الشمس و الظل
الفصل السادس
شق العالم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة .. كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد احد منهم يهتم بتجفيف عرقه ..فرش أسعد قميصه فوق رأسه وطوى ساقيه إلى فخذيه وترك للشمس إن تشويه بلا مقاومة .. اما مروان فقد اتكا برأسه على كتف أبى قيس واغمض عينيه .. وكان أبو قيس يحدق إلى الطريق مطبقا شفتيه باحكام تحت شاربه الرمادي الكث.
لم يكن أي واحد من الاربعة يرغب في مزيد من الحديث .. ليس لان التعب قد انهكهم فقط بل لان كل واحد منهم غاص في افكاره عميقا عميقا .. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وباحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم و ماضيهم ومستقبلهم.. كما لو انها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول .. وكانت العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية.
سوف يكون بوسعنا أن نعلم قيسا وان نشتري عرق زيتون أو عرقين، وربما نبني غرفة نسكنها وتكون لنا، أنا رجل عجوز قد اصل وقد لا اصل .. أو تحسب إذن أن حياتك هنا افضل كثيرا من موتك؟ لماذا لا تحأول مثلنا؟لماذا لا تنهض من فوق تلك الوسادة وتضرب في بلاد الله بحثا عن الخبز؟هل ستبقى كل عمرك تأكل من طحين الإعاشة الذي تهرق من أجل كيلو واحد منه كل كرامتك على أعتاب الموظفين؟
و تمضي السيارة فوق الأرض الملتهبة ويدوي محركها بلا هوادة ..
شفيقة امرأة بريئة .. كانت صبية يافعة حين طوحت قنبلة مورتر بساقها فبترها الاطباء من أعلى الفخذ.. وأمه لا تحب أن يحكي إنسان عن أبيه : زكريا راح.. هناك، في الكويت، ستتعلم كل شئ .. ستعرف كل شئ .. أنت مازلت فتى لا تفهم من الحياة إلا قدر ما يفهم الطفل الرضيع من بيته ! المدرسة لا تعلم شيئا .. لا تعلم سوى الكسل فاتركها وغص في المقلاة مثلما فعل سائر البشر.
السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويدوي محركها بهدير شيطاني..
ربما كانت قنبلة مزروعة في الأرض تلك التي داس عليها فيما كان يركض، أو ربما قذفها، أمامه، رجل كان مختبئا في خندق قريب، كل ذلك لا يهم الآن : ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه مازالتا فوق السرير الابيض المريح والألم الرهيب يتلولب بين فخذيه .. كانت، ثمة،، امرأة تساعد الاطباء، كلما يتذكر ذلك يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية؟ لقد صرفت حياتك مغامرا، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة ! وما الذي افدته؟ليكسّر الفخار بعضه :أنا لست أريد الآن إلا مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.
السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة .. ويدوي محركها بالهدير.
دفعه الشرطي أمام الضابط فقال له : تحسب نفسك بطلا وأنت على اكتاف البغال تتظاهرون في الطريق! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرك فيما اخذت البصقة تسبل ببطء نازلة من جبينه : لزجة كريهة تتكوم على قمة انفه ..أخرجوه، وحينما كان في الممر سمع الشرطي القابض على ذراعه بعنف يقول بصوت خفيض:"يلعن أبو هالبدلة" .. ثم اطلقه فمضى يركض. عمه يريد أن يزوجه ابنته ولذلك يريده أن يبدأ ..لولا ذلك لما حصل الخمسين دينارا كل حياته.
السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويهدر محركها مثل فم جبار يزدرد الطريق..
الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قبة عريضة من لهب ابيض، وشريط الغبار يعكس وهجا يكاد يعمي العيون..كانوا يقولون لهم أن فلأنا لم يعد من الكويت لأنه مات، قتلته ضربة شمس، كان يغرس معوله في الأرض حين سقط فوقه وفوقها، وماذا؟ضربة شمس قتلته، تريدون أن تدفنوه هنا أو هناك؟هذا كل شئ، ضربة شمس ! هذا صحيح، من الذي سماها ضربة؟ ألم يكن عبقريا؟كان هذا الخلاء عملاق خفي يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي . ولكن أيمكن للشمس إلى تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم؟كأن الافكار كانت تسيل من رأس إلى رأس وتخفق بهواجس واحدة، لقد التقت العيون فجأه : نظر أبو الخيزران إلى مروان ثم إلى ابي قيس فوجده يحدق به ,حاول أن يبتسم ولكنه لم يستطع فمسح عرقه جبينه بكمه وقال بصوت خفيض:
-هذه جهنم التي سمعت عنها.
جهنم الله.
-نعم.
مدّ أبو الخيزران يده فأطفا المحرك، ثم نزل ببطء فتبعه مروان وأبو قيس بينما بقي أسعد معلقا فوق .
جلس أبو الخيزران في ظل السيارة وأشعل لفافة ثم قال بصوت خفيض:
-لنستريح قليلا قبل إلى نبدأ التمثيلية مرة أخر.
قال أبو قيس :
-لماذا لم تتحرك بمساء أمس فتوفر علينا برودة الليل وكل هذه المشقة؟
قال أبو الخيزران دون أن يرفع بصره عن الأرض:
-الطريق بين صفوان والمطلاع تمتلئ بالدوريات في الليل..
في النهار لا يمكن لأية دورية أن تغامر بالاستطلاع في مثل هذا القيظ..
قال مروان:
-إذا كانت سيارتك معصومة عن التفتيش.. فلماذا لا نبقى خارج ذلك السجن الرهيب؟
قال أبو الخيزران بحدة :
-لا تكن سخيفا .. هل أنت خائف إلى هذا الحد من البقاء خمس أو ست دقائق في الداخل؟لقد اجتزنا أكثر من نصف الطريق ولم يبق إلا الأسهل ..
نهض أبو الخيزران واقفا ثم اتجه إلى المطّارة المعلقة خارج الباب وفتحها:
-سوف أقيم لكم حفلة غداء رائعة حين نصل .. سأذبح دجاجتين ..
رفع المطّارة وصب في فمه الماء فبدأ يسيل من ركنيه مزرزبا إلى ذقنه ثم إلى قميصه المبتل، وحين إرتوى صب ما تبقى في المطّارة فوق رأسه وترك الماء يسيل على عنقه وصدره وجبينه وبدأ شكله عجيبا . علق المطّارة من جديد خارج الباب وفرش كفيه الكبيرتين وصاح:
-هيا بنا .. لقد تعلمتم الصنعة جيدا .. كم الساعة الآن؟
انها الحادية عشرة والنصف .. إحسبوا: سبع دقائق على الأكثر وأفتح لكم الباب..تذكروا ذلك جيدا : الحادية عشرة والنصف..
نظر مروان إلى ساعته وهز رأسه، لقد حاول أن يقول شيئا إلا أنه لم يستطع، فمشى خطوات قليلة إلى السلم الحديدي وبدأ يتسلقه .
طوى أسعد قميصه وغاص في الفوهة .. تردد مروان قليلا ثم تبعه متكئا ببطنه فوق الحافة منزلقا ببراعة وقسوة بينما هز أبو قيس رأسه وقال :
-سبع دقائق؟
-على الأكثر!
ربت أبو الخيزران على كتف أبى قيس ونظر مباشرة في عينه، كأنا واقفين هناك معا يتصببان عرقا، ولكنهما لم يستطيعا الكلام.
تسلق أبو قيس السلم بثبات ثم أسقط ساقيه داخل الفوهة فأعانه الشابان على النزول.
أغلق أبو الخيزران الباب ودوّر الذراع المضلعة دورتين ثم قفز إلى الأرض متعجلا وانطلق إلى مقعده .
بعد دقيقة ونصف فقط إجتاز أبو الخيزران بسيارته الباب الكبير المفتوح في الأسلاك الشائكة المشدودة حول مركز المطلاع وأوقف سيارته أمام السلم العريض الذي يرقى إلى البناء المقرمد ذي الطابق الواحد، والذي تمتد على جانبيه غرف صغيرة ذات شبابيك واطئة مغلقة، بينما تقوم بضعة عربات لبيع المأكولات قبالته، وكانت أصوات مكيفات الهواء تملأ المساحة بالضجيج.
لم يكن ثمة، غير سيارة أو سيارتين واقفتين في طرف الساحة الكبيرة بالإنتظار، كان الصمت مطبقا بكثافة إلا من اصوات هدير مكيفات الهواء المثبتة على كل الشبابيك المطلة على الساحة، ولم يكن هناك سوى جندي واحد واقف في كوخ خشبي صغير يقع إلى جانب الدرج العريض .
إرتقى أبو الخيزران الدرج مسرعا وإتجه إلى الغرفة الثالثة إلى اليمين، وفور أن فتح الباب ودخل أحس، نتيجة للنظرات التي إنصبت عليه من قبل الموظفين، أن شيئا ما سوف يحدث، إلا أنه لم يتباطا ودفع أوراقه أمام الموظف السمين الذي كان يجلس في صدر الغرفة .
-ها! أبو الخيزران! !
قال الموظف وهو ينحي الأوراق من أمامه بلا مبالاة متعمدة ويكتف ذراعه فوق الطاولة الحديدية..
-أين كنت كل هذا الوقت؟
قال أبو الخيزران لاهثا؟
-في البصرة.
-سأل عنك الحاج رضا أكثر من ست مرات .
-كانت السيارة معطلة.
ضج الموظفون الثلاثة الذين يشغلون الغرفة ضاحكين بصخب فالتفتت أبو الخيزران حواليه حائرا ثم ثبت نظره على وجه الرجل السمين:
-ما الذي يضحككم في هذا الصباح؟
تبادل الموظفون النظر ثم انفجروا ضاحكين من جديد ..
قال أبو الخيزران متوترا وهو ينقل قدما ويضعها مكان الأخرى:
-والان يا أبو باقر .. لا وقت لديّ للمزاح.. أرجوك .
مدّ يده فقرب الأوراق إلى أمامه، إلا أن أبا باقر عاد فنحى الأوراق إلى طرف الطاولة وكتف ذراعيه من جيد وهو يبتسم ابتسامة خبيثة :
-سأل عنك الحج رضا ست مرات ..
-قلت لك : كانت السيارة معطلة .. ثم إنني والحج رضا نستطيع أن نتفاهم حين نلتقي .. وقع الأوراق رجاء، إنني على عجل ..
قرب الأوراق من جديد إلا أن أبا باقر نحاها مرة أخرى .
-كانت سيارتك معطلة؟
-نعم ..أرجوك إني مستعجل .
نظر الموظفون الثلاثة إلى بعضهم وضحكوا بخبث-ولكن بصوت خفيض-كانت طاولة أحدهم فارغة تماما إلا من كأس شاي زجاجي صغير، وكان الآخر قد كف عن عمله وأخذ يتابع ما يحدث.
قال الرجل السمين المسمى أبو باقر وهو يتجشأ :
-والآن .. كن عقلا يا أبوخيزرانة .. لماذا تتعجل السفر في مثل هذا الطقس الرهيب؟الغرفة هنا باردة وسوف اطلب لك إستكانة شاي..فتمتع بالنعم!
حمل أبو الخيزران الأوراق ثم تناول القلم من أمام أبى باقر ودار حول الطاولة حتى صار إلى جانبه فانحنى ودفع له القلم وهو يدفع، بذراعه، كتف أبى باقر :
-في طريق عودتي سأجلس عندك ساعة، ولكن الآن دعني امشي كرامة لباقر وأم باقر ..خذ.
إلا أن أبا باقر لم يمد يده وبقي يحدق إليه بعينين بلهاوين وهو على وشك أن ينفجر بالضحك.
-آه يا ملعون يا أبا خيزرانه ! لماذا لا تتذكر أنك على عجلة حين تكون في البصرة؟ها؟
-قلت لك ان السيارة كانت في الكاراج.
دفع له القلم مرة أخرى إلا أن أبا باقر لم يتحرك :
-لا تكذب يا أبوخيزرانة .. لا تكذب ..الحج رضا حكى لنا القصة من الألف للياء.
-أية قصة؟
نظر الجميع إلى بعضهم فيما انقلب وجه أبي الخيزران الهزيل فصار مبيضاً من فرط الرعب وأخذ القلم يرتجف في يده .
-قصة تلك الراقصة .. ما اسمها يا علي؟
أجاب علي من وراء الطاولة الفارغة:
-كوكب .
ضرب أبو باقر طاولته بيده واتسعت ابتسامته:
-كوكب ! كوكب! يا أبا خيزرانة يا ملعون ..لماذا لا تحكي لنا قصصك في البصرة؟ تمثل أمامنا أنك رجل مهذب، ثم تمضي إلى البصرة فتمارس الشرور السبعة مع تلك الراقصة ..كوكب ..آه .. كوكب هذا هو الإسم .
صاح أبو الخيزران محاولاً أن لا يتجاوز حد المزاح:
-أي كوكب وأي بطيخ ! دعني أمضي قبل أن يطردني الحج..
قال أبو باقر:
-لا يمكن ! حدثنا عن تلك الراقصة .. الحج يعرف قصتك كلها وقد رواها لنا .. هيا.
-إذا رواها الحج لكم .. فلماذا تريدونني أن أرويها مرة أخرى؟
وقف أبو باقر وصاح كالثور:
-إذن .. إنها قصة حقيقية! ..قصة حقيقية!
دار حول الطاولة حتى صار في منتصف الغرفة . كانت القصة الفاجرة قد هيجته.
لقد فكر بها ليل نهار، ركّب فوقها كل المجون الذي خلقه حرمانه الطويل الممض، كانت فكرة أن صديقا له قد ضاجع عاهرة ما، فكرة مهيجة تستحق كل تلك الأحلام:
-تذهب إلى البصرة وتدعي أن السيارة قد تعطلت .. ثم تمضي مع كوكب أسعد ليالي العمر! يا سلام يا أبو خيزرانة..يا سلام يا ملعون .. ولكن قل لنا كيف أحبتك؟ الحج رضا يقول انها من فرط حبها لك تصرف نقودها عليك وتعطيك شيكات .. آه يا أبو خيزرانة يا ملعون!
اقترب منه ! كان وجهه محمرا وكان من الواضح أنه أمضى وقتا طيبا وهو يتفكر في القصة كما رواها الحج رضا له على الهاتف .. انحنى فوق إذنه وهمس بصوت مبحوح:
-اتراها فحولتك؟ أم قلة الرجال؟
ضحك أبو الخيزران ضحكة هستيرية ودفع الأوراق إلى صدر أبى باقر الذي تناول القلم دون وعي وأخذ يوقعها وهو يرتج بالضحك المكبوت، ولكن حين مدّ أبو الخيزران يده ليتناولها خبأها أبو باقر وراء ظهره ومد ذراعه الأخرى بينه وبين أبى الخيزران.
في المرة القادمة سأذهب معك إلى البصرة .. أتوافق؟
تعرفني على كوكب هذه .. الحج رضا يقول أنها جميلة حقا.
قال أبو الخيزران راجفا وهو يمد ذراعه محاولاً أن يصل إلى الأوراق :
-موافق ..
-بشرفك؟
-بشرفي..
ضج أبو باقر بالضحك من جديد واخذ يهز رأسه المدورّ وهو يعود إلى مكتبه بينما أندفع أبو الخيزران بأوراقه إلى الخارج وصوت أبى باقر يلاحقه :
-يا ملعون يا أبا خيزرانة! خدعنا أكثر من سنتين وانكشف الآن .. آه يا ملعون يا أبا خيزرانة.
اقتحم أبو الخيزرانة الغرفة الأخرى وهو يحدق إلى ساعته،كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا ربعا..توقيع الأوراق الأخرى لم يستغرق أكثر من دقيقة .. وحين صفق وراءه الباب لسعه القيظ من جديد ولكنه لم يهتم بالأمر وقفز الدرج العريض مثنى مثنى حتى صار أمام سيارته، حدق إلى الخزان لحظة وخيل إليه أن حديده على وشك أن ينصهر تحت تلك الشمس الرهيبة، استاجب المحرك لأول ضغطة، وطوى الباب في لحظة دون أن يلوح للحارس .. الطريق الآن معبدة تماما وأمامه دقيقة أو دقيقة ونصف ليتجاوز أول منعطف يحجبه عن مركز المطلاع، لقد اضطر إلى تخفيف السرعة قليلا حين التقى سيارة شحن كبيرة، ثم عاد فأطلق لسيارته كل العنان الممكن وحين وصل إلى المنعطف صفرت العجلات صفيرا متواصلا كأنه النواح وكادت أن تمس الرصيف الرملي وهي تقوم بدورتها الشيطانية الواسعة .. لم يكن في رأسه أي شئ سوى الرعب وخيل إليه أنه على أن يقع فوق مقوده مغميا عليه: كان المقود ساخنا وكان يحسه يحرق كفيه الخشنين ولكنه لم يخفف من تمسكه به، كان المقعد الجلدي يلتهب تحته وكان زجاج الواجهة مغبرا يتوهج ببريق الشمس.
أزيز عريض ترسله العجلات كأنها تسلخ الأسفلت سلخا من تحتها، أكان من الضروري أن تتفلسف يا أبا باقر؟ أكان من الضروري أن تقيء كل قاذوراتك على وجهي وعلى وجوههم؟ يا لعنة الإله العلي القدير عليك، يا لعنة الإله الذي لا يوجد قط في أي مكان تنصب عليه يا أبا باقر! وعليك يا حاج رضا يا كذاب ! راقصة؟ كوكب؟ يا لعنة الله عليكم كلكم..
اوقف السيارة بعنف وتسلق فوق العجل إلى سطح الخزان .. وحين لامست كفاه السطح الحديدي أحس بهما تحترقان ولم يستطع أن يبقيهما هناك فسحبهما وإتكأ بكميه –عند الكوعين –فوق حديد السطح ثم زحف إلى القفل المضلع، وأمسكه بطرف قميصه الأزرق ودورّه فانفتح مقرقعا واستوى القرص الحديدي الصدئ مستقيما فوق مفصله..
حين ترك القرص لمح عقارب الساعة الملتفة على زنده :كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا تسع دقائق وكان زجاجهاالمدور قد تشقق شقوقا مضلعة صغيرة.
الفوهة المفتوحة بقيت تخفق بالفراغ لحظة، كان وجه أبى الخيزران مشدودا إليها متشنجا وشفته السفلى ترتجف باللهاث والرعب، سقطت نقطة عرق عن جبينه إلى سطح الخزان الحديدي وما لبثت أن جفت .. وضع كفيه على ركبتيه وقوس ظهره حتى صار وجهه فوق الفوهة السوداء وصاح بصوت خشبي يابس:
-أسعد!
دوّى الصدى داخل الخزان فكاد أن يثقب أذنيه وهو يرتد إليه، وقبل أن تتلاشى دوامة الهدير التي خلقها نداءه الأول صاح مرة أخرى :
-يا هوه .
وضع كفين صلبتين فوق حافة الفوهة واعتمد على ذراعيه القويتين ثم انزلق إلى داخل الخزان .. كان الظلام شديدا في الداخل حتى إنه لم يستطع أن يرى شيئا بادئ الأمر، وحين نحى جسده بعيدا عن الفوهة سقطت دائرة ضوء صفراء إلى القاع وأضاءت صدراً يملؤه شعر رمادي كث أخذ يلتمع متوهجا بألم مطلي بالقصدير .. انحنى أبو الخيزران ووضع أذنه فوق الشعر الرمادي المبتل كان الجسد باردا وصامتا .مد يده وتحسس طريقه إلى ركن الخزان،كان الجسد الآخر مازال متمسكا بالعارضة الحديدية . حاول أن يهتدي إلى الرأس فلم يستطع أن يتحسس إلا الكتفين المبتلين ثم تبين الرأس منحدراً إلى الصدر، وحين لأمست كفه الوجه سقطت في فم مفتوح على وسعه.
أحس أبو الخيزران أنه على وشك أن يختنق، كان جسده قد بدأ ينزف عرقا بشكل مريع حتى بات يشعر أنه مدهون بالزيت الثقيل ولم يدر، أهو يرتجف بسبب إطباق هذا الزيت على صدره وظهره، أم بسبب الرعب؟تحسس طريقه منحنيا إلى الفوهة وحين أخرج رأسه منها لم يدر لماذا سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح . لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل صورة ترتجف على حائط فأخذ يهز رأسه بعنف وهو ينسل من الفوهة فتحرق رأسه شمس لا ترحم .. وقف هنيهة يتنشق هواء جديدا، لم يكن ليستطيع أن يفكر بأي شئ، كان وجه مروان يطغى في رأسه مثل نبعة انبثقت هادرة من الأرض شامخة إلى علو رهيب .. وحين وصل إلى كرسيه تذكر أبا قيس، كان قميصه مازال موضوعا على المقعد إلى جانبه فتناوله باصابعه الطويلة وقذف به بعيدا .. دوّر محرك سيارته فبدأ يهدر من جديد، ومضت السيارة تدرج فوق المنحدر ببطء وجبروت .
التفت وراءه، عبر النافذة المشبكة الصغيرة، فشاهد القرص الحديدي مفتوحا مستويا فوق مفصله يأكل باطنه الصدأ.. وفجأة غاب القرص الحديدي وراء نقاط من الماء المالح ملأت عينيه .. كان الصداع يتاكله وكان يحس بالدوار إلى حد لم يعرف فيه: هل كانت هذه النقاط المالحة دموعا؟ أم عرقا نزفه جبينه الملتهب؟