أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في JO1R FORUM | منتديات شباب و صبايا الأردن، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .

غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس الفصل الثالث خرج مروان من دكان الرجل السمين الذ

الفصل الثالث خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائح



look/images/icons/i1.gif غسان الكنفاني ..رواية رجال في الشمس
  22-07-2007 10:49 مساءً  
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 04-07-2007
رقم العضوية : 1
المشاركات : 11,318
الدولة : Jordan
الجنس :
تاريخ الميلاد : 10-7-1986
قوة السمعة : 2,147,483,647
موقعي : زيارة موقعي
مروان


الفصل الثالث


خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة .. لم تكن لديه أية فكرة محددة عنة وجهته الجديدة .. فهناك، داخل الدكان، تقطعت آخر خيوط الأمل التي شدت، لسنوات طويلة، كل شئ في داخله ..كانت الكلمات الأخيرة التي يلفظها الرجل السمين حاسمة ونهائية، بل خيل إليه انها كانت مصبوبة من رصاص:
-خمسة عشر دينارا .. ألا تسمع؟
- ولكن…
-أرجوك ! أرجوك ! لا تبدأ بالنواح ! كلكم تأتون إلى هنا ثم تبدأون بالنواح كالأرامل! .. يا أخي، يا روحي .. لا أحد يجبرك على الالتصاق هنا، لماذا لا تذهب و تسال غيري، البصرة مليئة بالمهربين !
طبعا سيذهب ويسال غيره، لقد قال له حسن – الذي اشتغل في لكويت أربع سنين –أن تهريب الفرد الواحد من البصرة إلى الكويت يكلف خمسة دنانير فقط لا غير، وانه يجب أن يكون- حين يمثل أمام المهرب- اكبر من رجل وأكثر من شجاع وإلا ضحك عليه وخدعه واستغل سنيه الست عشرة وجعل منه ألعوبة .
-قالوا أن سعر الواحد خمسة دنانير.
-خمسة دنانير؟هاها! كان ذلك قبل أن تزف حواء إلى ادم .. يا بني، استدر، واخط ثلاث خطوات، وستجد نفسك في الطريق غير مطرود!
جمع شجاعته كلها وحشدها في لسانه، كل ما تبقى في جيبه لا يزيد عن السبعة دنانير، ولقد كان يحسب قبل هنيهة انه غني.. أما الآن .. أتراه يستصغره؟
-سوف تأخذ مني خمسة دنانير وأنت مبسوط .. وإلا ..
-وإلا ماذا؟
-وإلا فضحتك في مخفر الشرطة! .
قام الرجل السمين ودار حول كتبه ثم وقف أمامه وهو يلهث و يتصبب عرقا .. حدق فيه هنيهة قاسه فيها من رأسه حتى قدميه ثم رفع يده الثقيلة في الهواء..
-تريد أن تشكوني إلى الشرطة يا ابن ألـ…
وهوت اليد الثقيلة فوق خده، فضاعت الكلمة في طنين شيطاني اخذ يدور بين إذنيه.. لم يستطع أن يحتفظ بتوازنه للحظة فخطا إلى الوراء خطوتين صغيرتين، ووصله صوت الرجل السمين مبحوحا بالغضب : -اذهب وقل للقواويد انني ضربتك .. تشكوني للشرطة؟
تحفز في مكانه لبرهة وجيزة، ولكنها كانت كافية ليكتشف فيها عبث أية محاولة يقوم بها لترميم كرامته، بل انه أحس حتى عظامه .. بأنه قد اخطأ ـ خطأ ـ لا يغتفر، فاخذ يمضغ ذله وعلامات الأصابع فوق خده الأيسر تلتهب..
-ماذا تراك تنتظر هنا؟
دار على عقبيه، واجتاز الباب إلى الخارج فصفعت انفه روائح التمر وسلال القش الكبيرة .. تراه ماذا سيفعل الآن؟لم يكن يريد أن يسال السؤال لنفسه قط .. ولكنه ليس يدري لماذا كان يحس بنوع من الارتياح .. ترى ما السبب في ذلك؟لقد احب ان يشغل نفسه بالتقصي عن السبب .. ثمة شعور يملا جانبا من رأيه ويوحي له بالارتياح والسعادة، ولكنه لم يكن ليستطيع ان يفصله عن كل الاحداث المؤسية التي احتشدت في صدره خلال نصف الساعة الماضي .. وحين أنتهت كل محاولاًته إلى الفشل اتكأ على الحائط.. كانت جموع الناس تعبر حوإليه دون ان تلتفت إليه، ربما يحدث هذا للمرة الأولى في حياته:
ان يكون منفردا وغريبا في مثل هذا الحشد من البشر ولكنه كان يريد ان يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي له الاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد ان ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي فيحس بان الحياة كبيرة وواسعة وانه سوف يكون في المستقبل واحدا من أولئك الذين يصرفون حياتهم، لحظة اثر لحظة وساعة اثر ساعة بامتلأء وتنوع مثيرين .. ولكن ما السب في كونه يحس الآن مثل ذلك الشعور رغم انه لم يشاهد منذ زمن بعيد فيلما من ذلك النوع، ورغم ان خيوط الامل التي نسجت في صدره احلاما كبارا قد تقطعت، قبيل لحظات، داخل دكان الرجل السمين؟.
لا فائدة .. يبدو انه لن يستطيع اختراق الحجاب الكثيف من خيبة الامل الذي ارتفع دونه ودون ذلك الشعور الملتف على نفسه في مكان ما من رأسه .. وقرر، فيا بعد، ان لا يرهق رأسه قط .. وان يشغل نفسه بالمسير .. ولكنه ما ان ترك الجدار وبدا يمشي في الزحام حتى شعر بيد تربت على كتفيه ,,
-لا تياس إلى هذا الحد …إلى أين ستذهب الآن؟
كان الرجل الطويل قد بدأ يسير إلى جانبه بالفه، وحين نظر اله خيل له انه قد شاهده في مكان ما من قبل، ولكنه رغم ذلك، ابتعد عنه خطوة وصب فوق وجهه عينين متسائلتين، فقال الرجل:
-انه لص شهير.. ما الذي قادك إليه؟
اجاب بعد تردد قصير:
-كلهم ياتون إليه..
اقترب الرجل منه وشبك ذراعه بذراعه كانه يعرفه منذ زمن بعيد:
-اتريد ان تسافر إلى الكويت؟
-كيف عرفت؟
لقد كنت واقفا إلى جانب باب تلك الدكان، وشهدتك تدخل ثم شهدتك تخرج..ما اسمك؟
-مروان .. وأنت؟
-انهم ينادونني "أبو الخيزران."
لأول مرة منذ راه لاحظ الآن ان منظره يوحي حقا بالخيزران، فهو رجل طويل القامة جدا، نحيل جدا،ولكن عنقه وكفيه تعطي الشعور بالقوة والمتانة وكان يبدو لسبب ما انه بوسعه ان يقوس نفسه، فيضع رأسه بين قدميه دون ان يسبب ذلك أي ازعاج لعموده الفقري او بقية عظامه.
-حسنا، ماذا تريد مني؟
تجاهل أبو خيزران السؤال بسؤال من عنده:
-لماذا تريد ان تسافر إلى الكويت؟
-اريد ان اشتغل .. أنت تعرف كيف تجري الامور هناك .. منذ شهور طويلة وأنا.
صمت فجأة ووقف.
الآن، فقط، عرف منشا ذلك الشعور بالارتياح والاكتفاء الذي لم يكن بوسعه، قبل دقائق، ان يكتشفه .. انه ينفتح أمام عينيه بكل اتساعه وصفائه، بل انه هدم، بشكل رائع كل سدود الكآبة التي حالت بينه وبين معرفته .. وها هو الآن يمتلكه من جديد بسطوة لا مثيل لها قط .. كان أول شئ فعله ذلك الصباح الباكر هو كتابة رسالة طويلة إلى امه .. وانه يشعر الآن بمزيد من الارتياح لانه كتب تلك الرسالة قبل ان تخيب اماله كلها في دكان الرجل السمين فيضيع صفاء الفرح الذي صبه في تلك الرسالة .. لقد كان بديعا ان يعيش بعض ساعة مع امه.
نهض باكرا جدا ذلك الصباح.. كان الخادم قد رفع السرير إلى سطح الفندق لان النوم داخل الغرفة في مثل ذلك القيظ وتلك الرطوبة امر مستحيل .. وحينما اشرقت الشمس فتح عينيه .. كان الجو رائعا وهادئا وكانت السماء مازالت تبدو زرقاء تحوم فيها حمامات سود على علو منخفض ويسمع رفيف اجنحتها كلما اقتربت- في دورتها الواسعة-من سماء الفندق.. كان الصمت مطبقا بكثافة، والجو يعبق برائحة رطوبة مبكرة صافية .. مد يده إلى حقيبته الصغيرة الموضوعة تحت السرير فاخرج دفترا وقلما ومضى يكتب رسالة إلى امه وهو مستلق هناك.
كان ذلك احسن ما فعله خلال الشهور، لم يكن مجبرا على فعله، ولكنه كان يريد ذلك بملء رغبته وارادته .. كان مزاجه رائقا، وكانت الرسالة تشبه صفاء تلك السماء فوقه .. ليس يدري كيف اجاز لنفسه ان يصف أباه بانه مجرد كلب منحط ولكنه لم يشا ان يشطب ذلك بعد ان كتبه، لم يكن يريد ان يشطب أية كلمة في الرسالة كلها.. ليس لان امه تتشاءم من الكلمات المشطوبة فقط، بل لانه كان لا يريد ذلك أيضا و ببساطة.
ولكنه –على أي حال –لا يحقد على ابيه إلى ذلك الحد.. صحيح ان أباه قام بعمل كريه، ولكن من منا لا يفعل ذلك بين الفينة والأخرى؟انه يستطيع ان يفهم بالضبط ظروف والده، وبوسعه ان يغفر له .. ولكن هل بوسع والده ان يغفر لنفسه تلك الجريمة؟
"ان يترك اربعة اطفال. ان يطلقك أنت بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك الإمرأه الشوهاء .. هذا امر لن يغفره لنقسه حين يصحو، ذات يوم، ويكتشف ما فعل .
انني لا اريد ان اكره احدا، ليس بوسعي ان افعل ذلك حتى لو اردت .. ولكن لماذا فعل ذلك، معك أنت؟ أنا اعرف انك لا تحبين لاحد منا ان يحكي عنه، اعرف .. ولكن لماذا تعتقدين انه فعل ذلك؟
لقد مضى كل شئ الآن وراح ولا امل لنا بان نستعيده مرة اخرى .. ولكن لماذا فعل ذلك؟ دعينا نسال، لماذا؟
أنا سوف اقول لك لماذا .. منذ ان انقطعت عنا اخبار اخي زكريا اختلف الوضع نهائيا.. كان زكريا يرسل لنا من الكويت، كل شهر حوالي مئتي روبية .. كان هذا المبلغ يحقق لابي بعض الاستقرار الذي يحلم به .. ولكن حين انقطعت اخبار زكريا-نرجو ان يكون ذلك خيرا– ماذا تعتقدين انه فكر؟
لقد قال لنفسه –بل قال لنا كلنا- ان الحياة امر عجيب وان الرجل يريد ان يستقر في شيخوخته لا ان يجد نفسه مجبر على اطعام نصف دزينة من الافواه المفتوحة .. الم يقل ذلك؟ زكريا راح .. زكريا، ضاعت اخباره، من الذي سيطعم الأفواه؟ من الذي سيكمل تعليم مروان ويشتري ملابس مي ويحمل خبزا لرياض وسلمى وحسن؟ من؟
انه رجل معدم، أنت تعرفين ذلك .. لقد كان طموحه كله .. كال طموحه، هو ان يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنوات ويسكن تحت سقف من اسمنت، كما كان يقول .. الآن، زكريا راح .. اماله كلها تهاوت .. احلامه انهارت .. مطامحه ذابت.. فماذا تعتقدين انه سيفعل؟
لقد عرض عليه صديقه القديم والد شفيقه ان يتزوجها. قال له انها تمتلك بيتا من ثلاث غرف في طرف البلد، دفعت ثمنه من لك النقود التي جمعتها لها منظمة خيرية.. وأبو شفيقة يريد شيئا واحدا: ان يلقي حمل ابنته-التي فقدت ساقها اليمنى اثناء قصف يافا- على كاهل زوج! انه على عتبة قبره ويريد ان يهبطه مطمئنا على مصير ابنته التي رفضها الجميع بسبب تلك الساق المبتورة من اعلى الفخذ.. لقد فكر والدي بالأمر: لو اجر غرفتين وسكن مع زوجته الكسحاء في الثالثة إذن لعاش ما تبقى له من الحياة مستقرا غير ملاحق بأيما شئ .. واهم من ذلك ..تحت سقف من اسمنت ..
-اتريد ان تبقى واقفا هنا إلى الابد؟
نفض رأسه وسار.. كان "أبو الخيزران"ينظر إليه من طرف حدقتيه، وخيل إليه انه على وشك ان يبتسم ساخرا.
-ما بالك تفكر بهذا الشكل؟ ان التفكير غير ملائم لك يا مروان، مازلت صغير السن .. والحياة طويلة..
وقف مرة اخرى والقى برأسه إلى الوراء قليلا:
-والآن .. ماذا تريد مني؟.
واصل "أبو الخيزران" المسير فلحق به من جديد:
-استطيع ان اهربك إلى الكويت ..
-كيف؟
هذا شاني أنا.. أنت تريد ان تذهب إلى الكويت اليس كذلك؟ ها هو ذا إنسان بوسعه ان ياخذك إلى هناك .. ماذا تريد غير ذلك؟
-كم ستأخذ مني؟
-هذا ليس مهما في الواقع ..
انه المهم.
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فانشقت شفتاه عن صفين من الاسنان الكبيرة الناصعة البيضاء ثم قال :
-ساخبرك الأمر بكل صراحة.. أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي: لا بأس من ان ارتزق فاحمل معي بعض من يريد ان يذهب إلى هناك..كم بوسعك ان تدفع؟
-خمسة دنانير..
-فقط؟
-لا املك غيرها.
-حسنا، ساقبلها ..
وضع أبو الخيزران يديه في جيبه ومضى يسير بخطوات واسعة حتى اوشك مروان ان يضيعه، فاضطر إلى اللحاق به مسرعا، الا ان أبا الخيزران وقف فجأة وهز اصبعه أمام فمه:
-ولكن! لا تقل ذلك لأي إنسان .. اعني إذا طلبت من رجل اخر عشرة دنانير فلا تقل له انني اخذت منك خمسة فقط..
-ولكن كيف تريدني ان اثق بك؟
فكر أبو الخيزران قليلا ثم عاد فابتسم تلك الابتسامة الواسعة وقال:
-معك حق! ستعطيني النقود في ساحة الصفاة في الكويت ..في العاصمة.. في منتصف العاصمة، مبسوط؟
-موافق!
-ولكننا سنحتاج إلى عدد اخر من المسافرين .. وعليك ان تساعدني، هذا شرط.
-انني اعرف واحدا ينزل معي في الفندق ويرغب في السفر.
-هذا رائع، أنا اعرف واحدا اخر .. انه من بلدتي في فلسطين أيام زمان قابلته صدفة هنا .. ولكنني لم اسالك ماذا تريد ان تفعل في الكويت .. هل تعرف احداً؟
وقف مرة اخرى، الا ان أبا الخيزران شده من ذراعه فعاد يخب إلى جانبه ..
-ان اخي يعمل هناك .
هز أبو الخيزران رأسه فيما كان يسير متعجلا ثم رفع كتفيه فغاصت عنقه وبدا اقصر من ذي قبل..
-وإذا كان اخوك يشتغل هناك .. فلماذا تريد أنت ان تشتغل؟ الذين في سنك مازالوا في المدارس! ..
-لقد كنت في المدرسة قبل شهرين، ولكنني اريد ان اشتغل الآن كي أعيل عائلتي..
وقف أبو الخيزران ثم رفع كفيه من جيبه وثبتهما على خصريه واخذ يحدق إليه ضاحكا..
-ها! لقد فهمت الآن .. اخوك لم يعد يرسل لكم نقوداً، اليس كذلك؟
هز مروان رأسه وحأول ان يسير، الا ان أبا الخيزران شده من ذراعه فاوقفه ..
-لماذا؟ هل تزوج؟
حدق مروان إلى ابي الخيزران مشدوها ثم همس:
-كيف عرفت؟
-ها! إلى لا يحتاج إلى ذكاءه خارق، كلهم يكفون عن ارسال النقود إلى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون ..
أحس مروان بخيبة أمل صغيرة تنمو في صدره، لا لانه فوجئ، بل لانه اكتشف ان الأمر شائع ومعروف، لقد كان يحسب انه يخنق صدره على سر كبير لا يعرفه غيره: حجبه عن أمه وعن أبيه طوال شهور وشهور .. وها هو الآن يبدو على لسان ابى الخيزران كانه قاعدة معروفة وبديهية..
-ولكن .. لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يتنكرون لـ…
صمت فجأة، كان أبو الخيزران قد بدا يضحك :
-أنا مبسوط انك ستذهب إلى الكويت لانك ستتعلم هناك اشياء عديدة .. أول شئ ستتعلمه هو ان: القرش ياتي أولا، ثم الاخلاق .
-حين تركه أبو الخيزران على امل لقاء بعد الظهر كان قد فقد –من جديد- كل تلك المشاعر الرائعة التي كانت تغسله، من الداخل طوال الصباح .. بل انه استغرب كيف تكون تلك الرسالة التي كتبها لامه قد اعطته الشعور الرائق الذي جعل خيبة امله تبدو اقل قيمة مما هي في الواقع .. رسالة سخيفة كتبها تحت وطاة الشعور بالوحدة والامل على سطح فندق حقير مرمي في طرف الكون.. ما هو الخارق في الأمر؟ أيحسب ان امه لا تعرف القصة كلها؟ ماذا كان يريد ان يقول؟ اكان يريد ان يقنعها بان هجران زوجها لها ولأولادها امر رائع وطبيعي؟
إذن لماذا كل تلك الثرثرة؟ انه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع.. ولكن هذا لا يغير شيئا من الحقيقة الراعبة .. الحقيقة التي تقول ان أباه قد هرب .. هرب .. هرب.. تماما كما فعل زكريا الذي تزوج وارسل له رسالة صغير قال له فيها ان دوره قد اتى، وان عليه ان يترك تلك المدرسة السخيفة التي لا تعلم شيئا وان يغوص في المقلاة مع من غاص..
كل عمره كان على طرفي نقيض مع زكريا.. بل انهما كأنا-في الواقع –يكرهان بعضهما .. زكريا لم يكن يستطيع ان يفهم قط لماذا يتوجب عليه ان يصرف على العائلة طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجئ إلى المدرسة مثل الاطفال.. وكان هو يريد ان يصبح طبيبا .. كان يقول لامه ان زكريا لن يفهم قط معنى ان يتعلم الإنسان لانه ترك المدرسة حين ترك فلسطين وغاص منذ ذاك، في المقلاة، كما يحب ان يقول.
وها هو الآن قد تزوج دون ان يقول ذلك لاحد غيره، كانه كان يريد ان يضعه أمام ضميره وجها لوجه .. ولكن ماذا ترك له ليختار. لا شئ غير ان يترك المدرسة ويعمل، يغوص في المقلاة من هنا وإلى الابد!
لا باس ! لا باس .. أيام قليلة ويصل إلى الكويت .. إذا ساعده زكريا كان ذلك افضل، إذا تجاهله فلسوف يعرف كيف يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى الكثيرون.. ولسوف يرسل كل قرش يحصله إلى امه، سوف يغرقها ويغرق اخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة الهية .. ويجعل أباه ياكل اصابعه ندما!
ورغم ذلك، فانه لا يكره أباه إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو ان أباه مازال يحبهم جميعا .. لقد تاكد من ذلك تماما حين ذهب إليه يودعه قبل ان يسافر، لم يقل لامه انه سيذهب إلى بيت شفيقة والا لكانت جنت .. قال له أبوه هناك:
-أنت تعرف يا مروان بان لا يد لي في إلى، هذا شئ مكتوب لنا منذ بدء الخليقة.
قالت شفيقة:
-قلنا لامك ان تاتي وتسكن هنا لكنها لم تقبل .. ماذا تريدنا ان نفعل أكثر من ذلك؟
كانت جالسة فوق بساط من جلد ماعز، وكان العكاز ملقى إلى جانبها، وفكر هو: "ترى أين ينتهي فخذها؟" كان وجهها جميلا ولكنه حاد الملامح مثل وجه كل أولئك المرضى الذي لا يرجى لهم الشفاء، وكانت شفتها السفلى مقوسة كانها على وشك ان تبكي ..
قال أبوه:
-خذ، هذه عشرة دنأينر .. قد تنفعك .. واكتب لنا دائما.
حين قام رفعت شفيقة ذراعها في الهواء ودعت له بالتوفيق، كان صوتها فاجعا وحين التفت إليها قبل ان يجتاز الباب بدأت تشهق بالبكاء . وقال له أبوه:
-وفقك الله يا مروان يا سبع.
وحاول أن يضحك إلى انه لم يستطع فاخذ يربت بكفه الكبيرة الخشنة على ظهره بينما تناولت شفيقة عكازها واستوت واقفة بحركة سريعة، كانت قد كفت عن البكاء.
صفق الباب وراءه وسار . كان مازال يسمع صوت عكاز شفيقة يقرع البلاط برتابة، وعند المنعطف تلاشى الصوت



الساعة الآن 04:06 PM