أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في JO1R FORUM | منتديات شباب و صبايا الأردن، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .

بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..

بعضُ ما خبأتهُ الرياض 1 أتسكع بسيارتي الجديده في الشوارع الفسيحة وأفكر : لماذا أنتي موحشةٌ أيتها الرياض ، لماذا يكون الضجر سيد أوقاتك دائماً


اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 2 من 10 < 1 2 3 10 > الأخيرة


10-05-2011 12:55 صباحاً
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
بعضُ ما خبأتهُ الرياض

1

أتسكع بسيارتي الجديده في الشوارع الفسيحة وأفكر :
لماذا أنتي موحشةٌ أيتها الرياض ، لماذا يكون الضجر سيد أوقاتك دائماً !؟ كأن سمائكِ تمطرُ الملل كل لحظة!
اعتدتُ في أوقات فراغي الكثيرة أن أقطعها من شرقها لغربها على غير هدى، جميلةٌ هذه العزلة ، ثمة فرق بين العزلة و الوحده ..
الوحده أن تكون منبوذاً من الآخرين ،
العزلة أن تجعل مِنك أنتَ رفيقاً لأوقاتك غير عابيءٍ بدعوات من حولك !

أتسكعُ على أنغام الموسيقى المنبعثة في هدوء ، غالباً ماتكون الأغاني التي أختار سماعها ميّالةً للشجن ، ذائقتي لا تختارُ إلا أصحاب الحناجر الحزينه والموسيقى الباكيه، فريد عبادي سلامة موسيقى بيتهوفن بيانو سازبيلمان هؤلاء الخمسة لا يمكن أن يجتمعون إطلاقاً إلا في سيارتي ، الحزن يجمعهم ويوحد فنهم !

أتسكع، فإذا أعياني الإرهاق والضيق توقفتُ إما عند مقهىً على قارعة طريقٍ أنيق ، أو زرتُ شقة صديقٍ لأجاذبهُ الأحاديث المكرورة المملة ..غالباً لا يكون هذا الإختيار صائباً لأني أجد في حضرتهِ غرباءاً يحيلونني لأخرسٍ يستمع فقط ، لا أجيد الحديث مع الغرباء !

من حينٍ لآخر أتوقف عند ماجد ، صديق الدراسة القديم ، لديه محلٌ للكمبيوتر يستقر فيه من العصر حتى الليل ، مع أن احاديثه لا تعجبني كثيراً لأن غالبيتها عن البرامج والنظم التي لا أفهم فيها شيئاً! مع ان صمتهُ طويل لإنشغاله في صيانة الأجهزة التي تتكدس في مستودعه ، إلا إنهُ مكانٌ للإسترخاء حيناً والقراءة أحياناً أخرى ، حجةٌ أدفع بها ضجر اليوم العاصميّ الطويل !

وأتوقفُ عند المحل ، هاهو ماجد مطرقُ الرأس منهمكاً مع جهازٍ في يده ، لم ينتبه لسيارتي التي توقفت أمام الباب ، وعلى صوت البوق المنبعث من سيارتي جراء قفلها بجهاز التحكم عن بعد / يرفع رأسه ! رآني ، يشير لي بيده ضاحكاً .. أدفعُ الباب في رتابه ..تنقر زجاج الباب أصوات الدناديش المعلقة فوقه ، صوتٌ ممل أحفظه جيداً .. يقوم ماجد باشاً فأصافحه في رتابه مدعياً الحماسة ..ممسكاً في يدي برواية أحلام التي لم أكملها .. حملتها معي لأني أعلم أن حفاوة صديقي ستقل شيئاً شيئاً حتى ينسى وجودي نهائياً جراء استغراقه في أجهزته اللعينه ..

كعادتي كل مرة ، اتخذت مقعداً وجلست، أقلب عيني في المكان وأرقب السيارات المسرعة على الطريق ،أو مستمعاً لزبائن ماجد الذين يجيدون الثرثرة في كل شيء إلا الأحاديث الممتعة !
مرت ربع ساعة ولم يخذلني ماجد، لم يخيب ظني هذا العالِم الأصلع ، تحدثنا قليلاً ،ثم رويداً راح يفك ويربط و ينقر على الكيبورد ويحمل ويبدل ... وكأن الكرسي المجاور فارغ، نساني كعادته !

ها قد طابت القراءة ، لمثل هذه الأوقات خُلقت القراءة ، أضع قدماً على الأخرى ، وأروح أقرأ .." ذاكرة الجسد " ..
هذه الرواية تسرق اللب ، كما تأخذ ماجد هواية الأجهزة اللعينه أخذتني هذه الأوراق لعوالم أخرى : المحارب الرسام ذو الذراع الوحيده والثورة الجزائرية والسي طارق وقسطينه ..
رحت أسبح مع أحلام حين راح يسبح ماجد مع صيانته التي يحب ..

ترتفع أصوات الدناديش مرةً أخرى والباب يُفتح ، يقبل أحد الزبائن ويقوم ماجد .. وأنا المستغرقُ مع أحلام كجمادٍ لا يدري ما حوله .
ما أجمل هذه الرائحة .. رفعت رأسي :
ملاكٌ يحملُ جهازاً يكاد أن يقطع نفَسَه ، هذه الرقة لا ينبغي لها أن تحمِل إلا أنوثتها فقط .. يا للفتاة الحسناء ..
أقبلت ناحية الصديقين ، الغارقيَن في الصمت على الطاولة الرصاصية .. قالت بصوتٍ خفيض جميل : مساء الخير !
وأنا أسترق النظر من فوق الأوراق قلتُ بصوتٍ لا يكاد يبين : مـ ساء الـ نو ر !

:
:


2



كانت تقفُ طاعنةً هذا الفضاء بقوامها الممشوق، جسمها متموسقٌ لدرجة القتل ، ترتدي عباءةً طُرّزت لتزيدها فتنة ، كأنما كانت هذه العباءة إكسسواراً آخر للأناقة لا للستر ..
هذا الكحل الذي يلامسُ عينيها هو الشيء الأكثر حظاً في الدنيا .. ومن خلف نقابها تنحسر رؤوس وجنتيها كشمسين آذنتا بمغيب ..
وقفت كأنما تستفز الصبر .. رائحة عطرها كانت تحيل المكان جنة .. كلما تحركت انحسرت عبائتها عن بنطالٍ أزرق يطل كسوط عذاب !
وضعتْ اللابتوب فوق الطاولة ، كانت يدها السمراء قريبة مني لدرجة الرعب ،سمّرتُ أنظاري على أناملها الرقيقة وأظافرها التي يتراقص فيها لون التوت ..

في بلدٍ آخر ، من السخف أن يلفتك الجمال الجزئيّ ، هناك في البقاع البعيده .. يُكشف الستار عن الجمال كله ، تشاهده في كل طريق .. تتماشى معهُ لدرجة الروتين !
في الرياض ، الأمر مختلف .. هذا المنظرُ يعتبرُ ترفاً لأمثالي .. هذه اللمحات من الجمال تشعرك بالنشوة بالإرتواء ثم .. البكاء !

كانت تخاطب صديقي عن جهازها المملوء بالفايروسات .. وكنتُ أقول في نفسي: بربكِ أتلومينها ؟
لو كنت فايروساً مااخترتُ إلا جهازك .. لسكنتهُ و تأملتكِ ساهمةً أمام الشاشه وشممت عطرك كل ماانثنيتي و صافحت يديك كلما نقرتي على لوحة المفاتيح !
لا قوة في الدنيا ستخرجني .. ولا حتى هذا الماجدُ عدوّ الفايروسات الأول !

في بلدٍ مثل الرياض .. يُترك الحديث للعيون .. هذه الأعينُ لها أبجديةٌ خاصه .. كانت عيني تتكلم كثيراً .. تخاطبها تدللها تسائلها ..
كلما التقت عيناها بعينيّ صرفتُ نظري لأي جهة .. ثم أعود ناحيتها تاركاً الحديث لعيني !
كان نظري كذبابةٍ لعينة .. كلما صرَفتها بيدها ونستها قليلاً .. عاود الطيران والوقوع في ذات المكان !


أيتها السمراء ألا تسمعين دويَ انفجارات قلبي ؟ انظري لأشلاء الشاب المتحطم أمامك !
ليستْ مشكلتكِ هذا الحاسوب اللعين ..تباً له ، هناك بني آدم .. روحٌ تُزهق !
لطالما قلتُ لأصدقائي أن السَمار أجملُ ما تتحلاهُ أنثى .. لطالما نافحتُ عن هذا اللون كأفخم صنفٍ في قائمة ألوان الوجوه ..
كانوا يقولون : البيضاءُ أجمل .. فأفلسف الجمال كأغريقيّ :
نعم للبياض قدسيّته ، لكن أمامهُ ، وفي أسوأ أحوالك ، تستطيع أن تملك زمام أمورك ..
السمراء وحدها من تمرّ بك فتجعلك تطلق تنهيدةً مسموعة كما لو كانت روحك تنسلّ من جسدك !
أينهم هؤلاء الأصدقاء المتفيهقون ، آه لو كانوا هنا .. لقدموا لي الإعتذار واحداً تلو الآخر !


من زحمة أفكاري أفقتْ ، لا أدري أين ذهبَ ماجد .. دخل إلى المستودع الخاص به وتركنا لوحدنا .. راح وأتى إبليسُ ثالثنا !
كان شيطان الغواية يصرخ بي : كلمها يا مغفل !.. والشاب المغفل يجيب : ماذا أقول ،كيف أبدأ !
يعاود الإلحاح : ستندم .. إن ذهبتْ هكذا ستندم .. خاطبها ادعُها للجلوس يا مغفل .. انظر لقد تبرمت من الوقوف !

قفزتُ ملقياً كتابي الذي نسيته مفروداً على ركبتي، قربتُ لها مقعداً وقلت:
- تفضلي بالجلوس ..
ابتسمتْ وقالت شكراً ... قلت في نفسي : ينبغي أن يأتيَ الشكر من الكرسيّ !

عاد ماجد .. تباً للحضور الرديء .. كنتُ سأسألها عن جهازها وقيمته إستدراجاً للحديث ليس إلا ..
أنا آخر من يهتم بهذه الكمبيوترات .. فقط هذا اليوم شعرتُ أنني بحاجةٍ لأدرك بعض جوانبها وأعرفها أكثر ..كنتُ سأفتح محاضراتٍ عن هذه الحواسيب الغبية !
لسوء حظي ،حين كنتُ أنوي سؤالها عاد ماجد ..
عاد يحملُ جهازاً آخر ، أعطاهُ لها .. شكرتهُ وانصرفت !
خرجتْ كمصارعٍ قويّ .. أردى خصمه طريحاً على الحلبة وخرج ..لم أكلفها إلا دقائق ، هزمتني و دق الجرس وانتصَرت !

لن تعود .. سحقتني وتركتني للشقاء .. ستذهب لأمها لغرفتها لتخاطب صديقاتها و تلهو وتنام كأنما لم تفعل شيئاً..
هكذا هنّ الفاتنات، هذا كل ما يتقنّ إجادته.. يفطرن القلوب .. يسلبن النظر .. يجندلن الخصوم دون حتى أن يعرفنَ عن المعركة الدائرة شيئاً !
هه ياللبراءه

دقيقتين من الوجوم ، شعرتُ بأن المحل بات صحراء مجدبه بعد أن كان واحةً غنّاء..
قررتُ الخروج ، شعرتُ أنها أخذت معها الأكسجين من هذا الحيّز وانصرفت ،
أخذتُ كتابي مبتسماً ..
عندما جاءت كنتُ أقرأ الصفحة الثمانين في رواية أحلام، انصرفَت وأنا في ذات الصفحة !


وأنا أترنحُ في طريقي للخروج ، لمحتُ جهازها الذي غادرتْ بدونه ..

سألت ماجد في لهفة : هل ستعود ؟!
أخبرني أنه أعطاها بديلاً ريثما يصلح هذا .. ستعود لتأخذه بعد العشاء !

هتف إبليس في رأسي على الفور : لم تنتهِ المعركة ياصديقي .. احشد قوّاتك.. أمامك فرصةٌ أخرى!
رددتُ على الفور وأنا ابتسمْ :
موعدنا العشاء ، أوَليس العشاء بقريب !

:
:


3

أقفُ مجدداً أمام باب محلّ ماجد .. عاد من صلاة المغرب حينَ عدتُ من بيتنا للتوّ .. ذهبتُ وارتديتُ أجمل مالديّ ، نعم أظنني قررتُ التهوّر !
أن أندم على ما أفعل خيرٌ من الندم على ما لم أفعل !
ليس من عادتي حين أخرج من عندِ ماجد أن أعود له في ذات اليوم ، أحتاجُ أسبوعاً على الأقل لأكرر الزيارة ..
أن أزورهُ بعد ساعه من مغادرتي هذا غيرُ مألوف ..قبل أن يسألني قلتُ مبتسماً :
-اشتقتُ لك !!

دخلنا ، كان صوت الدناديش الناقرة على الباب هذه المرة صوتاً أشبه بتغريد العنادل في الشروق ..
لم يكن مملاً ، هذا الصوتْ سيكونُ بعد ساعة أشبهَ بمعزوفةٍ تزفّ مقدم الحسناء التي سلبتني عقلي ..
صوتُ أذان العشقِ رافعاً نداء الجمال أن حيّ على الحب أيها الأبله !

جلستُ وفي بالي يعتملُ ألف سؤال ، كيف أشرحُ لماجد المتعقل ما أنا بصدده !
ماجد صارم ، رجلٌ يعشق العمل ويحترمُ زبائنه كأنهم أبناءه .. أن أقول لهُ أني عشقت زبونتك كأني أنتهكُ حرماته !
هو من النوعِ الجاد ، شابٌ كان ينبغي أن يكون في ألمانيا مثلاً .. في اليابان ، في العالم المتقدم .. وجوده في الرياض غريب ، هو لا يواكب الموجة الشبابية أبداً ..
تنحنحتُ وسألته :
- ماجد ، منذ كم ونحن نعرف بعضنا ؟!
وبلهجةٍ جادة أجاب - منذ المتوسط !
قالها بلا مبالاه ، قالها وهو يقلّب رُكام هذ الحديد يبحثُ عن قطعه كما لو كان يبحثُ عن ذهب !
أمسكتُ بذراعه وأدرتهُ صوبي :
- أعرفكَ وتعرفني منذ عشر سنين .. هل تعلم ماهي عشر سنين ؟ مئات الأسابيع .. آلاف الساعات !
- وإذا ؟!
اللعنه على صرامتِك ليس وقتها الآن أيها الرجل البفاريّ !

- بعد كل هذه الصداقة يا ماجد ، لو احتجتُ منك مبلغاً من المال أتساعد ؟!
- بالتأكيد ، محتاج كم ؟
- لا شكراً ، دعني أواصل ، لو رأيتني أُضرب في هذا الشارع الذي أمامك ، أكنت تتخلى عني ؟!
- ههه أجننت ؟ طبعاً لا
- ماجد ، لا أريد منكَ مالاً ولا أن تقاتل من أجلي أحداً .. أريد ربع ساعة فقط !
- ؟
- بحق السنين الماضيات ، بحق الساعات الطوال ، بحق هذه الصداقه .. حين تأتي زبونتك صاحبة هذا الجهاز توارى في مستودعك ربع ساعة !
- ............
- لنفرض أن أمك استدعتك لضرورةٍ ملحة ، أكنت تبقى في المحلّ ولا تخرج ؟ يا سيدي اِعتبر أمك استدعتك ربع ساعة ، واتركني معها قليلاً !
- ههههههههه جاد ؟
- نعم ، أرجوك دعني أغامر ، كنتَ على وشك أن تقرضني مالك الآن ، شكراً ، لا أريد .. أقرضني فقط ربع ساعه من وقتك حين تأتي،
دعني أدير المحل بدلاً عنك لدقائق ، هل سألتك من قبل خدمة ؟ أرجوك لا تصفعني بالرفض يومَ فعلتْ ، بحق صداقتنا يارجل !

أقسمتُ لهُ أني لن أتهوّر بأكثر من الكلام ، سأعرض عليها صداقتي ليس أكثر !
أقسمتُ له كتعهدٍ رسميّ ان أتحمل كافة الضرر ومايترتبُ على حماقتي من نتائج وأنهُ ليس داخلاً في خيوط اللعبة أبداً !

وعلى وقعِ صوته وهو يقول : طيب، لك ربع ساعة مو أكثر !
.. رحتُ أتنفسُ الصعداء غير مصدق .

ما هو الإنتظار ؟ هو طريقٌ محفوفٌ بالغيب ، أن تنتظر ، هذا يعني أن تتأرجح طويلاً بين شعور اليأس وشعور الأمل !
بعد إقناعي لماجد دار حديثٌ عاصف أشد ضرواةً مع نفسي .. نشبت حربٌ ضروس بين الخير والشر في اعماقي
كان جانبي الطيّب ، ملاك الخير الذي تلقّى تربيته في بيتنا وكبُر على نصائح والديّ يهتف بي :
- ماذا تفعل أيها المجنون .. أقلع عن نواياك في الحال ، هذا عملٌ لا يليق بك أبداً !
ويهتفُ جانبي السيء ، ملاك الشر الذي تربّى في ردهات الشوارع متسكعاً كل هزيع ليل :
- بطل ، الهروب جبن ، سحَقتكَ في الأولى دون مقاومة ، اثبُتْ لها في الثانية ، وما الحياة إلا التجاربْ !

نعم صفعتني ، لم يكن مجيئها الأول إلا صفعه !
وأعلم أني أقل من إتقان الرد بذات الفعل والتأثير ، لكن يكفيني على الأقل أن تشعُر أن المصفوع لم يسكتْ !
أحياناً تخذلنا القوة ، لكنَ التعبير عن الإضطهاد وصوتُ الإعتراض ليس حكراً على الأقوياء فقط !
لن أكونَ نملةً في بيتٍ حقير يطأها من يطأها ولا يشعرُ بها ..
أريدُ أن أكون على الأقل تلك النملة التي لم يمنعها ضعفها أن تقف لجيش سليمان !

حوار الذات هو أشرسُ حوارٍ على الإطلاق،
أأنتظر ؟ أم أنسى الأمر برمته ..
إنقسمتُ بين هاتين الفكرتين ، كل واحدةٍ تملكُ ألف حجةٍ مقنعة !

وباولو كويلو ذاك اللعين ، كأنه ينظر لحيرتي من بلاد السامبا، كأنهُ رآني يوم قال :
الإنتظار مؤلم ، والنسيان كذلك .. لكن أسوأ أنواع المعاناة هو اتخاذ قرار انحيازك لأيٍ منهما !

نعم أسوأ مافي هذه الحيرة النفسيّة إتخاذ قرارٍ نهائي ، إما المغامرة وإما الإنسحاب ..
لكن مهلاً ..
كل القراراتِ الناجحة في هذه الدنيا ، كل هذه الأفكار العظيمة في العالم ،
كل المشاريع التي أثبتت جدواها عبر التاريخ والجغرافيا..
ماكانت لتظهر لولا كسرُ الخوف !
ماكانت لتكون أساساً ، لو وقع أصحابها فريسةً لأنياب الخوف ،
لا نجاح إلا بعد تخطي الخوف ، بعد الإنطلاق يكمنُ التقييم ليس قبله !


يا سيد كويلو ، يا سيد ماجد ، يا أيتها الحواسيب، يا هذه الدنيا:
لقد قررتُ الإنتظار ! أقبلي أيتها الفاتنة


يبتبع.....


look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  10-05-2011 08:42 صباحاً   [1]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
4


ربما لا نحقق النصر في كل حرب ، لكن الإنتصارات لا تصنعها إلا المواجهة !
الإنتصار/الهزيمة .. لا يتحققان على الورق .. هناك في الميدان يتضح الأمر !

الجُبن ، الهروب ، الإدبار ، هذه أبجديّة الجبناء ، أولائك الذين يعيشون حياتهم رتيبةً ممله ، يقبعون في الدنيا كحجارةٍ في جبلٍ منعزل ، لا تجيد إلا البقاء في صمت !
المواجهة، الجسارة، الإقدام ، شريعةُ الأبطال في الأرض ، هؤلاء من يعيشون حياتهم كما ينبغي، مليئةٌ بالصخب بالتجارب يخلقون الإثارة والمجد لذاتهم .
كل إنتصار ، كل ثورة ، كل مشروع عظيم ، كان في البداية فكرة ، تحولت لتنفيذ !

الجبان ، رجلٌ يخشى السباحة ، يريد من الناس أن ينقلون لهُ تجاربهم في التعلم ، يمدونه بالنصائح ، يستعينُ بهم صارخاً لو سقط في الماء !
الشجاع، رجلٌ يتقن السباحة ، تعلمها ذاتياً ، راح يلقي بنفسه في المياه حتى حذقها ، ليس في حاجة أحد هو المغتني بنفسه !
وأنا الثاني لا أريد أن أكون الأول الرعديد !

على هذه الأفكار تتوقفُ سيارة اليوكن ، فيرانيّة اللون ، يتوارى ماجد في المستودعِ الخلفيّ تاركاً لي وابليس إدارة المكان !
يُفتح باب السيارة فتستقبل الأرض حذاء السبور كعاشقٍ يحتضن عشيقته ، رأيتها وهي تنزل بمشقة من هذه السيارة المرتفعة ..
في البدء لمحتُ الساق اللدن الذي أطلّ متأرجحاً في الهواء بين السيارة والإسفلت ، ثم البنطال الأزرق منزلقاً على الساق كقواتٍ تُلجم ثوره ، ثم العباءة تغمرها كالليل يوم أقبلت تمشي صوب الباب !

صوتُ الدناديش يغني سيمفونية بيتهوفن الخامسة ،
ثم صوتها مغنياً : السلام عليكم ..
وصوتُ ابليس في رأسي يهمس : ها قد التقى الجمعان ، أسرج لها الخيل ولتطلق أعنتها ..

نهضتُ متأنقاً ، وقفتُ بقميصي الأبيض والجينز والشعرُ المسرّح للوراء والعطر الباريسيّ وتقدمتُ بصمت ناحية الكرسي المجاور ..
حملتهُ واتجهت به إليها أرد السلام بلهجةٍ كأنها لا تكترثُ بالزائر الذي اقتحم المكان !
الإنطباع الأوليّ أهم الأوراق الرابحة .. لا بناء بدون أساس .. لبناء العلاقات والصداقات يجبْ أن يكون الإنطباع الأولّ راسخاً متيناً كأرضٍ صلبة تستطيع الوقوف عليها !

- أستميحكِ عذراً ، لدى صديقي عادةٌ سيئة ، يخرج لبيتهم القريب أو لقضاء بعض حوائجه ويتركني أواجهكم أيها الزبائن المتبرمون ..
دقائق وسيأتي أرجو عدم المؤاخذة سيدتي
- آها ، لا عادي .. بس أتمنىّ ما يطوّل
- اطمأني ، ماجد لا يستطيعُ البقاء بعيداً عن هذه الأجهزه ، تماماً كالسمكة المحتاجة للماء دوماً .. دقائق وستشاهدينه مقتحماً هذا الباب لاهثاً منقطع النفَس .. يتنفس الحواسيب صدقيني !
رأيتُ عينيها الدائريتين وقد ارتفعتا لأعلى أظنها ابتسمتْ ،
راح إبليس يصفق في رأسي كرجلٍ يجلس في المقعد الأماميّ يشاهد مسرحية ، ويصيح :
-برافو ..أحييك .. بطل .. هيا تصاعَد تصاعَد

لم تجلس أمامي ، راحت تقلب عينيها في لوحات المفاتيح الجديده وجموع الماوس والهيدفون والسيدي ..
لم تخاتلني ولو بنظره ، كل هذه الأناقة كل هذا الإعتداد لم يجعلها تكلف نفسها اختلاس لمحه..
يالنا من مساكين أبناء الرياض ..نجهلُ لغة الأنثى تماماً .. كل مانقوم به مجرد تخمينات لا أكثر ...
أحدنا يقول : الأناقة ..نعم الأناقة تسرق الأنثى
يرد آخر : لا ، الأسلوب .. أهم شيء أسلوبك في الخطاب!
الثالث : لتجذب الأنثى ناحيتك ، عليك أن تضحكها .. نعم أظنه الإضحاك
يروح ليلنا رجماً بالغيب .. نتخرص الدروب المؤدية إليهنّ ..
في بلادٍ أخرى .. سيضحكون كثيراً من هذا الحوار ..
في بلادي .. هذا الحوار مقدس .. غايتهُ نبيلة .. نتعاونُ على فك أسرار اللعبة المجهولة !

عندما كان نيوتن ينظر للتفاحة ، يحلل سقوطها ، يتأملها على الأرض .. كان كل همه الوصول لنقطة الجاذبية.
كلنا في الرياض نيوتن .. كلنا نتأمل تفاحاتنا يلفحنا الحرمان .. نبحث عن أسرار الجاذبية !

سأقتلُ هذا الصمت .. سأبدأ :

- هل تريدين بعض الشاي ؟
إلتفتت صوبي بسرعه وبلهجةٍ نزقة : لا شكراً !

راح إبليس يرميني بالطماطم ، تباً لك يا أبله .. أتحسب نفسك في مقهى أيها النادل الأحمق .. شاي ! شاي لعنة الله عليك |!؟
تراجع .. انسحب تكتيكياً لدقيقه ثم احشد قوّاتك من جديد يا فتى المشروبات !!


كانت واقفةً أمام رفوف المحل مائلة الجذع ، تتخصر يدها السمراء أوسط جسمها وتنقل بصرها في كل شيء إلا أنا!
تحمل شنطةً انيقه فوق كتفها كانت تلامس جسمها الغض ببراءة !
تقف بهذا الميلان والتخصر والحقيبة المتدلّية التي تزيد عباءتها تضوّقاً لتفصح عن كثير !
كانت أمامي وتقاطيعها تبوحُ بأسرار ما خلف الستار !
آه لو كنتُ رساماً .. نحاتاً .. لكنتُ أقف الآن أمام كنزٍ ثمين ولقطةٍ خالدة !
لكني أبله .. لا أتقن إلا الفرجه ... غادرتني أبجديتي وفقدت النطق ..

أصعبُ الأشياء أولها .. أن تبدأ ، هذا يعني أن تتكلف المشقة الهائلة .. كل ما بعد البدء أسهل !
البدايات أشبه بحجرٍ يسد الطريق ، لا تقدم لا مراوحة إلا بزحزحة هذا الحجر ..
كان بيني وبينها ثمة أحجارٍ هائلة .. تكبلني عن بداية الإنطلاق عن اشتداد المسير !

حتى المشاهد الوحيد لهذه المسرحية .. صديقي ابليس الذي روّج لهذا العمل كله .. كان أخرساً في مقعدهِ الأمامي !
يراقبني صامتاً .. أدرك جيداً فيما يفكر ؟ ! خذلهُ البطل !

أحلام مستغانمي بالنسبةِ لي ، لا تعدو كونها كاتبة ، تتقن فن الرواية لا أكثر !
لكن لم أعلم أنها في يومٍ من الأيام ستكون بالنسبة لي أكثر من ذلك ..
طوق نجاة مثلاً !

وقعت عينا سمرائي الجميلة بعد كل هذا الوقت على " ذاكرة الجسد " ..
مرمية ً على الطاولةً ،
كنتُ واقفاً عند الصفحة الثمانين ، عطلتني فاتنتي عن متعة القراءة !

راحت تغرد بصوت الكروان تسألني :

- مجنونة أحلام صح ؟!
كانت تسألني !
نعم ، لأول مره .. توجه حديثها ناحيتي ..
الخرس .. حالة التوهان .. اللاوعي .. كل هذه الثلاث كنت أنزلق في عتباتها واحدةً بعد اخرى !

- قرأتها ثلاث مرات وأنوي قراءتها للرابعة مجدداً ، كل مافيها مبهر ..

هه مازالت تحدثني ، تخاطبني .. هذا حوار ،
ها قد انزاح الحجر وبدأ الإنطلاق !
أخذتُ أتأملها واجماً

صاح إبليس من مقعده كمشاهدٍ بلغ به الحماس مبلغه :

تكلم ..أيها الغبي تكلم !


:
:


5


قديماً ، كنتُ أضحك ممن يقضي أوقاته بين دفات القصص والروايات، ماهي القراءة ؟ هي الحياة النظرية !
الخروج ، التسكع ، مواجهة الناس .. هذه الحياة العمليّة ، التجربة الحقة..هي الرواية الأصدق !
هؤلاء الكتاب يجيدون الثرثرة عبر الورق ، كأنما يبيعون يوميّاتهم وخلاصة تجاربهم .. يدّعون أنهم حريصون على تقديم المعرفة وبث الوعي ..
محظوظون ببلهاء يتلقون ما يأفكون .. لو خرج أحد العظماء من قبره يتحدثُ عن سيرته لفرغت القاعة ثالث يوم وانفض الجمع من حوله ..
لكن لو قدم سيرتهُ في كتابٍ أنيق معنون كما ينبغي ، لتهافت الناس على قراءة ما حبّر ..يتصنعون الثقافة والنبل !

كانت لديّ عقدةُ القراءة .. لا أعرف الإمساك بكتاب والبقاء أسيراً له كما يفعل غيري ..
لكن مع الوقت ، بدأتُ أتصالح مع الورق ، ورويداً رويداً رحتُ منغمساً في القراءة ومتابعة المشهد الثقافي وأبرز وجوهه .


لحسن حظي أني أحببتُ الروايات ، لحسن حظي أني ارتبطتُ بأحلام على وجه التحديد .. لولاها لما كنتُ الآن أمام هذه الفرصة السانحة !
الآن عرفتُ فائدةً أخرى للقراءة !
عندما سألتني سمرايَ عن أحلام.. أحسستُ بشغفها اللامحدود بها وبالرواية التي بين يديّ ، عرفت أن باب الحظ يُفتح للمرة الأخيره ..
الآن الآن وليس أي وقتٍ آخر ، إما أن أخلق التأثير أو تباً لي وللثقافة أبد الآبدين ..

واضعاً قدماً على الأخرى ، مرتخياً للوراء ، سمّرت عينيّ بعينيها بطلاقة .. ورحتُ أتحدث كأكاديميٍ متخصص :

- لدى أحلام أهم ورقةٍ على الإطلاق : سحر اللغة ! أحسدها كثيراً .. بإمكانها أن تكتب كل مايخالجها من شعور وعاطفة وأحاسيس دون أن يمل قارئها ..
أنتِ أنهيتي قرائتها أكثر من مره ، ألم تلحظي شيئاً مهماً : كانت تكتبُ قصة بطلها بأسلوب المونولوج الباطني .. دفع مافي الذات إلى السطح ، البوح ولا غير البوح !
هذا الحديثُ الذاتيّ أصدق حديث ـ لا زيف فيه لأنه ينبع من أعماق النفس.. قد تتحدثين مع إحداهنّ فيمتلأ الحوار بالزيف بالمجامله بالنفاق ،لكن حديث الذات صادق ، ليس إلا الحقيقة !
شاهدي في المسلسلات ، حين يريدُ المخرج أن يوصل للمشاهد حيرة بطله ، يجعله ساهماً يفكر في إطباق ، وصوتهُ يتحدث للمشاهدين كناية ً عن الإنهماك في التفكير و الإضطراب ..
لو كان البطلُ يتحدثُ عن همومه لأحدهم، ربما يظنه المشاهد يكذب يزيف يبالغ .. لكن حديثهُ لروحه هو أصدقُ تعبيرٍ يصل الى من خلف الشاشه ،
الإقناع .. هذا ما فعلته أحلام ..كتبت بهذا الأسلوب البارع وتفوقت

كان حديثي وسيلةً لغاية ، كنتُ أتحدث لأصطاد لا لأخلق حواراً جدياً !
كنت كمن يقفُ على جال بحيرةٍ مُدلياً سنارتهُ في الماء ويقول للسمكه هيّا اقتربي!

يبدو أن حديثي راق زبونتي .. هاهي سمكتي تتقدمُ خطوة ، عينيها تمارسُ شيطنةً تعبثُ بمن يقابلها ، صوتها الناعم يحاولُ صفع ثقتي وهي تقول :
- أوافقك تماماً .. كنتُ أٌقرأها بإندماجٍ تام . بكيتُ كثيراً في مشهد زواج حبيبته بقسطينه ، توقفتُ عند ذلك الجزء كثيراً ..

مشهد الزواج لا أعرفه ، لم أصل إلا للصفحة الثمانين ، حرقتي علي الرواية يا فاتنتي لكن لا يهم .. سأراوغ :

- بالمناسبة ، أحلام هنا ليست مبتكرة ، الإنغماس في الشخصيات وسبر أغوارها وإيضاح معالمها ومايعتمل في خفائها فنٌ روسيّ بإمتياز !
الروس هم من يجيدون حقاً تصوير شخوصهم وصراعاتها النفسيه و حيرتها ونزعات الخير والشر فيها .. هل قرأتي لديستويفسكي مثلا ً ؟ تولستوي ؟ تشيخوف وإن كان ساخراً نوعاً ما ؟
كلهم يتعمقون في الذات البشريّه ، كتاباتهم تعتبر مراجعَ هامة في علم النفس.. دوستويفسكي نشأ مريضاً بالصرع .. هذا المرض هذه الحالة النفسية أثّرت كثيراً في أدبه ، صار بارعاً في رسم المعاناة البشرية من الداخل ، حين يورد الجريمة في كتاباته صدقيني هو لا يوردها ليخلق إثاره أو يرسم حبكة ، إنما ليفصّل دافعيّتها وأغوار منفذها ..

على وقعِ إصغائها رحتُ أواصل :

- نجيب محفوظ ، أبرع العرب الذين طرقوا هذا النهج ، في روايةٍ كامله اسمها " قلب الليل " يتحدثُ عن شخصيةٍ وحيده ، ممزقه مطحونه ، اقرأي ثلاثيّته لتشاهدي براعة الوصول للعمق .. واقرأي كيف صوّر بطله أنيس زكي في ثرثرة فوق النيل ، أنيس ذلك الأشلاء المتبقية لإنسان ، الرجل الكافر بالحياة المترسب في بحر الإحباطات المتتاليه ، ثمة فروقات هائله بين الروائيين ..هناك من يكتبها ناقلاً لك تجربة حياةٍ لم تعشها ، هذه الحياة قصيرة والرواية تعطينا حياوات كثر .. بقعة ضوءٍ هائلة على جوانب لم نكن لنتلمسها على أرض الواقع ..
وهناك من يكتبها هراءاً منبثاً يحشد فيها الإثارة المبتذلة والحرف الرخيص وينعم بالشهرة التي يمحنها إياه مراهقٌ سيلعنهُ حين يكبر !
في الرواية هناك من يسبح على السطح وهناك من يغوص ، أحب الغوّاصين في قيعان الأنفس البشرية ليستخرجوا كل خفاياها من الأعمق . همنقواي فاز بنوبل عن روايةٍ واحده تتحدث عن عجوز يصطاد سمكة قرش ويسحبها من منتصف البحر الى الشاطيء، 200 صفحة تصور صراعاً مع هذا القرش واضطرابات هذا العجوز وتقلباته بين الفرح والخوف والحزن .. إما ان تضيف الرواية لقارئها أو فإنها عبث لا أكثر .. كامو صاحب رواية الغريب الفائز عنها بنوبل أيضاً كان يحكي عن شخصيةٍ وحيده تترقب وقت الاعدام والأفكار والكوابيس التي تمر به .. يقول كامو بعد فوزه بالجائزة :يجب أن تكون الرواية فلسفةً مصوّرة !


تأكدتُ أني أثرتُ فيها قليلاً .. هاهي تجلسُ على الكرسيّ دون دعوه .. سنارتي تهتز أخيراً وقصبتُها تتقوّس بشدة .. سمكتي ابتلعت الطُعم وراحت تغرد :
- أحب كثيراً روايات العاطفة والرومانسية.. لهذا ربما لم أقرأ للذين ذكرتهم ،مشكلتي أنحازُ للحزن بالذات .. تأسرني التراجيديا رغم بؤسها ..
- كتابة الحزن أسهل طريقٍ للوصول ، جادةٌ ممهدة ! أصعب شيءٍ هو أن ترسم بسمة أو تهِب معرفة .. هذا طريقٌ وعِر يحتاجُ إمكاناتٍ جبارة ..
الحزن بات سِمةً يتحلّاها كثير من المثقفين ليبينوا عن أنفسٍ عركت الحياة وعرفتها ..
صاروا يظنون الإغراق في الحزن نوعُ من النضج ..
أنا أحترم الحزن كحاله كشعور وقتيّ لا أصدق به كنمط ..أكفر به رداءاً على الدوام ..تولستوي يكفر بالسعادة المطلقه والحزن السرمديّ ..
وأنا كذلك !

-إذاً ماذا تقول عني ؟ حتى في السينما أترك كل شيء وأتتبع بوليود لأنها .. آها.. كما تعرف.. دموع في دموع .

قالتها بلهجةٍ عذبه ..كانت ترفع حاجبيها وهي تقول " كما تعرف " ، نطقت عبارتها الأخيرة وهي تهزأ ساخرةً من نفسها ..
لكنتُها الضاحكة كانت أطربَ ما سمعت . ولأول مرةٍ منذ جاءت رحتُ أبتسم لها ..
كنا كصديقين على طاولةِ مقهىً في بيروت تحفنا الأشجار ، لسنا مخنوقين بالطابعات والشاشات والحواسيب في الرياض ، قلتُ على الفور :
- المخرج الهنديّ لو خيّروه بين جائزة الأوسكار أو قاعه تغصّ بالمتفرجين الباكين على فيلمه .. لاختار الأخيره هههه

ما إن أنهيتُ عبارتي إلا رأيتها تضعُ راحة يدها على فمها من خلف العباءة تداري شهقةً صدحت بصوتٍ عال وهي تضحك ،
أظنّ الصديق الذي قال عن الضحك "مفتاحُ الأنثى" كان أصدقنا تخميناً !
على أنغام ضحكاتها كنتُ أغرق في الفرح .. وإبليس الذي كان صامتاً يراقب الحوار ، هاهو يدفن سبابتيه تحت لسانه ويصفر لي بإعجاب !
لا ياماجد ..أرجوك لا تخرج ، لا تعكر صفو الحفلة .. إنتظر في سردابك يا إمام الصيانةِ لا عجل الله فرجك !

قامتْ تطعن الفضاء من جديد ، علقت حقيبتها على كتفها الشريف ، عينيها تبسِمان لي وهي تقول :
- على كلٍ ، يبدو أن صديقك لا ينوي العودة .. سأوصي السائق بالمرور غداً ، شكراً لك

هرعتُ إلى الباب كأني أريد صدها عن الخروج ، قلتُ أرجوكِ انتظري قليلا ً ..

خرجتُ أقفز الدرجات الثلاث راكضاً لسيارتي ، لبثتُ فيها قليلا ً أبحث عن غايتي وأنا أنوي رفع الستار عن التهوّر الأخير ..
بسرعة صعدت درجات المحل ودخلت لاهثاً :

- تفضلي
- ماهذا ؟
- رواية " الأبله " ليدستويفسكي ، لن تجديها في الرياض أبداً .. وصلتني من البحرين وأنهيتها قبل اسبوع ، أرجو أن تقبليها
- ولكن
- لا تقولي أي شيء ، إذا أنهيتيها ، أو لم تعجبك، بإمكانك إرسال السائق لهذا المحل وإعادتها .. صدقيني هذا الروسيّ تجربةٌ ثرية !

وضعت الكتاب في حقيبتها وقالت شكراً.... !
- إسمي فيصل
- شكراً فيصل !


خرجتْ ،

وقفتُ أتأملها والسائق المحظوظ يفتح لها باب السيارة مقترباً منها دون أن يقول له أحدهم شيئاً ..وقفتُ أمام باب المحل أشيّع شمسي الآفلة ..
كعاشقٍ أشرف فوق التل يرقب قافلة حبيبته التي سارت بها ولا يدري متى اللقاء !
رحتُ أرقب هودجها -اليوكن - يتوارى بين جموع السيارات المتدافعةِ كالحجيج ..

دخلتُ المحل لأجد ماجد ، وجدتهُ يبتسم ، قلتُ وأنا آخذ روايتي الجميلة " صديقة السمراء/ذاكرة الجسد ":
- كنت أخشى مقاطعتك لي .. كنت أفكر ماذا سأقول لها لو أطللتَ من مستودعك الخلفيّ وأنا الذي كذبتُ بشأن ذهابك للبيت !
- لا ،كنت أستمع لك جيداً أيها الناقد الأدبيّ فآثرتُ الإنزواء، تعال ، ماهو هذا الديتسوفسكي ؟
أجبت ضاحكاً - نوع من أجود سنارات الصيد !
- سمعتك تقول لها تفضلي ، بالله ماذا أعطيتها لتشكركْ ؟
أجبته وأنا أقهقه هذه المره :
-أعطيتها كتاب ، مجرد كتاب ياصديقي ، يحوي بين أوراقه الثقافة والأدب والمعرفة والتشويق والحبكة وإسمي ورقم هاتفي الجميل
- يا الملعون !
- الموتُ للجبناء .


قبل أن أخرج من ميدان معركة السمراء ، إلتفتّ صوب ماجد :
- طلبتُ منك 15دقيقه لكنك أمهلتني أكثر من ذلك !

.. وهو يفتح أحد الأجهزة ليبدأ الإصلاح :

- أظن صداقتنا تستحقُ أكثر من ربع ساعة !

:

:


6

منبه الجوال و صوتُ أمي خلف باب الغرفة كلهم يوقظني للجامعة .. أزحتُ غطائي عني وجثمتُ وسط السرير أتثاوب .. أحك رأسي وأفكر !
آخر خاطر قبل النوم ، كان السمراء .. قضيتُ ليلةً من التفكير الطويل والسباحة في الخيال حتى غرقت !
أول خاطرٍ حين صحوت ، كانت السمراء " اللعنة لم تتصل " !

غسلتُ آثار النوم عن وجهي ولكن من يغسل عقلي مما يدور فيه !
أتأمل في المرآة وجهي وأفكر : أتُراها حين تتأملُ وجهها وهيئتها كاملةً أمام المرآة تعجبُ بنفسها أم ألِفت زينتها .. مرآتها أسعدُ الأشياء طراً !
عثرتُ في عصا المكنسة الكهربائية وأنا أنزل للدور الأرضي ، ألقيتُ بوابلٍ من الشتائم على الخادمة المسكينة التي وقفت مطرقةً في خوف !

حين وصلتُ سيارتي وقفتُ ألعن كل شيء ، لقد نسيتُ مفاتيحي في الغرفة !
صعدتُ سريعاً .. جلبتها .. نزلتُ وأنا أفكر :
هذا الصباح يزورها الآن كما يزورني .. هذه الشمس تسطعُ أشعتها علي وعليها في ذات الوقت .. سرت فيني خِفةٌ وتراقصتُ لهذا الشعور فابتسمت !

في القاعه ، كان الدكتور يتحدث بحماسَه وأنا في بحر ٍ آخر ، أتواجدُ جسداً في المكان لا أكثر ، روحي هناك ترفرفُ مع سمراي !
أسترق النظر تحت الطاولة لهاتفي ، جعلتهُ صامتاً لكن لم تنقطع عيني عن تأمله .. كل وميضٍ كان يجعلُ قلبي يخفق بشدة ..و حين أكتشف أن المتصل أحد السخفاء أصدقائي سرعان ما ألعن الحظ وألعنُ حتى المتصل المسكين !

سمعتُ ضحكاتِ الطلاب فانتبهتُ لأجد الجميع ينظر لي باسماً، وصوتُ الدكتور يجلجل في القاعة ذات المدرج المتموّج :
- هيّا أجب !
- .. أعدِ السؤال لو سمحت !
- لن أعيده ، أنتَ أخبرني عماذا تحدثتُ الآن !

على حمرة الخجل المتراقصة في ملامحي ، وعلى تقريع الدكتور وضحكات زملائي جلستُ وأنا أتمتم :
- "بالطقاق" .. لا تتصل !

وأنا في الطريق للبيت أمني نفسي :
ربما لم تفتح الكتاب ، روايةٌ بحجم " الأبله ".. تحتاجُ وقت فراغٍ هائل ونفسيةً مرتاحه لتُقرأ بإنسجام ، نعم نعم .. لم تفتح الكتاب حتى الآن !
ثم يقفزُ تحليل آخر :
ربما فتحته البارحة .. قرأتْ في مقدمة الرواية إهدائك المضحك فرمتها على السرير واتضح لها أنك مخاتل لا أكثر !
أو ربما إمعاناً في تأديبي ، شرعت في قرائتها وبدأت تستلذ بأحداثها متجاهلةً رقمي المسكين في أول صفحة !

كنتُ كتبتُ على صفحته الاولى وأنا في السيارة قبل إعطاءهِ إياها :
" أُهدي أجمل ماقرأت ، لأجمل عينٍ رأيت .. فيصل / .......055541 "

يا للحيلة الرديئة ، كنتُ بالأمس أتراقصُ لها واليوم أعلنُ براءتي منها .. شعرتُ أني أحمقٌ جداً!
أفكر وسرعتي تتجاوز ال140 على الطريق :
عادت لغرفتها البارحة ، خلعت عن نفسها ملابس الخروج ، ارتدت بيجامتها الفاخره ، استلقت على السرير وفتحت الكتاب ..
استلقت على السرير بالبيجامة .. استلقت على السرير ، استلقت .. أردد هذه الصورة في عقلي ! ! أواصل :
فتحت كتابي متشوقةً للرواية الممدوحه ، ضحكت بصوتٍ عالٍ على الإهداء السخيف ، ضحكتْ أكثر من ذلك الأداء التمثيلي البارع الذي قام به ذلك المغفل في المحل ..
قالت لنفسها : كنتُ أظنهُ أديب بحق يتضح أنهُ الآن مجرد مراهقٍ لا أكثر ! ألقت كتابي عنها وراحت تقرأ مجلةً للأزياء والموضة !

سخِرتُ من نفسي وأنا أتصوّر هذا المشهد ، ربما هذا ما حدث فعلا ً .. يا للناقد الأدبيّ المضحك !


العزلة كانت إختياري أنا ،
لا شيء عندي يعدلُ متعة القراءة في غرفتي أو جولة بالسيارة في انحاء الرياض الفخمه ..
يبدو أن عزلتي قد تسرب لها الآن شيءٌ من الأذى ،
أن أبقى هكذا مفكراً في تلك العيون ، أن أبقى هكذا أتأمل الجوّال ..أن أحادث نفسي بشأن تلك العيون المجرمة ، سأجنّ !


أصدقائي أربعةٌ منذ أمد ، لم يزيدوا أبداً منذ سنين ، يجتمعون دوماً في شقة صديقي فهد .. وأنا أكثرهم غياباً عن هذا الجمع ..
تباً لذاكرتي ، كيف نسيت ماجد ! ماجد أصبح من الأمس أعز الأصدقاء ..
أحب مجالسة أصدقائي .. إعتزالهم هذا لايعني أنهم مليئين بالسلبيات التي أترفع عنها ، العلة فيني أنا .. أنا من يجنح للعزلة والبقاء على هامش حياة الآخرين .
لم أعد منفرداً كذئب في أطراف قرية .. داهمتني السمراء ! شاركني خيالها المؤذي كل تفاصيلي .. قاسمني يومي وتسكعي وحتى قراءتي !
طالما قد انتفت عني صفة الوحده ، فليشاركني أوقاتي من يرفهُ عني .. لا من يجعلني مجرد عصبيٍ حانق !
اليوم يومُ الأصدقاء .. وداعاً عزلتي الهادئه !

********

- هلااااا نجيب محفووظ !
كالعاده فهد يستقبلني بلسانه اللاذع وأنا أسلّم عند مدخل الشقة ، لم يرد حتى السلام !
- "ترى حليمه بولند وهي حليمه على سن ورمح، إذا دق عليها احد .. ترد " هههههههههه !
آآه يافهد، مازلت في غيّك القديم .. لو رأيتَ مارأيتُ البارحه لألقيت حليمة من الدور العلويّ لذاكرتك !
- " لازم نبخششك عشان تسيّر " ؟ ثم متوجهاً بحديثه للأصدقاء الضاحكين : " قايل لكم في هالديرة ماتمشي أمورك إلا بدهن سير وواسطه " !
على صوت الضحكات الصادحة في أرجاء المكان أخذتُ مقعدي ورحنا نتحدث في كل شيء !

حين نمتلأ بالفراغ ، تستحيلُ الأشياء التافهة لقضايا كبرى !
نتجادل للجدال ، نتحدثُ عن أي شيء في كل شيء ، لو مرت نملةٌ تافهه بيننا صارت محور نقاشٍ ضاحك تتعالى فيه الأصوات أينا لمحها أولا ً !
بين البلوت و أغاني القنوات الصادحه وفتيات الفيديو كليب يروح ليلنا العاصميّ سريعاً سريعاً ..
على سحب السجائر المُحيلة فضاءات الغرفة لضباب ، وعلى بعض الرشفات المحرّمة من كؤوسٍ نتحصلها بصعوبه وبثمنٍ متضاعف عن سعرها الأصلي ..
وعلى صوت ضحكاتنا المترنحة في سماء الليل يروحُ الوقت يجري كعداءٍ منطلقٍ ليحرز المجد لنفسه وبلده ..

ربما وحدي من يدركُ أن هذا الوقت يُهدر ، كلهم مقتنعون بأن مانمارسهُ هو المتعة المنشوده !
لهذا ، أصبحتُ مثار سخريتهم لأني الوحيدُ الذي يهتم للكتب والقراءة ويعتزل مجلسهم الموقر إلا في الإسبوع مرة ...
وفهد هذا الصديقُ الذي منذ عرفتُ الدنيا عرفته ، رفيق النخل والسواقي في القرية القديمه .. هو أشدهم لذعاً لبعض ممارساتي التي يسميها غير مفهومه !
قال لي ذات مره وأنا أحمل كتاب الحرافيش لنجيب محفوظ ، بكم اشتريته ؟ أخبرته أني أنفقت لأجله 45 ريال !
راح يضحك ويقول :
أعطني نصفها وأقص عليك قصصاً أمتع مما ستقرأ له ! من يومها راح يسميني نجيب محفوظ .. ماموقفُ نجيب يا ترى لو سمع نبأ هذه التسمية ؟!

الواحدة منتصف الليل ، نغلق باب الشقة متجهين لسياراتنا .. هزيعُ الليل يسخر من مشية بعضنا المترنحه وعيوننا المحمرة وضحكاتنا الصادحة بلا أسباب..
لا أدري من قال "ما أرق الرياض في آخر الليل ".. هو يكذب ، ربما كان جالساً بجوار أديب لبنانيّ يتغزل في بيروت ومصري يتغنى بشرم الشيخ .. فأراد إطراء الرياض مقلداً ليس إلا ..
الرياض في الليل موحشة ..تصطف فيها البيوت والمحلات المغلقة كأسنانٍ تتجاور في فك رجلٍ ميت ! رجلاً غارت عيناه ويبست جمجمته وبات رفاتاً لا ملامح له ..
الرياض في الليل لا وجه لها .. تمر فيها السيارات المتقطعة كشهبٍ في السماء تعبرها بسرعه ..
لا وجه لها يا ذاك الذي قلت : " لو بغيت ، أخذتها من يدها ومشيت " ، بربك أسمعتَ عن فتاةٍ لها أطراف وليس لها وجه .. هذه فتاة من الجن ، مرعبه !

ارتميتُ في سيارتي الغارقة في الظلمه .. انطلق كل اصدقائي لبيوتهم .. وحدي بقيتُ خلف المقود في مواقف العمارة السكنية التي علقت عليها لافتةٌ تقول " للعزاب " !
كانت معلقةً فوق نافذة شقتنا بالضبط ، أتأملها ساخراً وأتذكر مقولة احلام :
في قسطينة ، هناك كل شيء يدعوك للشراب لكنه ممنوع ! بلدٌ توفر لك كل أسباب الشرب ثم تحرمها عليك !
لا أدري وهذه الجملة تخطرُ في رأسي .. أتذكرت الرياض؟ .. أم تذكرتُ السمراء التي تحب أحلام ..لا أعرف !
لكني أعرف اني تذكرت مقولة ذلك الأديب الذي نسيتُ اسمه ورحت اشتمه ، قال لا عشق إلا بعد معرفة .. هذا لأنهُ لم يعش في الرياض ..!
وميض الجوال يشق العتمة ..
أرفعهُ بيدٍ مرتعشة .. ليس رقماً مخزناً لدي .. تتراقص أرقامه العشرة في ليل السيارة الواقفة بأمر قائدها الحزين !
عشرة أرقام يعلوها ساعة جوالي تخبرني أنها الواحدة والربع ، أوسدت الهاتف أذني وبصوتٍ متعب :

- ألو
- هلا .. فيصل ؟



يتبع ...

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  10-05-2011 04:34 مساءً   [2]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
7


جاء صوتها هادئاً يشق صمت الرياض، ينسابُ كنسمةٍ باردةٍ تداعب غصناً أخضر ، نطقتْ إسمي متسائلةً إن كنتُ أنا .. ووقفتُ عن الجواب لبرهه .
كان إسمي ينبعثُ بين شفتيها كـ قبله !
"فيصل؟" هكذا نطقتهُ مستفهمةً تستجلي الأمر، قالتهُ بصوتٍ حاد يستفسر، راحت أذني تستقبلهُ كما لو كانت تسمعه أول مره ..
كان إسمي جميلاً جداً ..شعرتُ بإنّي أحمل الإسم الأجمل في المدينه .. همسَت بهِ في ليل السيارة المتوقفة فحركت فيّ إحساساً لم أفهمه ..

- اي نعم .. مرحبا ؟
نطقتُ عبارتي الأخيرة وأنا لا أدري كيف أبدأ أو ماذا أقول ، أشبهَ بطفلٍ يتعلم المشيَ بعد الحبو ..
- عرفتني ؟
لا ، ليستْ حانقه .. لو كانت كذلك ما رمت بهذا السؤال ، لكانت تنطلقُ في مرافعاتٍ غضبى الآن ! لمزيدٍ من سماع صوتها العذب رحتُ أتغابى :
- لا ، عفواً من معي ..
ضحكتْ كأنما تقولُ لي أيها الكذوب ..
- أنا اللي أعرتـَها الكتاب بالأمس !
- آها .. صاحبة الجهاز ؟
سؤالٌ آخر أطمحُ لسماع إجابتها ، على طريقة / هل من مزيد أيها الصوتُ الناغم .. أجابتني فوراً :
- " إمممهه "
هكذا .. لم تجب بكلمة ، فقط همهمت بهذه النغمة في غنج علامة الإيجاب ...
كأنها تعرفُ سطوة صوتها فراحت تقتصدُ في إستهلاكه !

توقفتْ وتوقفتُ أنا ..
مرت سياره ثم أخرى أنا أرمق الطريق في صمت من خلال مرآتي الخلفية ..
كنا غارقين في السكوت كأنما جمدت الألسن بغته .. كأنما انتهتْ المكالمة .. أضعُ الهاتف على أذني وتضعهُ على أذنها لنسمع صمتنا !

ربما ظنت أني من النوع الذي يُعتمد عليه في فتح آفاق الحوار ..
ربما توقعتْ أن عليها فقط أن تتصل وتترك أمر النقاش للشاب الجريء يُدير دفته ..
بالتأكيد هالها صمتي ،
أردتُ تحرير لساني من رقدتهِ فاستعصم ، أردتُ دفع الحديث لأي وجهة فعثرتُ بحجارة الرهبة ووقعت !
ماذا تحسبني ؟ رجلاً يلتقي النساء كل يوم .. ؟ رجلا ً يجيدُ مناقشة الأنثى كمناقشة الرجال ؟


في غمرة أفكاري استيقظتُ على صوتها ينقذ مأزقي :

- يبدو أنك مشغول !
هه، بربك توقفي عن إضحاكي يا سمراي؟! لو اتصلتي وأنا في غمرة انشغالي لأجلتُ كل شيء وفرغتُ لك !
سأخرق تلك الحكمة وأؤجل عمل اليوم إلى الغد .. آه لو تدرين ، مبلبلٌ يا سيدتي لستُ مشغولا .. أي شغلٍ في الواحدة والنصف !
أجبتها بسذاجة :
- لا ، بالعكس .. إنما .. فقط متفاجئ بعض الشيء ..
كانت جملةً رديئه تمتلأ بألف ثغره ، إنما هي محاولةٌ لإرتكاب الحديث !

- متفاجيء ؟ طيب ليش كتبت رقمك !؟
هيّا .. أولى ثمار جملتك الغبيه ، إذاً فلتحصد ثمار ما زرعْت!

حركتُ سيارتي وسلكتُ الطريق أمشي على مهل .. ربما حركة السيارة تصيبُ عقلي ولساني بالعدوى !
فكرت : لا مزيد من الخجل ، تذكر .. الإنطباع الأول أدومُ خاطر !
حسناً :

- سجلتُ رقمي لأحدثك ، راق لي حقاً ذاك النقاش في المحل بالأمس !
- يبدو أنه النقاش كان مجرد وسيلةٍ لغاية !
أيضاً هي بادرتْ بالجرأة ونزع رداء الخجل .. هذا ماتريدين ؟ إذاً هيا ننطلق :

- سأكون كاذباً إن قلتُ أشياء كثيرة ..
إن أخبرتكِ أني لم أطمع في محادثتك .. انعتيني بالكاذب .
إن قلت جئتي ومضيتي دون ترك أثر .. قولي لي كاذب .
وكاذبٌ جداً إن قلتُ أنكِ كأي أنثى صادفتها يوماً !

رميتُ بعبارتي وأنا أردد في نفسي : هذه الجرأة، فلتشبعي نهمكِ يا فاتنتي !

لم يطلْ صمتها كثيراً .. كأنها ضحكت وهي تقول :
- واو .. صريح جداً !
رحتُ أجترّ الحديث ..
- هل تعلمين ماالفرق بين الصراحه والوقاحه ؟
- ها ؟
- الصراحه أن أخبركِ شيئاً حقيقياً .. الوقاحه إخباركِ مالا تودين سماعه! وأظنني جمعتُ الإثنتين !
-إممم لا غلط !، الصراحه أن تخبرَ بالصدق ، الوقاحه نوعٌ من الكذب وتشويه الحقيقه !
- أبداً ! كلاهما حقيقه .. كلاهما خبرٌ صادق .. هل تعرفين فلسفة الكاتب الفرنسي اندري مورا بخصوص هذا الأمر ؟
يقول : الصراحه هو النقد الذي نسمعه ممن يحبوننا ونحبهم. الوقاحه هي مانطلقه على الصراحة ذاتها حين تأتي ممن لا نحب !
- ماشاء الله ، يعني الأمر متوقف على مشاعرنا تجاه الناقل ؟ صدقني مامعه سالفه مورا ههههههه

على صوتِ ضحكتها كنتُ أقفُ بعيداً جداً عن بيتنا ..
طرقاتٌ لأول مرةٍ أعبر من خلالها ، كنتُ أقود كالأعمى وأستمتعُ بالحديث العذب !
تركتُ لأذني دفة القيادة .. مع كل جملةٍ كنتُ أنعطفُ عبر أقرب ممر ، غصتُ في متاهات المدينة !
أين أنا ؟ لا يهم .. المهم أني على الهاتفِ مع هذه العذبه !

بصوتٍ بشوش سألتْ :
- أتوقع إنك بالسياره !
- كيف عرفتي ؟
- صوتُ السيارات المارّه ، صوتُ الهواء القوي ...
ضغطتُ على بوق سيارتي.. راحت على الفور تقول :
- وأيضاً صوت المنبه هههه
فـ ضحِكنا سوياً..

قلت لها أنها نست أهمّ شيء .. صوتُ الأنغام الصادحةِ من المسجل !
يالغبائي .. ليست كل البيوت بيتنا !
أخبرتني ضاحكةً مني أن الأغاني ليستْ حكراً على السيارات ، قالت ها أنا في غرفتي و لا يكف صوتُ محمد عبده عن الغناء !
وقنواتُ الفيديو كليب لاتهدأ حتى أقرر النوم !
وأننا كشباب ، محظوظون جداً لحريتنا في الخروج والدخول متى نشاء ..

على إثر حديثها رحتُ أبتسم !
في الرياض تتجاورُ البيوت وتصطف قبالة بعضها لكن بينهنّ ثمة فروقاتٍ واضحه ..
رمى بي حديثها في بحر المقارنات ورحتُ أفكر ..

أي سجنٍ يا سمراء ؟

في بيتنا .. لم تكن تخرج شقيقاتي إلا للمدارس فقط !
السوقْ في مواسم متباعده .. يخرجنَ برفقة والدي أو رفقة أحدنا نحن الأبناء ..نحرسهنّ كقطيعٍ لا يعرف إدارة أموره إلا بوجود راعي !
يوصينا أبي أن ننزل معهن ونجول في السوق وبضائعهِ المملة ونعيدهن بسرعه !
والدي لو سمع صوتَ موسيقى ينبعث من التلفاز لأقام الدنيا وما أقعدها ..
في بيتنا لم يكن لشقيقاتي قبل زواجهنَ صديقاتٌ خارج اليوم المدرسي.. في بيئتنا من الخطأ أن يُترك للفتيات حرية التزاور !
لا بد من ملعقة شكٍ وارتياب لنصونَ المرأة ..
نتعاهدها بالحراسة حتى تغادر لبيت زوجها كماسةٍ تُحاط بالعناية والرقابة والإهتمام حتى البيع !
في بيتنا .. كانت تُكمل الفتاة التعليم الثانويّ ثم تقف مجبورةً .. لأن سمعة الجامعة سيئة في مجمتعنا المحافظ !


تتحدثين عن السجن يا ذات الهودج الخاص !
أي سجنٍ بربك وأنتِ الساهرة على أنغام أبو نورة في الثانية من الليل !
أتتحدثين عن السجن ياذات السائق المطيع ! بربكِ عمّاذا تتحدثي !!

في بيتنا .. كانت شقيقاتي يُجمعنَ في غرفةٍ وحيدة .. لا غرف خاصة للبنات !
هه يا أيتها السمراء ذات الغرفة الضاجة جدرانها بأصوات جميلات لبنان !
أنا الشاب ، لا أستطيعُ مشاهدة قنوات الفضاء لأن والدي يمنعُ الدش منعاً باتاً أن يهبط سطح منزلنا ..
وأنتِ تسهرين للفجرِ على قنوات الأغاني في غرفتكِ الأثيره !

رحتُ أقارن بيننا وبينهم في كل ما تخبرني به ..
يا للفرق الواضح !
لديهم كميةٌ هائلةٌ من الثقة يحيطون بها أبنائهم وبناتهم !
لها كافة الحرية حتى العاشرة من الليل ..
بعد العاشرة يجب أن تكون في المنزل .. يُمنع السواق بعد العاشرة أن يلبي مشواراً إلا للضرورة .. يا للصرامة !

ثقتُها في الحديث كانت تتصاعد .. جرائتها ساعدتني لأنطلق معها لأتحدث عبر كل شيء ..
ليستْ مثلي أبداً .. تتضحُ عليها آثار النبل والثراء .. كانت تتحدثُ غاضبةً على خادمتهم المغربية التي نامت ولم تجهز لها العشاء ..
سمعتُ عن سائقين في البيت وليس واحد !
جهازها الذي كان بالأمس بداية اللقاء.. عرفتُ أنه يفوق الآلاف التسعة !
أجوبُ طرقات حيّنا السكني البسيط وهي تثرثرُ عن أرقى أحياء الرياض بطلاقةٍ تشي أنها من تلك البِقاع !

كل شيء يحيط بها كان نقيضاً لي ..
بهرتني بحديثها عفويتها ثراءها رقة صوتها ..
تتحدثُ لي وأسترجع مشهد عينيها البراقتين فلا أجد أحق بتلك العيون الجميلة من هذا الهمسِ الرقيق ..
رمتْ بي في أتونِ المقارنة .. أدركتُ على الفور حقيقةً دامغه : تجمعنا الرياض لكن نعيش في عالمين نقيض !


لم يعد الأمر مجرد إقترابي من أنثى واتخاذها صديقه ..
ما بات فقط هوساً بهذه العيون والقوام الرشق والدنوّ منه ..
وليس ملأ فراغي وإشباع عاطفتي المتقدة ..
بل أيضاً أصابني الفضول ..
الفضول في الإنغماس في هذا العالم الآخر الذي أشاهده عبر التلفاز و أقرأ عنه في القصص ..
عالم الأثرياء والبيوت المنعمّه !
تلك الأحياء التي أمرها لأتأمل قصورها .. اليوم أجدني على مقربةٍ من إحدى فتياتها !
طالما رنوتُ للنوافذ الفاخرة المشجرة وأتخيلُ ما خلف الستائر ..لطالما تسائلت عن الحياة الدائرة في الغرفِ المخملية تلك !
هكذا .. صدفة ..
وجدتُ نفسي أمام فتاةٍ من تلك الطبقه التي تختلفُ عني في كل شيء ..

* * *


توقفتُ أمام بابِ بيتنا القديم..
بقيتُ في السيارة أستمعُ حديثها المنساب كجدول ماء ، حتى سخريتها مني كانت تتسلقُ لمسامعي كأغاريد :
- بربك فيه احد يسمع فريد وأم كلثوم !
- أنا مثل أوسكار وايلد، عارفه وش يقول ؟ " ذائقتي بسيطة جداً، فقط لا أرتضي إلا الأفضل ! "
- يا بابا .. يا بابا فيه اختراع اسمه رابح.. راشد .. عبدالمجيد
ضحكتُ وهي تقول بابا بطريقةٍ تلح في الإقناع ..
- ألحانهم مكررة ، موسيقاهم مستنسخه من بعض ، اتركيهم واسمعي الأطلال أو عش انت .. على الأقل أنفقي سيئاتكِ فيما يستحق
- ههههههههههههههههه
شعرتُ أن ضحكتها تدوّي في سماء حيّنا البسيط .. بيوتٌ متراصة .. متقاربة .. تتكدسُ أمامها السيارات القديمة بعض الشيء ..
ما موقفها لو رأتْ هذا البيت ذو الطلاء المقشر ! أو هذا الباب .. بابنا الذي حوّله أطفالنا وأطفال الجيران سبورة لتعلم الخط ..
ماذا ستقول إن شاهدتْ سيارة والدي " الوانيت " .. سيارتنا الرسميّه .. في حين أسوأ سياراتهم هناك تُمنح للسائق " يوكن فيراني " !!

إبتسمتُ لهذه المقارنة الساحقة ..
استأذنتها في وضع المكالمة على " تعليق " ..دخلت البيت وحين فتحتُ باب غرفتي ذات الستائر القديمة والفوضويّة الأشياء .. عدتُ لسمرائي أتحدث ..
في بيتنا .. أتسللُ للبيتِ كل ليل خائفاً أترقب .. فإذا وجدتُ أبي نائماً شعرتُ أني اجتزتُ الخطر المحدق!
آخر ما ينقصني أن يصرخ فيني والدي وهي تسمع !


كانت الساعة الثالثة وأنا فوق فراشي أحادثها همساً ..
تجاذبنا الحديث في كل شيء .. وعندما قالت متثائبةً " دوّختني يافيصل نعست " ، شعرتُ إن شيطاني يبتسمُ لي ويريد مني تقليب هذه العبارة طويلا ً طويلاْ !
-تصبحين على خير يا .. تصدقين ؟ للحين ما اعرف اسمكْ
- إممم .. لا خليه بعدين ! تصبح على خيـ ..تعال :
بكره ..لا هنت .. فز من طولك.. تروح التسجيلات .. خذ ألبوم راشد " ويلي " .. بربك إركن فريد وخل ام كلثوم تستريح شوي وعطني رأيك بأمانه !

نطقت العبارة الأخيره متقطعةً بصوتٍ متغنج .. صوتُ من تشرّب الدلال في أحضان ذويه جيداً !
لم أكن إلا لألبي ..

- أبشري ، أوامر أخرى ؟
- لا .. بس مو تنسى، يالله بـاي
- مع السلامه

إنتهتْ المكالمة الأولى ..
يبدو أني لم أعطِ إنطباعاً سيئاً ..
" خليه بعدين " تشي بأن الباب موارب .. لم تُغلقه في وجهي .. لا لم أكن سيئاً أبداً !


على صوتها المتراقص في أذني كنتُ أحتضن وسادتي وأغمضُ عيني وأنا أردد :

انتظرني يا راشد في الصباح ..
جاءتني بخصوصك توصية ٌ لا ترد !

قبل أن أستسلم للنوم .. وعلى صوت الأذان الأول مخترقاً هدأة الليل ..
كنتُ أرسل لصديقي ماجد مسجاً سريعا أكتبه في الظلمة :

"صديقي ماجد: شكراً لك ..شكراً لـ محلّك .. شكراً حتى لـ حواسيبك "


يتبع....

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  10-05-2011 11:16 مساءً   [3]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 07-05-2011
رقم العضوية : 45,779
المشاركات : 26
الجنس :
قوة السمعة : 50
رواية قرأتها قبل فترة ..

ومشتاقة لقرأتها أكثر من مره

في إنتظار التكملة ..

ويسلمووو على إنتقائك الجميل ..
توقيع :ماجده
ي ربّ أرغب " بطمأنينة تآمهـ " تريح مآتبقى من أحسآسي ,,

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 01:38 صباحاً   [4]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 24-07-2010
رقم العضوية : 42,215
المشاركات : 9,623
الجنس :
قوة السمعة : 2,147,483,647
يعطيك العافية هاشم ....بالنتظار التكملة .......

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 08:52 صباحاً   [5]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: ماجده;1619708 رواية قرأتها قبل فترة ..

ومشتاقة لقرأتها أكثر من مره

في إنتظار التكملة ..
ويسلمووو على إنتقائك الجميل ..
اهلا ومرحبا فيكي
نت افكر انها مش حلوة
ما حد عبرنا برد :nosweat:

ان شاء الله نقدر نكملها
نورتينا

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: الهدى;1620093 يعطيك العافية هاشم ....بالنتظار التكملة .......
الان اتأكدت انه الرواية حلوة










بكفي هدى بتقرأ فيها


نورتي الموضوع هدى

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 09:13 صباحاً   [6]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
8


لا أظن كاتباً في الدنيا مهما برعت لغتهُ وحروفه .. يستطيعُ إيصال السعادة المتراقصة في روحي الآن.
ولا حتى طبيباً نفسياً بارعاً.. بإمكانهِ تفسيرُهذا الفرح المتقد فجأة !
لم أنم إلا 4 ساعات ..
لكني أفقتُ نشيطاً ضاحكاً ممتلأً بالطاقة مشرباً بالحياة !
لبستُ وتأنقتُ وأنا أغني .. وقفتُ أمام المرآة أسوّي غُترتي بإتقان وأنا أصدحُ بخليطٍ من أغاني أم كلثوم ..
أغني مقطعاً من أغنية وأنتقلُ لأخرى كطائرٍ سعيد يتنقل من غصنٍ لغصن ..
خرجتُ من غرفتي بشوشاً .. خرجتُ أنيقاً لأن تشارلز ديكنز كان محقاً " السعادة أهم أداة تجميلٍ على الإطلاق " .
حتى الخادمة السيلانيّة السوداء التي لا شيء فيها يدعوكَ للإبتسام ..لم أنساها من سعادتي !
طالها من فرَحي نصيبْ ، ضحكتُ لها وأنا الذي اعتدتُ الرزانة حد التجهم !



في الصباحات السابقة :
كنت أتناولُ إفطاري وأحتسي الشايَ عابساً ..مطرقٌ كغاضب !
أتناولهُ في مطبخنا القديم جداً بفرشته الخضراء وأدراجهِ المتآكلةِ أطرافها صدئاً !
وبصوتِ حنفيّتهِ التي تجيدُ الإزعاج بقطراتِ نَداها المتكررة سقوطاً على مدار اليوم !
يغرقُ الدور الأرضيّ الهاديء في بحر التلاوةِ المنبعثِ من مذياع أمي القديم ، تلك أمي ترقدُ بين سجادتها وإذاعة القرآن !
أظننا البيتُ الوحيد الذي لا تكف جدرانهُ عن التعطر بالآيات ..
فإذا أنهيتُ إفطاري ، أطللتُ على أمي في الفناء لأجدها كالعادة باكيةً مع تتبع القراءة ..
أصافحها وأخرج تشيعني دعواتها المحفوظة!



أما هذا الصباح :
كل شيءٍ كان كعادتهِ إلا أنا !
كان مطبخُنا حقلا ً أخضر ، أدراجهُ ترتفعُ كغيماتٍ في سماء..
أصواتُ القطراتِ الرتيبةِ كانت إيقاعاً هادئاً لم يضايقني..
شربتُ الشاي وخرجتُ إلى الفناء الراقدةِ فيه أمي .. أغلقتُ الراديو لأثرثر معها قليلا ً ..
سألتها عن آلام قدميها ،احتسبتْ الأجر وشكرَت ، دلّكتُ ركبتها المريضة بالخشونة كما أوصانا الطبيب،
قبلتُ رأسها وخرجتُ لتعاود التهليل والبكاء مع السوَر !

فكرتُ في سمرائي وأنا أُمهلُ سيارتي لتنزع عنها برودتها :
يا تُرى الآن أين تذهب ؟ لماذا لم أسألها أين تدرس وهل هي طالبة أم ماذا ؟
حسناً ، ألديهم فناءٌ كفنائنا الذي عبرتُهُ للتوّ !
فناءٌ ذو سقفٍ حديديّ .. يعتمدُ التكييف الرخيص ذو الماءِ والقش!
وسخِرت باسماً :
هه ماذا لو رأتْ المطبخ الذي تناولتُ إفطاري فيه .. أكانت تجزع ؟
وهل أمها كبيرة السن كأمي ، تضطجعُ في الفناء في الصالة في أي مكانٍ يزورها الألمِ والإعياء فيه ؟
أم ياترى يغالون في الإتيكيت وكل شبرٍ في البيت لِما خُلِق له ؟!
وأبوها .. يا تُرى ما منصبه وأين يعمل ومركزه المرموق ماذا ؟
وسرَت بي الأفكار صوبَ أبي المنطلقِ قبل مغادرةِ الطيور أعشاشها ناحية المدرسة البعيدة ..
أتذكرُهُ باسماً وهو الذي يتحدثُ عن التعليم كأنه أحدُ رموزه .. مسكينٌ أبي:
يفتحُ أبواب المدرسة ثم يقفُ متمللاً حتى الظهيرة ليكسرَ الجمود .. يروحُ خلفَ مكبر الصوتِ ينادي الطالبات والمدرسات لذويهنّ الآتين لأخذهنّ ..
ويعودُ لنا كأنهُ المدير ذو الشأن.. ينتقد التعليم و يُلقي بالنظريّات المهمة الكفيلةِ بتطويره !
آه يا أبي المسكين وأمي المسكينة وآهٍ أيها البيتُ الأشبهَ بعجوزٍ يُنازع !


مر كل هذا في مخيّلتي ..
شعرتُ أني ساديٌ يريد التنغيص على نفسه !
لا لن أسمح لكل هذا أن يعكر صفو سعادتي ..لن أسمح حتى لنفسي أن تجرني نحوَ الحزن مجدداً حين بدأتُ تلمّس خيوط السعادة ..
كامو يقول " لن تذوقَ السعادة طالما تفكرُ في تفاصيلها "
طردتُ كل هذا عن رأسي وشققتُ عن ذاكرتي صورة فاتنتي وضحكاتها البارحة ولذة الحديث والرقمَ المخزّن بإسم " سمراء "
انتشيتْ ، رجعتْ روحي ترفرفُ من جديد ..



أليس غريباً .. أن تتغيّر عاداتك فجأة ؟
أن تريدَ مصافحة من عرفت ومن لم تعرف .. وأنتَ الرجل المتحفظ دوماً ؟!
أن يغمرك الفرح فتريد محادثة كل مار بجوارك وأنت المقلّ في الحديثِ حتى مع الأصدقاء ..؟
هل السلوك جبلّةً وطبيعه ؟ قيمةٌ ثابته !؟ أم أن سلوكنا نتيجةٌ تتأثرُ بعوامل كثُر .. قيمةٌ تتغيّر تباعاً ؟
ما هي السعاده ؟ أحقاً هي العلاقة الإنسانية الخاصة كما يقول دو سانت ؟
أم هي ما نتصنعه ونزيفهُ لأنفسنا كما يُفلسفها أرسطو ؟
لا أدري ..ولا أريد حتى أن أدري
كل ماأدريهِ أني وقفتُ مفعماً بالحياةِ أصافح رجلا ً يمانياً في محلٍ تتكدس فيه الأشرطه .. وبصوتٍ مغتبط:

- أبي شريط "ويلي" لراشد الماجد .


كان مسجل السيارة معموراً بـ شريط " من أجل عينيك عشقت الهوى " ..
أخرجتهُ وأنا خجِلٌ من ثومه ومن فريد وعبدالوهاب وكل أصدقائي الكلاسيكيين ..
شعرتُ أنهم يتعرضون لطعنة الخيانه ويدركون سر هذا التحوّل !
كنتُ أركنهم جانباً وكأني أقول :
ابتعدوا قليلاً ياأصدقائي القدماء.. هناك من قدِم مشفوعاً بشفاعةٍ حسنة !

راحت السيارة تدوّي بـ :

" مالي في هالدنيا سواك انت يا أجمل ملاك انت الوحيد بدنيتي مابي أعيش الا معاك "

ورحتُ مع الكلماتِ محلقاً في السماء وأفكر :
هذه الأنغام طرقت مسمعَ سمراي يوماً ..تلك الحسناء التي رأيتُها وسمعتها وأجهل اسمها !
بالتأكيد لن تتصلْ ، لكني سأفعلْ سأحادثها ليلا ً .. الليلُ بحرُ العشاق ويتسامقُ فيه الحديث ليصبح شعراً ..
أعود للأنغام الصادحة من المسجل :
ربما غنتها .. بل ربما رقصت على أنغامها في خلوتها !
انفصلتُ عن الدنيا ..
كنتُ أتجه إلى الجامعةِ كطائرٍ يرفرف بجناحيه لا لم أكن أسيرُ على الإسفلت الأسود الموحش..
وصلتُها وشعرت أن المسافة كانت قصيرةً على غير العاده ، مجرد دقائق !
في القاعة في الممرات في المواقف كنتُ الرجل الثرثار !
الرجل الذي لا يُمل حديثه ..
حتى عامل الكافتيريا تبادلتُ معه أطراف الحديث عن بلدتهِ التي لا أعرفها أصلاً على الخريطة ولا أعبأ بها مطلقاً .

أليس غريباً ..
أن نكتشِفَ بعد سنين ، جوانبَ في أنفسنا ما كنا نعرفها قط !
أنا الذي أجنحُ للعزلة ما استطعت ، ويصيبني الخرسُ بين الجموع ، وأظنني المحتاجُ لدورةٍ في مهارات التواصل ..
.. أجدني المفوّه الباسم هذا الصباح !
أحدثُ نفسي في زحمة الحضور /
من قال أن العزلة جيده ؟ يا للسخف .. وهل الحياة إلا الصخب !
العزله ! يا للقرار الذي بنيتُه سنيناً كبيت ، ياللرأي الذي اعتنقتهُ طويلاً كعقيده .. كنتُ أرتد و أكفر به هذا الصباح!
أوَليس أغرب الغرائب: أن تتهاوى القناعات فجأه ؟!


*****


في شقتنا مساءاً .. كنتُ أشارك فهد سلطنة الحديث !
كفرتُ بالإستماع فقط !
لم يكن هو المتفرد بالقصص الشيقه والقفشات المضحكه .. فهد هذا المساء واجهَ منافساً له على عرش الكوميديا !
كلهم كانوا يتضاحكون على تعليقاتي الساخرة ..
إستلمتُ زمام السيطرة في هذا المجلس الذي تحفهُ سحبُ السجائر ولا يتخلله إلا صوت الضحك وصوت القداحات تشعل لفافةً بعد أخرى ..
حتى فهد صار مستمعاً كرجلٍ آمن بالهزيمة وتنازل للطرف الأفضل عن دفة الحديث ..
كلما أنهى قهقهاتهِ نظر لي وفي عينيه نظرةٌ تتسائل في ابتسام!
هذا الرجل يعرفني أكثر من أي شخصٍ آخر ..و أعلمُ أني بالنسبةِ له كتابٌ مفتوح ، عبثاً أمتلأ بالأسرار أمامه !
كان يصفقُ لي كلما تألقتُ ويرمي بلسانهِ اللاذع كلماتٍ يطلقها بنبرته الساخرة القديمه :
" والله صاير بطران / بشرني وش انت شايف / الظاهر مات نظّالك "
وأتلقّى دعاباتهِ بسرور ..

أصرّيتُ أنْ أجلب العشاء أنا ..
خرجتُ لأجد فهد قد قرر مرافقتي للمطعم .. كان يريدُ أن يحادثني على انفراد .. عرفتُ أنه مملوء بالأسئلة فابتسمتْ .
في السيارة لم أتركْ حيرتهُ تطول :

- شبّكت لي ملكة جمال هههههه
- أحلف ..
- قسم بالله !
- أين ؟ متى ؟ كيف .. غرّد غرّد
على حماسهِ البادي رحتُ أتلاعب به :
- دع عنك هذا وقل لي متى مباراة الهلال القادمه !
- أوووه .. تباً لك وللهلال .. تكلم
- برأيك أأحضر مشويّات أو كبسة ؟
- كبسك عزرائيل الله ياخذ عمرك
-هههه حسناً حسناً..
أتذكر صديقنا ماجد ؟
- ماجد مااجد مااااجـ .. "الموسوسْ" !؟
- هههههههههه نعم..لكن انتبه لن أسمح لكَ بتكرار هذا الوصف بعد الآن ..
قبل الأمس .. كنتُ عنده في المحـل

نغمة " بعيد عنّك " المنبعثة من هاتفي تخترقُ حديثنا ..جاءت في وقتها المناسب متواطئةً مع إغاظتي لصديقي المستفَز !
ابتسمتُ وقررت الإجابة إمعاناً في تشويقه ..
أخرجت الهاتف من جيبي على وقعِ لعناتهِ المتبرمِة ..
وجهي يمتقعْ .. وقفتُ صامتاً أنقّل نظراتي بين الهاتف وبين فهد ..

- ماذا ؟
- التي أحدثكَ عنها، ها هيَ تتصل !

يتبع ...

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 11:12 صباحاً   [7]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 24-07-2010
رقم العضوية : 42,215
المشاركات : 9,623
الجنس :
قوة السمعة : 2,147,483,647
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: HASHEM13;1620124 اهلا ومرحبا فيكي
نت افكر انها مش حلوة
ما حد عبرنا برد :nosweat:

ان شاء الله نقدر نكملها
نورتينا



الان اتأكدت انه الرواية حلوة










بكفي هدى بتقرأ فيها


نورتي الموضوع هدى

منور وحلو بوجود صحابه ......:hi:



.............................بانتظار رد فيصل على مكالمة السمراء

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 04:52 مساءً   [8]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
9

هناك في محل ماجد حين رأيتُها قبل يومين .. كان إبليس يكتب السيناريو ويقوم بالإخراج وأنا مجرد بطلٍ يؤدي الدور !
أما هنا ، في هذه السيارة الواقفة على قارعة طريقٍ مظلم ، كان إبليسُ يتوارى إحتراماً لفهد .. فهد ذاك الشيطان البشري الذي يعرف الكثير ..
كان إبليس يترك المقاعد الأمامية في مسرحية "الشاب والسمراء" ويقول لفهد تفضل.. هذا المكان مكانك .. ثم ينزوي صامتاً في جوانب المسرح الكبير !


فهد صديقي منذ كنتُ طفلاً في قريتنا .. سبقني في الظهور للدنيا بأربعين يوما .. كان بيتهم الطيني يقابل بيتنا تماماً .
تعلمنا الحبوَ سوياَ .. نطقنا ومشينا سوياً ،
كبُرنا على نصائح أمهاتنا ينبّهنَنا أن نلزم البقاء عند الباب ، وشققنا عصا الطاعةِ وخرجنا إلى المزارع سوياً ..
كبرنا وصرنا أشقياء بما يكفي لنتلقى العلقات من أهلنا .. ومن جدي وجده حين نَدهمُ السواقي ونخطرُ في حقول البرسيم غير آبهينَ بأقدامنا التي تحصدُ ماوطأت ..
وعرَفتْ الأغنام هجماتنا سوياً مقلدين الذئاب الشرسة ضاحكين ، والنخلُ المتسامي عرفَ شقاوتنا ...سوياً ..
لطالما صعدنا النخيل كأنما نصعدُ في السماء .. ولطالما استعجلنا مواسمها فقطفنا ثمرها ولمّا يؤت أٌكلهُ بعد ..
وعرفنا الرياض في ذات الوقت تقريباً .. نزلوها أهلهُ قبلنا بأشهر،
يومها بكيتُ فوق ركامِ بيتٍ طينيٍ خرِب، اعتليتهُ ورحت أشيّعهم راحلين عن القرى في صبحٍ كئيب !

عرَك الرياض قبلي ، شبَ وصار رجلاً كأنما استحال فرقُ الأيام بيني وبينهُ أعواماً طوال،
اختلفت اهتمامتهُ جذرياً .. ترك طفولته في القرية وبات شيئاً آخر تماماً !
قرويٌ لطمتهُ الحضارة بغته .. خرج عن النسق كلياً وساءت سمعتهُ .. تعثرت دراستهُ طويلاً ..
انخرط في العمل الوظيفيّ كاتباً في أحدِ فروع البلدية بالرياض، عملٌ يغيبُ عنه أكثر مما يحضر!
ثم بالكاد أتمّ تعليمه الثانويّ -ليلاً- حين صرتُ الآن طالباً في سنة التخرج من كلية اللغة العربية.

في نظر والدي لم يعد فهد ذلك الجارُ القديم .. ما عاد ذلك الفتى الوادع الذي يغدو ويروحُ إلينا كما لو كان أحد أفراد منزلنا .
صار أبي يصفهُ بشيطانِ وُلِد في بيتٍ ملائكيّ .. عقوبةٌ ابتلى الله بها أهلَه ! يزجرني إن رآني معه ..
دائماً مايعطيهِ - أبي - الأعذار المكذوبة حين يراهُ أمام بيتنا ينتظرني ..لهذا اِعتدتُ أن ألتقيهِ سراً !
نعم هو نموذجٌ للصديق السيء في نظر الآباء ، سيماهُ في وجهه ..
إنما للحق هو أقربُ الأصدقاء طراً ..
وأعرفُ أن خلف سمرتهِ الطارئة وعينيه الغائرتين وجبهتهِ المندوبة قلباً ينضح بالصداقة والطهر ..


السفر الشراب حضور مباريات الهلال السهر أبرز إهتمامات فهد وأهم قضاياه الخاصة.. لكنّ لا صوتَ يعلو في حديثه على صوت النساء !
يحدثنا عن تجاربهِ فـ يغمرنا الصمت كـ تلاميذ يقبعون فوق المقاعد مصخين السمع لمعلمهم ..
يقصّ لنا مغامراتٍ لا نراها إلا في الأفلام ، لم نكن لنصدق يوماً أن الرياض تخبيء في زواياها مثل هذا العرض ..
الهدايا التي تملأ غرفته ، دُمى الدببة المتناثرة في الشقه ، قلوب الحب والدناديش الحمراء التي تزين سيارته كلها تخبرنا أنهُ المتفرد عنا !
حتى فاتورة هاتفهِ التي تتجاوز مرتبه الشهريّ ، يقسم لنا باسماً معتداً بنفسه ، أن فتاةً في شمال الرياض تتكفلُ بسدادها له فنغرق في الضحك وبعضنا في الحسد !!!

كان يسميني " نجيب محفوظ " هازئاً من إمعاني في القراءة .. وأسميه " دنجوان " لإمعانهِ في أحاديث الهوى ..
قال لنا يوماً وهو يُفصحُ عن نظريّاته الخاصه :
- لا يهم الجمال ولا الأناقة ولا حتى المادة .. يلزمك خفة الظل وسلاسة الحديث لتستقر في قلب إحداهن
وكنا نصغي ... لا يجرأ أحدنا فيقطع الحديث اللذيذ
- المرأه تبحث عن ما يتضاد مع شخصيتها ، لا تريد الجمال ولا النعومه ولا سخافات المراهقين في الأسواق ، تريد رجلاً ليس أكثر
فأقول في نفسي تباً له كيف يعرف؟! ، ما كان ينقصنا إلا كراساتٍ جانبية نسجل فيها مايقوله د.دنجوان ونتلقاهُ كمحرومين !
- الأنثى لا تريد منك إلا أن تُشعرها بالدفء والإهتمام ،لذلك حين تتحدث إليها: " اصرف حنانك هههههههههه "
ونضحكُ كأننا نقول للحديث الصاخب هل من مزيد !

في إحدى المساءات الباردة ..
اتصلَ بي وهو يتألقُ سعادةً .. عرفت فيما بعد أنه عائدٌ من موعدٍ غرامي، حادثتهُ وهو يغني " زي الهوا " ..
رفعت سماعة الهاتف لينطلق صوتهُ في حبور:
- وفـ عز الكلام آآآآه، سكت الكلا.. ألو ، هلا نجيب، أعرف جيداً ماذا تفعل ، ممسكٌ بروايةٍ ساذجه وتقرأ هههه
- أهلا فهد ، وكأنك تدري !
كنتُ حينها أقرأ رواية جين اير العالميّه مأخوذاً بتفاصيلها .. قال لي على الفور :
- غبي! اصنع روايتكْ لا تقرأها .. الأحاسيس والمشاعر تُعاش أولاً ثم تُقرأ !
حين تصنع تجربتك الخاصه، إطّلعْ على تجارب الآخرين يابو محفوظ.. وأتاريني ماااسك الهوى بيديّا آآآه ماسك ...
راح يغني وأنا أضحك !


هل كنتُ أحسِده ؟
هل كنتُ أتمنى أن أكون مثلَه ، حقاً لا أدري !
لكنّي كنتُ على فتراتٍ متباعدة أحاول أن أغتنمَ رياحي حين تهِب ، مدفوعاً بالإنتعاش اللذيذ الذي أراهُ في أعين دنجوان !
كنتُ على النقيض منه ،حييّاً أفتقدُ للجرأة ، كثيراً ما كنتُ أكتفي بإختلاسِ النظراتِ أملاً في تحقيق علاقةٍ عابرة ، لكن النظرات لا تصنع للحمقى شيئاً !
كنتُ أعود بالخيبة والكثير من الألم ،
لديّ عينٌ تهوى الجمال وقلبٌ يهفو للحب لكني أبله .. نعم أبله.. وهذا ما اعتدتُ وصفَ نفسي به حين أسمع احاديث العشاق !
لستُ أسوأ من غيري مظهراً وأناقة .. لكني أدركتُ أن فهد مقنعٌ حين قال :
- الأسلوب !
وأسلوبي أبلهٌ مثلي تماماً .. مرتبك خجول متلكيء .. أشعرُ أني غالباً مثار شفقة الجميلاتِ اللواتي يكتفينَ بالنظر لي ويقلن في أنفسهن :
- يبدو أنه أخرس ! ثم يمضينَ كما لو قلّبن بضاعةً لم تعجبهن !
هكذا .. أقفُ بخجلي ثم أفشل ..أمضي ساخطاً مستصعباً سهولة الأمر الذي يتحدثُ عنه صديقي !

في الرياض .. أسمعُ همسات العشاق لكن لا أراهم .. أفتش في الزوايا فلا أجد إلا الصمت ..
تمنيتُ كثيراً أن أكون صديقاً لإحداهنّ أبثها الوجد وتبثني همومها .. لكن لم أجد !
لهذا ..
عرفتُ أخيراً أن الأسلوب اللبق ليس الأهم، إنما يأتي بعد شيءٍ آخر ، شيئاً أهم منه ، يبدو أن صديقي الأستاذ نسيَ أن يعطي تلميذه النصيحة الأولى ، لكن التلميذ النجيب اقتنصها لوحده :
- الجرأة !
حين تجرأتُ أخيراً .. كنتُ أقفُ على أعتاب مغامرةٍ استوقفت فهد ونظر لي أخيراً بعين الرضا !



رفعتُ الهاتفَ وأنا كافرٌ بالخجل مؤمنٌ أن الحياء لا يصنعُ شيئاً في بلدتي هذه ،
وأمام شيطاني دنجوان الذي كان يردد بإلحاح :
- رد .. كلمها
رحتُ بصوتٍ غير مرتبك ، أحادثها كمن ألِف النساء وأحاديثهنّ :

- هلا و غلا !

على بسماتِ فهد ويده الرابتةِ على كتفي رحتُ منطلقاً معها كلاعبٍ يتلقّى الإشادات من مدربه !





10


- بالتأكيد سمعتُ الأغنية ، إسمحي لي أن أهنيء ذائقتك !
- شايف؟ ماقلت لك عط الجيل الجديد فرصه !

كانت تجيبني ويمينُ فهد تلكزني أن أضع المكالمة على المكبر ، كان يريدُ أن يفحص الصوت كمهندسٍ يريد فحص مركبه !
كانت لديهِ نظرياتٌ بخصوص الصوت :
حاد.. إذاً هي جادةٌ للثقافةِ أقرب ! اهرب عنها
خفيض.. معذبة ! كن لها نعم السنَد تكن لك نعم الصديقة
مبحوح.. عاطفية ! عض عليها بالنواجذ

راح صوتها العابث يدوّي في السيارة :

- إذا أردتَ أيّ استشارة بخصوص الأغاني الجديده ، فسأخبركَ من الآن وهاأنا أقولها لك: لا أحدَ أفهم مني فيها!
كان الصوت ينسكبُ في أذن فهد مزيجاً من تصنيفاته الثلاثة ..الحاد الخفيض المبحوح ..
..يبدو أن دنجوان لم يستطِع تحديد الفصيله فاكتفى بالإبتسام !


متصنعاً الجديّة قلت لها باهتمامٍ باد :

- أوَليس غريباً .. أن تسمعي الموسيقى في وحدتكْ ، فتشعري أنكِ قد ازدحمتي بالناس ؟!
- الله الله ياسيدفيصل، كلمتك هذه جملة موسيقيه لوحدها ههه
- إذاً ، لأكن معكِ صريحاً ، ليست لي بل لروبرت براونغ
مازحةً راحت تضحك :
- آها ، أصلاً هالكلام كبير عليك ههه

كان فهد غاضباً يضرب زجاج سيارتي في صمت وهي تنطلقُ في ردهات الرياض ، علّقت المكالمه :

- ماذا بك !
- يا مغفل يا غبي ، وما يدريها عن هذا الملعون روبرتانغ؟! ، كان ينبغي أن تنسبها لنفسك وتنفرد بالإعجاب ، لا أن تطبّل لهذا السقيم الأمريكي
- أولاً / اسمه براونغ ، ثانياً / بريطاني ليس أمريكي ، ثالثاً / إهدأ لا توترني أرجوك
- حسناً حسناً .. لكن حذارِ أن تكون صدوقاً .. إكذب، إختلق وستُبهر صدقني

فهد ميكافيلي ، كل وسيلةٍ مبررة .. آخر ما يعبأ بهِ حفظ الحقوق !

عدتُ أحدثها بكل شيء .. عن يومي، منذ الصباح وحتى الآن ، عن إفطاري ! عن حتى شراء الشريط ..
عن الكلية عن الأسلوبية في النقد وحديثُ الدكتور المتحمس .. عن زحمة السيارات وأنا عائدٌ ظهراً نتيجة انقلاب شاحنه ..
لم أكن مضجراً ، كانت تشاركني وكأنما تسسحثني لمزيدٍ من الحديث .. تسألني فأجيب ،
تارةً يشيرُ لي فهد بإبهامه مرفوعاً لأعلى نتيجة الإستحسان ، وتارةً يلكزني بمرفقه كما لو خالفتُ التكتيك !

راحت تحدثني عن الضوضاء في منزلهم هذا اليوم ، أختها الكبرى لم تسافر مع زوجها لباريس هذا الصباح وحضرت عندهم بأطفالها الخمسة ..
كنتُ فضولياً حتى بشأن ذهابِ زوج أختها لباريس .. لا يسافر الأفراد في عائلتي إلا للقرى !
أردتُ سؤالها لكن خشيتُ أن تعجبَ من حشر أنفي !
حدثتها على الفور عن حبي للأطفال إنما لستُ قادراً على البقاء بينهم ..ضجيجهم يحيلني لعصبيٍ متبرم !
حدثتها عن إشفاقي على الآباء .. أشعرُ أنهم مسلوبي الراحة ويعانون الصخب الدائم ..
أخبرتني أنها على العكسِ مني تعشق الأطفال وأنها تتمنى لو أنها تتبنى طفلا ً دون عناء الحمل والولادة ..

ابتسمتُ لفهد وهو يشير لي بالخوض في غِمار هذا التفصيل ، اللعنة على عقلِك الوغد ياصديقي دنجوان !

- أنا طالب في السنة الأخيرة لغة عربيه ، بعد شهر سأكون في ال23 من عمري
- هذا يعني أنكَ أكبر مني بسنةٍ وحيدة ..
- أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة ..أتعلمين بهذا القياس كم أفوقكِ في المعرفة ؟ تقريباً ثلاثة قرون ونصف !
- هههههههههههه يا الشايب

حضرتني دعابةٌ وأنا أرى فهد يصغي السمع ، :

-أتعلمين ؟ لديّ صديق يكبرني بـ40 يوماً ، فقط كما ترين الفرق مسألة أيام لا أكثر !
لكنه لا يكف عن نعتي بـ ولده ! يصر أن يعلمني في هذا الحياة كل شيء بحجة هذه الأيام الأربعين !

على إثر عبارتي الأخيرة كان فهد يفتلُ شاربهُ مبتسماً يعرف جيداً عمّ أتحدث !

- حسناً سأتركك الآن يافيصل، أأستطيعُ محادثتك ليلا ً ؟!

كنت أظنني سيئاً .. كنتُ أظنني وحدي الشغوف بهذا العلاقة والمحتاج لها ..
يبدو أن سمرائي تشاركني ذات الأفكار !

كانتِ السيارة كالعادة تنطلقُ إلى غير وجهة !
وجدتني فجاةً أتوقف عند الجسر المعلق في قلب الرياض ... كيف ومتى وصلت هنا لا أدري!
توقفتُ عند حوافّ ذاك الوادي الغارق في السكون رغم زحمة الناس على أطرافه ..
مساكينٌ أهل الرياض .. يسكنون صحراء معمورةً فقط بالخرسانات والإسمنت .. أنصفَهم التاريخ وظلمتهم الجغرافيا !
لا بحر يلقون إليه بأسرارهم ولا طبيعةً خلابة تضفي البهجة على حياتهم ..
يهرعون لأي متنفس وإن كان على ضفاف الطرقات ـ يستوطونون أي مساحةٍ نستها مؤسسات البناء وإن كانت وعرةً موحشة .
كنتُ أقفُ على أطراف هذا الوادي الصامتِ كصمتِ صديقي وأحدث سمرائي :

- بالتأكيد تستطيعين محادثتي متى شئتِ، فقط لا أطلب إلا الإسم !
بربكِ أليسَ نوعاً من الظلم أنت تناديني بإسمي وأناديك بالضمائر النحويّة !
ثم إنكِ لم تخبريني أينَ تدرسين وتغلفين نفسكِ بالغموض التام !

- خمّن يا سيدي !
- لا أحب لعبة التخمينات .. حسناً ، بإمكانكِ الإحتفاظ به لنفسك ..
- زعلت !
- لا ، إنما لا أحب أن أمارس الرجاء .. نوعٌ من الخضوع لا أرتضيهِ لنفسي
- حسناً لا تخمن اسمي ، خمّن ماذا أسميتك في هاتفي !

تراقصتُ لهذه الجملة ، شعرتُ بالزهو ، إبهامُ فهد المرتفع لأعلى يخبرني أني على الطريقِ المستقيم !

-إممم فيصل ؟!
- لا
- إذاً ماذا
- ههههههههه دوستويفسكي
- ههه مساكين هؤلاء الأدباء يا ..يا أنتِ ، صديقي يقول نجيب وأنتِ تقولين الآن دوستو وأخشى غداً أن أكون كويلو !
-هذا لأنك أديبٌ فعلا ً !
- أشكركِ على الإطراء والتسمية.. لكني بصراحة مازلتُ أخزّن رقمك دون إسم ..
- حسناً.. اكتبه تحتَ مسمى " ساره " !
ولستُ أدرس الآن ، توقفتُ بعد السنة الأولى في كلية التربية، في إجازة إلى أجلٍ غير مسمى .. لا أحب النهوض صباحاً .

ســـــاره !
سمرائي الجميلة ، عيونها الجميله ، صوتها الجميل ، وإسمها الجميل ..
ساره !
يا للإسم المنطوقِ كنغمة .. ساره ، يا لرنّة الإسم المبهج .. ساره : أربعةُ حروفٍ تعرّف الجمال !
أجملُ الأسماء من الآن فصاعداً !

-عاشت الأسامي ساره
- عشت ، يالله بـاي

أغلقتُ الهاتف .. فتح فهد باب السيارة ودوّى صوت صفيرهِ في الوادي ..
كان يهتفُ لي كما يهتفُ لمهاجمي الهلال حين يحرزون الأهداف التي تُسعده في المدرج ..
كالَ ليَ المديح .. هنأني .. تصافحنا كـ زميليْ مهنة !
وفي أطرافِ الوادي كان صدى التصفير والضحك ينعكسُ إلينا .. ربما إبليس من يبادلنا التحايا !


على دفة المركبةِ الباردة كنا نتمدد ننظرُ للقمر الساحر .. يصلنا هتاف الصبية اللاعبين بجوارنا وصوتُ أهاليهم .. ونباح الكلاب الجائعةِ في زوايا المكان ..
تمر بنا سيارات الآيسكريم و يتعدانا المارّة محدقين بنا كأنّا سُكارى ! نتحدثُ ويُنصتُ الوادي ..
راح يخبرني فهد عشرات الطرق لإختصار المسافة ..

- عليك أن تحدثها بأسرار مكذوبه ،فقط تُسبقها بعبارةٍ مثل : " لم أقل هذا السر لأحدٍ في حياتي غيرك "
البنات اللواتي يرتكبنَ المحادثات الهاتفيّة .. لا يدفعهنّ لذلك إلا قلة الإهتمام من المحيطين بهن ..
عبارةٌ مثل التي أخبرتك يا فيصل ، تُشعرهنّ بالخصوصيّة بالشأن الرفيع بمقاسمة حياة الرجل ..
صدقني انا أعرف عمّاذا أتحدث

أستمعُ عباراته وأتمتم بالإنبهار !
راح يردف :

- بربك يا صديقي ، أليست سخيفةٌ هذه الحياة لو خلَت من الجميلات !
- أتعلم يا فهد ماذا يقول الحكيم نيتشه / الحياة بدون موسيقى غلطة ! أتُراه أخطأ ولم يقل المرأة !
- سأخبرك شيئاً يافيصل ، إن كان حكيماً كما تقول فلن يخطيء صدقني ، لكن الرواة الملاعين حرفوا الجمله هههههه

ضحكاتنا تنبعثُ في فضاءات المكان غير مبالين بالرائح والغادي ..
ثم صوتُ هاتفي ينبعثُ في سماء الوادي .. حدثتني نفسي أن سمرائي .. عفواً ساره ! لم تصبر ، تريد أن تكلمني مجدداً !
يا لخيالات العظمة .. كان رقمُ سلمان صديقي ..
صوته يعنفنا غاضباً :

-وينكم ! ساعه وربع عشان تجيبون عشاء !

ماذا فعلتي ياساره ..
نسيتُ الأصدقاء جوعى في الشقة !

راح الوادي يشيّعنا مغادرين وأصواتُ ضحكاتنا تصدحُ دون مبالاةٍ بناظر !

يتبع ...


look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 04:55 مساءً   [9]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: الهدى;1620144 منور وحلو بوجود صحابه ......:hi:



.............................بانتظار رد فيصل على مكالمة السمراء
يسلموا كلك زوق

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  11-05-2011 11:59 مساءً   [10]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
11

فهد سلمان محمد صالح / ماجد / بعض طلاب الكليّة
رباعي الشقة / صديق المحلّ / أصدقاء الدوام الجامعيّ ..
هؤلاء اللاعبين في مسرحِ حياتي خارج العائلة.
ثم الدالفُ الجديد ، السمراء ..

"لا تسألوني مااسمهُ .. أخشى عليكم ضوعة الطيوب !"

انضمتّ لهم ساره .. واستأثرت بالإهتمام كله !

أحاديث الأصدقاء تأتي ضاحكة مسليّة ..
لكن أحاديثي لساره تأتي مفعمةً بإحساسٍ لا أعرفه ،
كأنما يدعوني لإلتهام مزيدٍ من الدقائق معها !

أشعر بها ، صديقه و .. أكثر !
دخلتْ في أعمق تفاصيلي .. وأدخلتني في صميم حياتها ..
حميميةٌ تسكنني تجاهها ، أُلفةٌ سريعة أحاطتني بها ..

أحدثها عن بيتنا ، عن أمي المتعبة ، عن والدي الغاضبِ مني دوماً ..
عن إخوتي الذين تزوجوا وصرنا لا نراهم في الأسبوع إلا مرةً او مرتين ..
عن هموم ما بعد التخرج وهل ألتحقُ بالتدريس أم يرمي بي حظي التعيس كعادتهِ في أرتال المنتظرين !
أحدثها حتى عن هم الكتابة الذي يسكنني ،
عن حبي للقصص وملاحقة الأفكار والسرد الذي تتعبني صياغته ..
عن الهلال ، عن قريتنا التي نزورها كل شهرٍ مره ..
عن حتى خادمتنا التي هربتْ وتركتْ لأمي المتعبة الوقوف على حوض الغسيل ..

أشكي و تُصغي ..
ليس إصغاء الأصدقاء الذكور .. بل إصغاءاً تشعر أنه يخفف عنك .. تجيدُ تماماً مشاركتي الألم ..
كلماتها المتعاطفة حيناً .. والمشجعة أحياناً اخرى ، تستحيلُ يداً تربتُ على كتفي !
كل ضيقٍ يساورني وأُبديه لها .. تستقبلهُ في اهتمام وتخفف عني كأنما تدثرني بمشاعرها المتعاطفة !
كل مشكلةٍ تنتابني وأبثها إياها .. أجدها سُرعان ماتبدأ في إختراع حلول ..
ليست كأي صديقٍ آخر يستمعُ لمشكلتك ثم يقفز لموضوع آخر كأنما كان ينتظر منكَ إنهاء الحديث ليبدأ مواضيعهُ البليدة !

وتحدثني فأُنصتْ ..
وتروحُ تقصّ علي تفاصيل بيتهم وأحداثه فأشعر بخصوصيةٍ تمحضني إياها ..
وتسألني عن بعض ما أشكل عليها لغةً في بعض القراءات فأندفعُ في محاضراتٍ لذيذة ..
تجيدُ حتى التتلمذ فتشعرني بتفردي!

لم أعمل بنصيحة فهد .. كنتُ صادقاً جداً كما لو كان الكذب خيانة !
كان يقول لي أن الكذب وتنميق الكلام و تصفيفهُ خيرُ دعايةٍ نبثها عن أنفسنا فنرسخَ في أذهانهنّ ..
لا أعرفُ اختلاق الأحاديث .. أُجيد تماماً حكيَ واقعي!
لكني مهذبٌ جيداً معها .. أليس التهذيب أكثر ألوان النفاق قبولاً ؟!
سعدتُ جداً بتكوين صداقةٍ مع من تشاركني ذات الهم والوحدة ..
كنا كطائرين حبيسين في قفصٍ واحد ، يغرّدان بالكلام المباح صبحاً وعشيّا .

باسمٌ حديثها ، تعليقاتها ضاحكة .. وتأتي عفويةٌفلا تملك إلا أن تغرق في الضحك ..
تسخرُ مني وأسخرُ منها ولا ترى إلا البسمةَ تعلو محيّانا ..
دخلتْ حياتي كما لو كنتُ أنتظرها سنينَ طِوال .. دخلتْ حياتي كأنما لتؤثثها من جديد ..
ودخلتُ حياتها كما لو كنتُ أملأ النقص الوحيد الذي يعكر صفوها ..

رغم أنها إبنةٌ لأحدِ تجّار العقار.. رغمَ أنها كأميرةٍ في خدرها تأمر فتطاع ..
إلا أنها نبيلة .. ليستْ من الغرور في شيء وأنا الذي ظننتها كذلك ..
ما أبعد المسافة بيننا وبينهم على خط الثراء .. هم في أقصى اليمين ونحنُ نقبع أقصى اليسار ..
ما أبعد المسافة بيننا وبينهم .. نحنُ في أقصى الجنوب وهم في أفخم أنحاء الشمال ..
تتحدثُ عن خادمٍ وسائق وطاهيَه .. عن مسبحٍ منزليّ كبير تمارس فيه هوايتها .. عن حديقةٍ غناء تخبرني أنها تحدثني الآن فيها !
تتحدثُ لي عن مجتمعٍ نبيل وعزائم فاخرة وعلية قومٍ تراهم في مناسباتهم الخاصة ..
رغم كل هذا، لم أكنْ أكذب ..أحدثها بحياتي اليوميّة ومايعرض فيها وأعيشه ..
و كانتْ نبيلةً للقدر الذي أُصارحها فيه بكل شيء فتسمع بنضج ..

عندما أهاتفها .. كل مرة تصيبني رهبة البدء .. لم أتخلص من هذا الشعور رغم تكرار المكالمات ..
أتصلُ بها ولا أعرف ماذا سأقول .. لكنها كانتْ تسيّر الأمر تماماً .. كأنني أحضر الزورق وهي من يشرعُ في التجديف ..
نُمتطي جياد الحديث وننطلق ، نعبر كل شيء .. نخرجُ من مضمار لنقتحم آخر ، يروح الليلُ شعراً وما نحن بالشعراء ..
كانت مهاتفتي لها تُشبه قول جان جاك روسو عن كتابة رسائل الهوى:
لكي تكتب رسالة عشق عليك أن تبدأ دون أن تعلم ماذا تريد أن تقول وأن تنتهي دون أن تعلم ماذا قلت .
كنتُ أبدأ الحديث بالسلام وتمضي ساعتين منهياً الحديث لا أدري ماذا دار على وجه الدقه ، لكني سعيـد !

يا للحنان والقلب الكبير !
حين أخبرتها أني أنا من قمتُ بغسل أواني العشاء البارحة لأن أمي كانت متعبةً جداً ..
حين قلتُ لها ذلك كنت أبتسم ، أنتظر سخريتها البارعه وتعليقاتها المضحكة ..
لكنها لم تضحك ولم ترد .. فقدتُ صوتها ..
ثم إرتفعتْ نبرة بكائها بوضوح .. راحتْ تشكرني لماذا لا أدري !
كانتْ تقولُ أني على النقيض من أخويها مثلا ً .. لن يفعلا لأمي شيئاً من هذا قط ..
ابتسمتُ في نفسي وأنا أقول: لأنهمْ يملكون على الفور قيمة خادمةٍ جديدة !

هل أحبها .. لا أعرف ! هل هذا هو الحب ؟ لا أدري !
هل أعشقها .. أيضاً لا أعرف ، لكن كلما تحادثنا قفزت صورة عينيها حاضرةً طوال المكالمة ..وأشعرُ بالشغف !
هل أغارُ عليها .. للأسف نعم !
عندما أتصلُ بها ويتضح أن الخط مشغول أمتلأ بوساوسي ..
أتُراها تُحادث الآن أحد أبناء الطبقةِ الراقية .. يُحدثها عن سفراتهِ وسيارته الفارهه بعد أن سأمتْ حديث الرجلِ الذي يغسلُ الصحون !
وأسألها فتجيبْ ..
- كانت أختي على الخط
- متأكدة ؟!
- فيصل وش فيك ؟

ويسألني فهد عن سير العلاقة ، فأخبرهُ أن الإنسجام يصلُ مداه .. فلا يفتأ عن تحذيري :

-إنتبِهْ ، إيّاك وأحاديث الصِدق .. تُولّد الحميمية ثم التعوّد ثم الإدمان الذي هو الحب !
- لا لا عليك .. مجرد صداقه !
- صداقه فقط ؟ يالك من مغفل .. عِش حياتك !
- ماذا تريد أن أفعل
- ادعها للخروج للنزهة .. هل تريدُ البقاء كل أيامِك خلف سماعة الهاتف !!

لا أستطيعُ فعل ذلك .. وكيف أسألها الخروج !
أخشى أن تغضب ، أن تظنني أتلاعب بها .. أخشى أن يفلت الحُلم من يدي !
كنتُ قد توصلتُ للتصالح مع نفسي تجاه هذه العلاقة :
يكفي أن تكون محادثاتٍ تؤنس الوحدة وتخفف الضغوط
الكثيرون يهوون المراسلة .. يعقدون صداقةً فقط بالكلمات .. بالنسبةِ لهم أظنني أعيشُ في ترفٍ نسبيّ !
ولكن ..
تلك العيون التي تسكنني ، وما سكَنَ خلف النقاب واستتر عني .. أفلا أفوزُ بنظرة ؟
ثم أرى جيوبَ الهيئةِ تجوب الطرقات فأتذكر أبي وأمي والفضيحة فأحجم !
الرياض مدينةٌ كبيرة .. لكنها تصغرُ في الفضائح لتصيرَ قرية !
لا أدري ..

في المساء هاتفتني .. عشرةُ أيامٍ من الإتصالات المكثفة والأحاديث النديّه ..
لم يتراخَ عزمُ اللذة ولم يفْقد الكلامُ شهيّته ..
كان كل شيءٍ يتصاعدُ لدرجة الإدمان !

- أنهيتُ رواية الأبله ، بصراحه كانت جيّده .. إنما لم أجد فيها غايتي
- أخبرتكِ ساره أن دوستويفسكي لا تهمه أحاديث الحب وأحزان الفراق وحبكة الجرائم .. نفسيٌ بالدرجة الأولى
- أليسَت هناك روايات تجمع بين الوعي و النضج وبين المتعه والتشويق .. كاتبٌ يقدر جمعَ الإثنتين
- إممم هل قرأتِ بين القصرين لنجيب ، حبكةٌ مشوّقة ولا تخلو من الدروس المُستقاة .. لن تندمي ، أعودُ لها كثيراً في مكتبتي الخاصة
- هل تُعيرني إياها ؟!
- .......
- سآتي غداً لنفس المحلّ وأعطيك الأبله وأعطني هذه !

يبدو أنها تبرمت من كسلي فأخذتْ دور المبادرة ..
لم أُبادر بطلب رؤيتها ... فاحتالت هذه الحيلة ..
توقعتْ مني أن أطلب رؤيتها فأدركت ترددي .. بهذه الحيلة اللطيفة يبدو أنها تبرر الأمر !
"كيدهنّ عظيم " قلت في نفسي..

كنتُ أفكر هكذا غارقاً في الصمت ..
للأسف ، لم أعرفها جيداً.. ظلمتُها .. لم تكنْ بحاجةٍ لهذه الحيل !
أفقتُ مجدداً على صوتها يسألني :

- ألا تريد أن تراني ؟!

يتبع ..


اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 2 من 10 < 1 2 3 10 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
لا يوجد كلمات دلالية ..









الساعة الآن 09:40 PM