الصفقة
الفصل الثالث
اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع إلى الخيزران، وصلا متاخرين قليلا فوجدا أبا الخيزران بإنتظارهما، جالسا مع ابي قيس فوق مقعد اسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.
-لقد اجتمعت العصابة كلها الآن، أليس كذلك؟
صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.
-هذا هو صديقك إذن .. ما اسمه؟
أجاب مروان باقتضاب:
-أسعد.
دعني إذن أعرفكما على صديقي العجوز .. "أبو قيس.."
وبهذا تكون العصابة قد اكتملت .. لا باس أن تزداد واحدا .. ولكنها الآن كافية أيضا.
قال أسعد:
-يبدو لي انك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟
-نعم، أنا .
-كيف؟
-هذا شأني أنا ..
ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:
-لا يا سيدي .. انه شاننا نحن .. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.
قال أبو الخيزران بصوت حاسم :
-سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك ..
قال أسعد :
-لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟
لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:
-ما رأي العم أبو قيس؟
قال أبو قيس:
-الرأي رأيكم ..
-ما رأيك يا مروان؟
-أنا معكم.
قال أسعد بعنف:
-إذن، دعونا نختصر الوقت .. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، اما مروان فانها تجربته الأولى . أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم ان اتفاوض عنكم؟
رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقا، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبى الخيزران ..
-لقد رأيت : الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا : إننا من بلد واحد. نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق،لا باس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل ..سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط..
قال أبو قيس:
-الأخ أسعد يحكي الحق .. يجب أن نكون على بينة من الأمر، وكما يقول المثل: ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .
رفع أبو الخيزران كفيه من جيبيه ووضعهما على خصريه، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قر قراره فوق وجه أسعد:
-أولا، كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون؟
قال أبو قيس:
-أنا موافق.
قال أسعد:
-أرجوك ..لقد سلمتني الأمر إذن دعني احكي ..
عشرة دنانير مبلغ كبير، إن المهرب المحترف يأخذ خمسة عشرة دينارا .. ثم..
قاطعه أبو الخيزران :
-لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلسا ..السلام عليكم .
أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا:
-لماذا غضبت؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر..
-حسنا، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا؟
-ها! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع .
جلس أبو الخيزران على مقعد الأسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعينا بيديه الطويلتين:
-لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود .. ها ! يجب أن تنتبهوا : إنها ليست سيارتي .. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة انني سائقها! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فانها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم..
كان أبو الخيزران سائقا بارعا، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنوات، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحس سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدوا الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها اثر هجوم يهودي .. ورغم انه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا انه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق . إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولاًت التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية .. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فان خيبة أمله كانت اكبر، ولكن أبا الخيزران –على أي حال –أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحج رضا في الكويت؟
لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحي موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص ..إلا أن الربيع كان خادعا، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة اثر الأخرى..
إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الو رائية في الوحل، أوقف سيارته وهبط ثم اقترب من الحج وقال له :
-ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ان أنتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من اربع ساعات، وفي هذا الوقت يكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته .
قال الحج رضا :
-تمام ! إن صوت محرك سيارتك ارحم من الوقوف هنا مدة أربع ساعات.
قاد أبو الخيزران سيارته الضخمة طوال ست ساعات فوق تلك الأرض الخادعة التي تبدو بيضاء صلدة بسبب طبقة رقيقة من الملح الذي جف على السطح، وكان أبو الخيزران، طوال الطريق، يحرك مقود سيارته حركات خفيفة وسريعة ذات اليمين وذات اليسار كي تستطيع العجلتان الأماميتان أن تفتحا طريقا اوسع قليلا من حاجتهما..
لقد سر الحج رضا للغاية من براعة أبى الخيزران وتحدث بذلك لكل أصدقائه طوال شهور .. وقد سر الحج أكثر حين نما إليه أن أبا الخيزران رفض عروضا عديدة للعمل عند سواه، بعد أن تفشت هذه الأخبار، واستدعاه وأثنى عليه ثم زوّد راتبه قليلا .. ما هو أهم من ذلك أن الحج رضا بات يشترط أن يكون أبو الخيزران رفيقا ضروريا لكل رحلة قنص أو سفر بعيد.
منذ أسبوع خرج الحج رضا في قافلة من سياراته إلى رحلة قنص أقامها خصيصا من اجل ضيوف ينزلون عنده، وقد كلف أبو الخيزران بقيادة سيارة الماء الكبيرة التي سترافق القافلة طوال الرحلة وتؤمن الماء الوفير للرجال أثناء الرحلة التي قد تستغرق أكثر من يومين .. لقد ضربت القافلة بعيدا في الصحراء حتى أن الحج رضا فضل أن يسلك في طرق عودته دروبا أخرى تصل به إلى الزبير، ومن الزبير يستطيع أن يسلك الطريق الرئيسي الذي يعود إلى الكويت .. كان من الممكن أن يكون أبو الخيزران الآن في الكويت، مع بقية القافلة لو لم يصب سيارته الكبيرة عطل صغير يضطره للبقاء في البصرة يومين آخرين حتى يصلحه، ثم يلحق بمن سبق .
-أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟
-بالضبط ! لقد قلت لنفسي : لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا، وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟
نظر مروان إلى آبي قيس، ثم إلى أسعد فنظرا إليه بدورهما متسائلين :
-اسمع يا أبا الخيزران .. هذه اللعبة لا تعجبني! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟في مثل هذا الحر من يستطيع ان يجلس في خزان ماء مقفل؟
-لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة ..هل تعرف ما الذي سيحدث؟ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين مترا، ساقف على الحدود اقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق اخرى، ثم هوب! ستجدون انفسكم في الكويت!
هز أسعد رأسه ثم حدق إلى الأرض لبرهة وقد قلب شفته السفلى، أما مروان فقد اخذ يتلهى بقصف عود جاف، وواصل أبو قيس التحديق إلى السائق طويل القامة.. وفجأة قال مروان :
-هل يوجد ماء في الخزان؟
انفجر أبو الخيزران ضاحكا وابتسم أسعد:
-طبعا لا .. ماذا تعتقد؟ هل أنا مهرب أم معلم سباحة؟
وكأنما راقت الفكرة لأبي الخيزران فقد مضى يقهقه ويضرب فخذيه بكفيه ويدور حول نفسه..
-ماذا تعتقد؟ هل أنا معلم سباحة؟أيها الصغير : أن الخزان لم ير الماء منذ ستة شهور!
قال أسعد بهدوء :
-حسبت انك كنت تنقل الماء في رحلة قنص قبل أسبوع؟
-أوف .. أنت تعرف، تعرف ماذا اقصد .
-لا، لا اعرف.
-اقصد منذ ستة أيام ..إن المرء يبالغ أحيانا .. والآن، هل اتفقنا؟..دعونا ننهي هذا الاجتماع الخطير ! .
وقف أبو قيس مهيئا نفسه للقول الفصل، ولكنه قبل أن ينطق دور بصره على الجميع وتوقف هنيهة وهو ينظر إلى أسعد كأنه يرجوه العون، ثم اقترب من أبي الخيزران.
-اسمع يا أبا الخيزران .. أنا رجل درويش ولا افهم بكل هذه التعقيدات .. ولكن قصة رحلة القنص تلك، لم تعجبني.
تقول انك حملت للحج رضا ماء، ثم تقول الآن أن خزان سيارتك لم يشم رائحة الماء منذ ستة اشهر . سأقول لك الحقيقة و وأرجو أن لا تغضب : أنا اشك في انك تملك سيارة ..
التفت أبو قيس للبقية ومضى يكمل بصوت خزين :
-أنا افضل أن ادفع خمسة عشر دينارا واذهب مع مهرب عن طريق الصحراء ..لا أريد مزيدا من المشاكل.
ضحك أبو الخيزران وقال بصوت عال:
-اذهب وجرب .. أتحسب أنني لا اعرف هؤلاء المهربين؟ سيتركونكم في منتصف الطريق ويذوبون مثل فص الملح ! . وأنتم بدوركم ستذوبون في قيظ آب دون أن يشعر بكم أحد .. اذهب .. اذهب وجرب.. قبلك جرب الكثيرون ..تريد أن أدلك؟ لماذا تحسب انهم يأخذون منكم المبلغ سلفا؟
-"ولكنني اعرف كثيرين وصلوا إلى هناك عن طريق المهربين ".
-"عشرة بالمئة على الأكثر..ثم اذهب واسألهم وسيقولون لك انهم اكملوا الطريق بلا مهرب وبلا دليل، وان حظهم قد ساعدهم على النجاة."
جمد أبو قيس في مكانه، وبدا للحظة انه موشك على السقوط ولاحظ مروان أن أبا يقيس يشبه والده إلى حد بعيد، فأشاح بوجهه عنه، لم يعد بوسعه أن يركز رأسه على موضوع واحد.. فيما مضى أبو الخيزران صائحا:
-يجب أن تقرروا بسرعة ! ليس لدي مزيد من الوقت لأضيعه، اقسم لكم بشرفي..
قال أسعد مقاطعا بهدوء
-اترك موضوع الشرف في ناحية أخرى .. الأمور تمضي بشكل افضل حين لا يقسم المرء بشرفه ..
التفت أبو الخيزارن إليه وقال:
-الآن يا سيد أسعد، أنت رجل ذكي ومجرب .. ما رأيك ..؟
-رأيي بماذا؟
-بكل شئ.
ابتسم أسعد ولاحظ أن أبا قيس ومروان ينتظران أن يسمعا قراره، فمضى يحكي ببطء وسخرية:
-أولا، اعفينا من تصديق قصة رحلة القنص ! .يبدو لي أن الحج رضا وجنابك تعملان بالتهريب.. عفوك قليلا، دعني اكمل.. الحج رضا يعتقد ان تهريب الاشخاص في طريق العودة امر تافه، لذلك يتركه لك، اما أنت فتترك له بالمقابل تهريب الامور الاهم.. وبنسبة من الارباح المعقولة، ام تراه لا يعرف انك تهرب اشخاصا في طريق العودة؟
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فبانت أسنانه البيضاء النظيفة من جديد وبدا انه لا يريد أن يجيب أسعد .. قال مروان فجأة:
-وقصة القنص؟
-أوه! قصة القنص معدة لرجال الحدود، ليس لنا ولكن أبا الخيزران لا يجد باسا من أن يرويها..
اتسعت ابتسامة آبي الخيزران أكثر من قبل واخذ يبادل الرجال النظر دون أن يتكلم .. وبدا، للحظة، انه غبي .
قال أبو قيس:
-ولكن ماذا يهرب الحج رضا؟لقد قلت انه رجل ثري! .
نظر الجميع إلى آبي الخيزران الذي كف، فجأة، عن الابتسام وعاد وجهه يكتسي بطابع اللامبالاة والتسلط ثم قال بحزم:
-والآن كفوا عن الثرثرة.. يجب أن لا تعتقد يا سيد أسعد انك ذكي إلى هذا الحد.. ماذا قررتم؟
قال أسعد بهدوء؟
-أنا شخصيا لا اهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك فانه لا يعنيني .. ولذلك فإنني سأسافر مع آبي الخيزران .
قال مروان بحماسة:
-وأنا سأسافر معكما.
قال أبو قيس:
-هل تعتقدون انه بوسعي أن أرافقكم، أنا رجل عجوز .. ضحك أبو الخيزران بعنف ثم شبك ذراعه بذراع ابى قيس : -له ! له! يا أبا قيس .. من الذي اوهمك انك عجوز إلى هذا الحد؟ ربما ام قيس ! له! يجب ان تاتي معنا..
كانا قد سارا خطوات قليلة معا وتركا مروان وأسعد واقفين إلى جانب مقعد الاسمنت الكبير، التفت أبو الخيزران من فوق كتفه وصاح :
-سينام أبو قيس معي في السيارة .. وسأزمر لكما صباح غد الباكر أمام الفندق