الفصل الثاني
أسعد
وقف أسعد أمام الرجل السمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، ثم انفجر:
-خمسة عشر دينارا سأدفعها لك ! .. لا باس ! ولكن بعد أن اصل وليس قبل ذلك قط ..
حدق إليه الرجل من وراء جفنيه السمينين وسال ببلاهة :
-لماذا؟
-لماذا؟ ها ! لان الدليل الذي سترسلونه معنا سوف يهرب قبل أن نصل إلى منصف الطريق ! خمسة عشر دينارا، لا باس .. ولكن ليس قبل أن نصل ..
طوى الرجل أوراقا صفراء أمامه وقال بلؤم :
-أنا لا أجبرك على أي شئ .. أنا لا أجبرك .
-ماذا تعني؟
-اعني انه إذا لم تعجبك شروطنا فبوسعك أن تستدير، وخطو ثلاث خطوات، وستجد نفسك في الطريق .
-الطريق ! .. أتوجد بعد طرق في هذه الدنيا؟ ألم يمسحها بجبينه ويغسلها بعرقه طوال أيام وأيام؟ كلهم يقولون ذلك : ستجد نفسك على الطريق ! .. قال له أبو العبد الذي هربه من الأردن إلى العراق:
-"ما عليك إلا أن تدول حول الاتشفور، لا باس أن تضرب قليلا إلى الداخل، أنت مازلت فتى وبوسعك أن تتحمل قليلا من القيظ .. ثم عد، وستجدني بانتظارك على الطريق.. "
-"ولكن هذا لم يكن ضمن الشروط ..لقد قلت لي، ونحن في عمان انك ستأخذني إلى بغداد ودفعت لك عشرين دينارا كاملا .. لم تقل لي أنني سأدور حول الاتشفور.."
وضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر فعلمت أصابعه الخمسة وبان من تحتها لون السيارة الأحمر الفاقع .. كانت السيارة الضخمة واقفة إلى جانب البيت قرب جبل عمان حين تفاوض معه، وهو يذكر تماما كل الشروط التي قيلت :
-"إنها مهمة صعبة، وسوف يأخذونني إلى السجن لو أمسكوك معي، ورغم ذلك فسوف اقدم لك خدمة كبرى لأنني كنت اعر ف والدك، رحمه الله .. بل أننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات .."
صمت أبو العبد قليلا ..كان قميصه الأزرق ينضح بالعرق وأعطاه وجهه الحاد شعورا بأنه أمام واحد من أولئك الرجال الذين يعتقدون أن اجتراح معجزة ما هو واجب من واجبات رب العائلة :
-"سآخذ منك عشرين دينارا .. وسوف تجد نفسك في بغداد .. "
-"عشرون دينارا؟"
-"نعم! وعليك أيضا أن تساعدني طوال الطريق.
سنبدأ بعد غد، علي أن اشحن سيارة صغيرة لرجل ثري في بعداد كان قد أمضى شطرا من الصيف في رام الله ثم رأى أن يعود إلى بغداد بالطائرة.."
-"ولكن.. عشرين دينارا؟"
نظر إليه أبو العبد بالحاج، ثم انفجر:
-" إنني أنقذ حياتك بعشرين دينارا .. أتحسب انك ستمضي عمرك مختفيا هنا؟ غدا يلقون القبض عليك.."
-"ولكن من أين .. احضر لك عشرين دينارا؟"
-"استدن .. استدن، أي صديق بوسعه أن يعطيك عشرين دينارا إذا عرف بأنك ستسافر إلى الكويت.."
-"عشرون دينارا؟"
-"عشرون . عشرون.."
-"إلى بغداد؟"
-مباشرة!
ولكنه كذب عليه، استغل براءته وجهله، خدعه، أنزله من السيارة، بعد رحلة يوم قائظ، وقال له أن عليه أن يدور حول الاتشفور كي يتلافى الوقوع في أيدي رجال الحدود، ثم يلتقيه على الطريق!
"ولكنني لا اعرف هذه المنطقة ..أتفهم أنت معنى أن أسير كل هذه المسافة حول الاتشفور، في عز الحر؟"
ضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر مرة أخرى، كانا واقفين منفردين قبل ميل من الاتشفور وصاح:
-ماذا تعتقد؟أن اسمك مسجل في كل نقاط الحدود، إذا رأوك معي الآن، لا جواز سفر ولا سمة مرور .. ومتآمر على الدولة ماذا تعتقد انه سيحدث؟كفاك دلالا .. انك قوي كالثور وبوسعك أن تحرك ساقيك .. سألاقيك وراء الاتشفور على الطريق.
كلهم يتحدثون عن الطرق .. يقولون : تجد نفسك على الطريق ! وهم لا يعرفون من الطريق إلا لونها الأسود وارصفتها ! وها هو الرجل السمين، المهرب البصراوي يكرر القصة بنفسها.
-ألا تسمع؟ إنني رجل مشغول جدا . قلت لك : خمسة عشر دينارا وسأوصلك إلى الكويت، طبعا عليم ان تمشي قليلا ولكنك فتى في غأية القوة، لن يضيرك هذا .
-ولكن لماذا لا تصغي إلى؟ قلت لك إنني سأعطيك المبلغ إذا ما وصلنا إلى الكويت.
-ستصل ! ستصل!
-كيف؟
-إنني اقسم لك بشرفي انك ستصل إلى الكويت!
-تقسم بشرفك؟
-اقسم لك بشرفي أنني سأتقيك وراء الاتشفور ! ما عليك إلا أن تدور حول تلك المنطقة الملعونة وستجدني بأنتظارك !
لقد دار دورة كبيرة حول الاتشفور، كانت الشمس تصب لهبا فوق رأسه، وأحس فيما كان يرتقي الوهاد الصفر، انه وحيد في كل هذا العالم .. جرجر ساقيه فوق الرمل كما لو انه يمشي على رمل الشاطئ بعد أن سحب زورقا كبيرا امتص صلابة ساقيه .. اجتاز بقاعا صلبة من صخور بنية مثل الشظأيا ثم صعد كثبانا واطئة ذات قمم مسطحة من تراب اصفر ناعم كالطحين.. تراهم لو حملوني إلى معتقل الجفر الصحراوي ..هل سيكونالأمرارحم مما هو الآن؟عبث .. عبث.. الصحراء موجودة في كل مكان، كان أبو العبد قد اعطاه كوفيه لف بها رأسه، ولكنها لم تكن ذات جدوى في رد اللهب بل خيل إليه انها اخذة، هي الأخرى، في الاحتراق ..كان الافق مجموعة من الخطوط المستقيمة البرتقالية، ولكنه كان قد عقد عزمه على المسير بجد .. وحتى حينما انقلب التراب إلى صفائح لامعة من ورق اصفر، لم يتباطأ.. وفجأة بدأت الأوراق الصفر تتطأير فانحنى يلمها:
-شكرا، شكرا ..إن هذه المروحة الملعونة تطير الأوراق من أمامي، ولكن دونها ليس بوسعي أن أتنفس .. ها! ماذا قررت؟.
-هل أنت متأكد من أن الدليل الذي سترسله معنا لن يهرب؟
-كيف يهرب أيها الغبي؟ستكونون أكثر من عشرة أشخاص .. لن يكون بوسعه أن يهرب منكم..
-وإلى أين سيوصلنا؟
-حتى طريق الجهرة، وراء المطلاع، وهناك ستكونون داخل الكويت..
-هل سنمشي كثيرا؟.
-ست أو سبع ساعات فقط..
بعد أربع ساعات وصل إلى الطريق، كان قد خلف الاتشفور وراءه، وكان الشمس قد سقطت وراء التلال البنية إلا أن رأسه كان ما يزال يلتهب وخيل إليه أن جبينه يتصبب دما .. لقد اقتعد حجرا و ألقى بصره بعيدا إلى راس الطريق الأسود المستقيم، كان رأسه مشوشا تخفق فيه آلاف الأصوات المتشابكة، وبدا له أن بروز سيارة كبيرة حمراء في راس تلك الطريق أمر خيالي وسخيف.. وقف، حدق إلى الطريق من جديد، لم يكن بوسعه أن يرى بوضوح بعد، تراه الغسق أم العرق؟ .كان رأسه ما يزال يطن مثل الخلية، وصاح بملء رئتيه:
-أبو العبد . يلعن أبوك .. يلعن أصلك..
-ماذا قلت؟
-أنا؟ لا شئ، لا شئ .. متى ستبدأ الرحلة؟
-حال يصير عددكم عشرة .. أنت تعرف، ليس بوسعنا أن نرسل دليلا مع كل واحد منكم، ولذلك فنحن ننتظر حتى يرتفع العدد إلى عشرة أشخاص ونرسل معهم دليلا واحدا .. هل ستعطيني النقود الآن؟
شد على النقود في جيبه وفكر:"سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في اقل من شهر.. هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقودا في مثل لمح البصر.."
- لا تتفاءل كثيرا، قبلك ذهب العشرات ثم عادوا دون أن يحضروا قرشا…ورغم ذلك سأعطيك الخمسين دينارا التي طلبتها، وعليك أن تعرف أنها جنى عمر..
إذن لماذا تعطيني النقود إذا كنت متأكدا من أنني لن أعيدها لك؟
-أنت تعرف لماذا ..الست تعرف؟أنني أريدك أن تبدأ..أن تبدأ ولو في الجحيم حتى يصير بوسعك ان تتزوج ندى .. انني لا استطيع ان اتصور ابنتي المسكينة تنتظر أكثر.. هل تفهمني؟
أحس الإهانة تجترح حلقه ورغب في أن يرد الخمسين دينارا لعمه يقذفها بوجه بكل ما في ذراعه من عنف وفي صدره من حقد، يزوجه ندى ! من الذي قال له انه يريد أن يتزوج ندى؟ لمجرد أن أباه قرأ معه الفاتحة حين ولد هو وولدت هي في يوم واحد؟ أن عمه يعتبر ذلك قدرا، بل انه رفض مئة خاطب قدموا ليتزوجوا ابنته، وقال لهم أنها مخطوبة ! يا اله الشياطين ! من الذي قال له انه يريد أن يتزوجها؟من قال له انه يريد أن يتزوج أبدا؟ وها هو الآن يذكره مرة أخرى ! يريد أن يشتريه لابنته مثلما يشري كيس الروث للحقل، شد على النقود في جيبه وتحفز في مكانه.. ولكنه حين لمسها هناك، في جيبه، دافئة ناعمة، شعر بأنه يقبض على مفاتيح المستقبل كله، فلو أتاح الآن لحنقه أن يسيطر عليه ليرجع النقود إلى عمه، إذن لما تيسرت له قط فرصة الحصول على خمسين دينار بأي شكل من الأشكال .. هدأ غضبه مطبقا فمه بإحكام وشد أصابعه على النقود الملتفة في جيب بنطاله، ثم قال :
-لا، لا، سأسلمك النقود حالما تجهز الرحلة تماما…سوف أراك مرة في كل يوم .. إنني انزل في فندق قريب ..
ابتسم الرجل السمين، ثم تطاولت ابتسامته فانفجر ضاحكا بصخب:
- من الخير لك أن لا تضيع وقتك يا بني.. كل المهربين يتقاضون نفس السعر، نحن متفقون فيما بيننا .. لا تتعب نفسك .. وعلى أي حال : احتفظ بنقودك حتى تجهز الرحلة، أنت حر..ما اسم الفندق الذي تنزل فيه؟
-فندق الشط ..
-آه! فندق الجرذان! .
نط جرذ الحقل عبر الطريق فلمعت عيناه الصغيرتان في ضوء السيارة وقالت الفتاة الشقراء لزوجها المنهمك بالسياقة:
-انه ثعلب ! رأيته؟
قال الزوج الأجنبي ضاحكا:
-أف منكن أيتها النساء! تجعلن من الجرذ ثعلبا! .
كانا قد التقطاه بعد الغروب بقليل بعد أن لوح لهما وهما في سيارتهما الصغيرة، فلما اوقف الزوج السيارة، اطل هو من النافذة .. كان يرجف من فرط البرد،وكانت الزوجة خائفة منه .. إلا انه جمع بذهنه ما تعلمه من اللغة الإنكليزية و قال :
- لقد اضطر صديقي أن يعود إلى الاتشفور بالسيارة وتركني ..
قاطعه الرجل :
-لا تكذب ..أنت هارب من هناك، لا باس، اصعد.. سأوصلك إلى بعقوبة.
كان المقعد الخلفي مريحا وناولته الفتاة بطانية التفح بها وكان لا يستطيع أن يعرف بالضبط، هل هو يرجف بسبب البرد الصحراوي، أم بسبب الخوف، أم بسبب التعب.. وقال الرجل:
-هل مشيت كثيرا؟
-لست ادري.. ربما أربع ساعات..
-لقد تركك الدليل .. أليس كذلك؟ إن ذلك يحدث دائما .
التفتت إليه الفتاة وسالت:
-لماذا تهربون من هناك؟
أجابها زوجها:
-إنها قصة طويلة .. قل لي .. هل تجيد قيادة السيارات
-نعم ..
-بوسعك أن تأخذ مكاني بعد أن تستريح قليلا .. قد أستطيع أن أساعدك على عبور مركز الحدود العراقي.. سنصل هناك في الثانية بعد منصف الليل، وسيكون المسؤولون نياما.
لم يكن يستطيع أن يركز رأسه على محور واحد، كان مشوشا ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ، ولذلك حاول جهده أن ينام ولو لنصف ساعة..
-من أين أنت؟
-من فلسطين.. من الرملة.
-أوف .. إن الرملة بعيدة جدا .. قبل أسبوعين كنت في زيتا..أتعرف زيتا؟ لقد وقفت أمام الأسلاك الشائكة، فاقترب مني طفل صغير وقال بالإنكليزية أن بيته يقع على بعد خطوات وراء الأسلاك ..
-هل أنت موظف؟
-موظف؟ ها ! إن الشيطان نفسه تأبى عليه براءته أن يكون موظفا.كلا يا صديقي .. أنا سائح..
-"انظر .. انظر، انه ثعلب آخر .. ألم تر إلى عينيه كيف تتقدان؟"
-"يا عزيزتي انه جرذ ..جرذ.. لماذا تصرين على انه ثعلب؟هل سمعت ما حدث أخيرا هناك، قرب زيتا؟"
-"كلا..ماذا حدث؟"
-"الشيطان لا يعرف ماذا حدث ! هل ستستقر في بغداد؟"
"كلا.."
-"أوف! إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟"
أجاب بهدوء:
-"جرذان اصغر منها.."
قالت الفتاة:
-"حقا؟ انه شئ مرعب؟ الجرذ نفسه حيوان مرعب كريه.."
قال الرجل السمين صاحب المكتب:
-"الجرذ حيوان كريه .. كيف بوسعك أن تنام في ذلك الفندق؟"
-"انه رخيص."
نهض الرجل السمين صاحب المكتب واقترب منه ثم وضع ذراعه الثقيلة فوق كتفيه :
-"تبدو متعبا أيها الفتى.. ماذا حدث؟هل أنت مريض؟"
-"أنا؟كلا! "
-"إذا كنت مريضا قل لي.. قد أستطيع أن أساعدك .. لي كثير من الأصدقاء يعملون أطباء ..و اطمئن، لن تدفع شيئا .."
-"بارك الله فيك، ولكنني تعب قليلا.. هذا كل ما في الأمر.. هل سيتأخر أعداد الرحلة؟"
-"كلا، نحمد الله أنكم كثر .. خلال يومين ستجد نفسك على الطريق .. "
أدار ظهره واتجه إلى الباب، ولكن قبل أن يجتازه سمع الرجل السمين يقهقه من وراء كتفيه:
-"… لكن حاذر أن تأكلك الجرذان قبل أن تسافر