هل أنا مريض؟
-أنا؟ أنا؟ أوف، كلا..ولكنني أتنفس حصتي من الهواء.
وقف أبو الخيزران ونفض عن بنطاله الرمل ثم ثبت كفيه فوق خاصرتيه واخذ ينقل بصره بين الرجال الثلاثة :
-هيا بنا .. يجب أن لا نضيع وقتا أكثر .. أمامكم حمام تركي آخر بعد فترة وجيزة.
نهض أبو قيس واتجه إلى غرفة السائق بينما تسلق أسعد السلم الحديدي وبقي مروان جالسا في الظل.
قال أبو الخيزران:
-ألا تريد أن تنهض؟
-لماذا لا تستريح قليلاً؟
صاح أسعد من فوق:
-سنستريح كثيراً بعد أن نصل وليس قبل ذلك .. هيا… ضحك أبو الخيزران بصوت عال .. ثم ضرب بكفه فوق كتف مروان وقال:
-تعال اجلس إلى جانب أبى قيس، انك نحيل ولن تضايقنا كثيرا.ثم انك، كما يبدو، متعب جدا .
صعد مروان فجلس إلى جانب أبى قيس بينما صاح أبو الخيزران بصوت عال قبل أن يغلق الباب:
البس قميصك يا أسعد والا شوتك الشمس ..
قال مروان لابي الخيزران بصوت موهن:
-قل له أن يترك باب الفرن مفتوحا عله يبترد.
صاح أبو الخيزران جذلا:
-واترك باب الخزان مفتوحا..
هدر المحرك ومضت السيارة الكبيرة ترسم في الصحراء خطا من الضباب: يتعالى، ثم يذوب في القيظ..



الساعة الآن 04:06 PM