7
جاء صوتها هادئاً يشق صمت الرياض، ينسابُ كنسمةٍ باردةٍ تداعب غصناً أخضر ، نطقتْ إسمي متسائلةً إن كنتُ أنا .. ووقفتُ عن الجواب لبرهه .
كان إسمي ينبعثُ بين شفتيها كـ قبله !
"فيصل؟" هكذا نطقتهُ مستفهمةً تستجلي الأمر، قالتهُ بصوتٍ حاد يستفسر، راحت أذني تستقبلهُ كما لو كانت تسمعه أول مره ..
كان إسمي جميلاً جداً ..شعرتُ بإنّي أحمل الإسم الأجمل في المدينه .. همسَت بهِ في ليل السيارة المتوقفة فحركت فيّ إحساساً لم أفهمه ..
- اي نعم .. مرحبا ؟
نطقتُ عبارتي الأخيرة وأنا لا أدري كيف أبدأ أو ماذا أقول ، أشبهَ بطفلٍ يتعلم المشيَ بعد الحبو ..
- عرفتني ؟
لا ، ليستْ حانقه .. لو كانت كذلك ما رمت بهذا السؤال ، لكانت تنطلقُ في مرافعاتٍ غضبى الآن ! لمزيدٍ من سماع صوتها العذب رحتُ أتغابى :
- لا ، عفواً من معي ..
ضحكتْ كأنما تقولُ لي أيها الكذوب ..
- أنا اللي أعرتـَها الكتاب بالأمس !
- آها .. صاحبة الجهاز ؟
سؤالٌ آخر أطمحُ لسماع إجابتها ، على طريقة / هل من مزيد أيها الصوتُ الناغم .. أجابتني فوراً :
- " إمممهه "
هكذا .. لم تجب بكلمة ، فقط همهمت بهذه النغمة في غنج علامة الإيجاب ...
كأنها تعرفُ سطوة صوتها فراحت تقتصدُ في إستهلاكه !
توقفتْ وتوقفتُ أنا ..
مرت سياره ثم أخرى أنا أرمق الطريق في صمت من خلال مرآتي الخلفية ..
كنا غارقين في السكوت كأنما جمدت الألسن بغته .. كأنما انتهتْ المكالمة .. أضعُ الهاتف على أذني وتضعهُ على أذنها لنسمع صمتنا !
ربما ظنت أني من النوع الذي يُعتمد عليه في فتح آفاق الحوار ..
ربما توقعتْ أن عليها فقط أن تتصل وتترك أمر النقاش للشاب الجريء يُدير دفته ..
بالتأكيد هالها صمتي ،
أردتُ تحرير لساني من رقدتهِ فاستعصم ، أردتُ دفع الحديث لأي وجهة فعثرتُ بحجارة الرهبة ووقعت !
ماذا تحسبني ؟ رجلاً يلتقي النساء كل يوم .. ؟ رجلا ً يجيدُ مناقشة الأنثى كمناقشة الرجال ؟
في غمرة أفكاري استيقظتُ على صوتها ينقذ مأزقي :
- يبدو أنك مشغول !
هه، بربك توقفي عن إضحاكي يا سمراي؟! لو اتصلتي وأنا في غمرة انشغالي لأجلتُ كل شيء وفرغتُ لك !
سأخرق تلك الحكمة وأؤجل عمل اليوم إلى الغد .. آه لو تدرين ، مبلبلٌ يا سيدتي لستُ مشغولا .. أي شغلٍ في الواحدة والنصف !
أجبتها بسذاجة :
- لا ، بالعكس .. إنما .. فقط متفاجئ بعض الشيء ..
كانت جملةً رديئه تمتلأ بألف ثغره ، إنما هي محاولةٌ لإرتكاب الحديث !
- متفاجيء ؟ طيب ليش كتبت رقمك !؟
هيّا .. أولى ثمار جملتك الغبيه ، إذاً فلتحصد ثمار ما زرعْت!
حركتُ سيارتي وسلكتُ الطريق أمشي على مهل .. ربما حركة السيارة تصيبُ عقلي ولساني بالعدوى !
فكرت : لا مزيد من الخجل ، تذكر .. الإنطباع الأول أدومُ خاطر !
حسناً :
- سجلتُ رقمي لأحدثك ، راق لي حقاً ذاك النقاش في المحل بالأمس !
- يبدو أنه النقاش كان مجرد وسيلةٍ لغاية !
أيضاً هي بادرتْ بالجرأة ونزع رداء الخجل .. هذا ماتريدين ؟ إذاً هيا ننطلق :
- سأكون كاذباً إن قلتُ أشياء كثيرة ..
إن أخبرتكِ أني لم أطمع في محادثتك .. انعتيني بالكاذب .
إن قلت جئتي ومضيتي دون ترك أثر .. قولي لي كاذب .
وكاذبٌ جداً إن قلتُ أنكِ كأي أنثى صادفتها يوماً !
رميتُ بعبارتي وأنا أردد في نفسي : هذه الجرأة، فلتشبعي نهمكِ يا فاتنتي !
لم يطلْ صمتها كثيراً .. كأنها ضحكت وهي تقول :
- واو .. صريح جداً !
رحتُ أجترّ الحديث ..
- هل تعلمين ماالفرق بين الصراحه والوقاحه ؟
- ها ؟
- الصراحه أن أخبركِ شيئاً حقيقياً .. الوقاحه إخباركِ مالا تودين سماعه! وأظنني جمعتُ الإثنتين !
-إممم لا غلط !، الصراحه أن تخبرَ بالصدق ، الوقاحه نوعٌ من الكذب وتشويه الحقيقه !
- أبداً ! كلاهما حقيقه .. كلاهما خبرٌ صادق .. هل تعرفين فلسفة الكاتب الفرنسي اندري مورا بخصوص هذا الأمر ؟
يقول : الصراحه هو النقد الذي نسمعه ممن يحبوننا ونحبهم. الوقاحه هي مانطلقه على الصراحة ذاتها حين تأتي ممن لا نحب !
- ماشاء الله ، يعني الأمر متوقف على مشاعرنا تجاه الناقل ؟ صدقني مامعه سالفه مورا ههههههه
على صوتِ ضحكتها كنتُ أقفُ بعيداً جداً عن بيتنا ..
طرقاتٌ لأول مرةٍ أعبر من خلالها ، كنتُ أقود كالأعمى وأستمتعُ بالحديث العذب !
تركتُ لأذني دفة القيادة .. مع كل جملةٍ كنتُ أنعطفُ عبر أقرب ممر ، غصتُ في متاهات المدينة !
أين أنا ؟ لا يهم .. المهم أني على الهاتفِ مع هذه العذبه !
بصوتٍ بشوش سألتْ :
- أتوقع إنك بالسياره !
- كيف عرفتي ؟
- صوتُ السيارات المارّه ، صوتُ الهواء القوي ...
ضغطتُ على بوق سيارتي.. راحت على الفور تقول :
- وأيضاً صوت المنبه هههه
فـ ضحِكنا سوياً..
قلت لها أنها نست أهمّ شيء .. صوتُ الأنغام الصادحةِ من المسجل !
يالغبائي .. ليست كل البيوت بيتنا !
أخبرتني ضاحكةً مني أن الأغاني ليستْ حكراً على السيارات ، قالت ها أنا في غرفتي و لا يكف صوتُ محمد عبده عن الغناء !
وقنواتُ الفيديو كليب لاتهدأ حتى أقرر النوم !
وأننا كشباب ، محظوظون جداً لحريتنا في الخروج والدخول متى نشاء ..
على إثر حديثها رحتُ أبتسم !
في الرياض تتجاورُ البيوت وتصطف قبالة بعضها لكن بينهنّ ثمة فروقاتٍ واضحه ..
رمى بي حديثها في بحر المقارنات ورحتُ أفكر ..
أي سجنٍ يا سمراء ؟
في بيتنا .. لم تكن تخرج شقيقاتي إلا للمدارس فقط !
السوقْ في مواسم متباعده .. يخرجنَ برفقة والدي أو رفقة أحدنا نحن الأبناء ..نحرسهنّ كقطيعٍ لا يعرف إدارة أموره إلا بوجود راعي !
يوصينا أبي أن ننزل معهن ونجول في السوق وبضائعهِ المملة ونعيدهن بسرعه !
والدي لو سمع صوتَ موسيقى ينبعث من التلفاز لأقام الدنيا وما أقعدها ..
في بيتنا لم يكن لشقيقاتي قبل زواجهنَ صديقاتٌ خارج اليوم المدرسي.. في بيئتنا من الخطأ أن يُترك للفتيات حرية التزاور !
لا بد من ملعقة شكٍ وارتياب لنصونَ المرأة ..
نتعاهدها بالحراسة حتى تغادر لبيت زوجها كماسةٍ تُحاط بالعناية والرقابة والإهتمام حتى البيع !
في بيتنا .. كانت تُكمل الفتاة التعليم الثانويّ ثم تقف مجبورةً .. لأن سمعة الجامعة سيئة في مجمتعنا المحافظ !
تتحدثين عن السجن يا ذات الهودج الخاص !
أي سجنٍ بربك وأنتِ الساهرة على أنغام أبو نورة في الثانية من الليل !
أتتحدثين عن السجن ياذات السائق المطيع ! بربكِ عمّاذا تتحدثي !!
في بيتنا .. كانت شقيقاتي يُجمعنَ في غرفةٍ وحيدة .. لا غرف خاصة للبنات !
هه يا أيتها السمراء ذات الغرفة الضاجة جدرانها بأصوات جميلات لبنان !
أنا الشاب ، لا أستطيعُ مشاهدة قنوات الفضاء لأن والدي يمنعُ الدش منعاً باتاً أن يهبط سطح منزلنا ..
وأنتِ تسهرين للفجرِ على قنوات الأغاني في غرفتكِ الأثيره !
رحتُ أقارن بيننا وبينهم في كل ما تخبرني به ..
يا للفرق الواضح !
لديهم كميةٌ هائلةٌ من الثقة يحيطون بها أبنائهم وبناتهم !
لها كافة الحرية حتى العاشرة من الليل ..
بعد العاشرة يجب أن تكون في المنزل .. يُمنع السواق بعد العاشرة أن يلبي مشواراً إلا للضرورة .. يا للصرامة !
ثقتُها في الحديث كانت تتصاعد .. جرائتها ساعدتني لأنطلق معها لأتحدث عبر كل شيء ..
ليستْ مثلي أبداً .. تتضحُ عليها آثار النبل والثراء .. كانت تتحدثُ غاضبةً على خادمتهم المغربية التي نامت ولم تجهز لها العشاء ..
سمعتُ عن سائقين في البيت وليس واحد !
جهازها الذي كان بالأمس بداية اللقاء.. عرفتُ أنه يفوق الآلاف التسعة !
أجوبُ طرقات حيّنا السكني البسيط وهي تثرثرُ عن أرقى أحياء الرياض بطلاقةٍ تشي أنها من تلك البِقاع !
كل شيء يحيط بها كان نقيضاً لي ..
بهرتني بحديثها عفويتها ثراءها رقة صوتها ..
تتحدثُ لي وأسترجع مشهد عينيها البراقتين فلا أجد أحق بتلك العيون الجميلة من هذا الهمسِ الرقيق ..
رمتْ بي في أتونِ المقارنة .. أدركتُ على الفور حقيقةً دامغه : تجمعنا الرياض لكن نعيش في عالمين نقيض !
لم يعد الأمر مجرد إقترابي من أنثى واتخاذها صديقه ..
ما بات فقط هوساً بهذه العيون والقوام الرشق والدنوّ منه ..
وليس ملأ فراغي وإشباع عاطفتي المتقدة ..
بل أيضاً أصابني الفضول ..
الفضول في الإنغماس في هذا العالم الآخر الذي أشاهده عبر التلفاز و أقرأ عنه في القصص ..
عالم الأثرياء والبيوت المنعمّه !
تلك الأحياء التي أمرها لأتأمل قصورها .. اليوم أجدني على مقربةٍ من إحدى فتياتها !
طالما رنوتُ للنوافذ الفاخرة المشجرة وأتخيلُ ما خلف الستائر ..لطالما تسائلت عن الحياة الدائرة في الغرفِ المخملية تلك !
هكذا .. صدفة ..
وجدتُ نفسي أمام فتاةٍ من تلك الطبقه التي تختلفُ عني في كل شيء ..
* * *
توقفتُ أمام بابِ بيتنا القديم..
بقيتُ في السيارة أستمعُ حديثها المنساب كجدول ماء ، حتى سخريتها مني كانت تتسلقُ لمسامعي كأغاريد :
- بربك فيه احد يسمع فريد وأم كلثوم !
- أنا مثل أوسكار وايلد، عارفه وش يقول ؟ " ذائقتي بسيطة جداً، فقط لا أرتضي إلا الأفضل ! "
- يا بابا .. يا بابا فيه اختراع اسمه رابح.. راشد .. عبدالمجيد
ضحكتُ وهي تقول بابا بطريقةٍ تلح في الإقناع ..
- ألحانهم مكررة ، موسيقاهم مستنسخه من بعض ، اتركيهم واسمعي الأطلال أو عش انت .. على الأقل أنفقي سيئاتكِ فيما يستحق
- ههههههههههههههههه
شعرتُ أن ضحكتها تدوّي في سماء حيّنا البسيط .. بيوتٌ متراصة .. متقاربة .. تتكدسُ أمامها السيارات القديمة بعض الشيء ..
ما موقفها لو رأتْ هذا البيت ذو الطلاء المقشر ! أو هذا الباب .. بابنا الذي حوّله أطفالنا وأطفال الجيران سبورة لتعلم الخط ..
ماذا ستقول إن شاهدتْ سيارة والدي " الوانيت " .. سيارتنا الرسميّه .. في حين أسوأ سياراتهم هناك تُمنح للسائق " يوكن فيراني " !!
إبتسمتُ لهذه المقارنة الساحقة ..
استأذنتها في وضع المكالمة على " تعليق " ..دخلت البيت وحين فتحتُ باب غرفتي ذات الستائر القديمة والفوضويّة الأشياء .. عدتُ لسمرائي أتحدث ..
في بيتنا .. أتسللُ للبيتِ كل ليل خائفاً أترقب .. فإذا وجدتُ أبي نائماً شعرتُ أني اجتزتُ الخطر المحدق!
آخر ما ينقصني أن يصرخ فيني والدي وهي تسمع !
كانت الساعة الثالثة وأنا فوق فراشي أحادثها همساً ..
تجاذبنا الحديث في كل شيء .. وعندما قالت متثائبةً " دوّختني يافيصل نعست " ، شعرتُ إن شيطاني يبتسمُ لي ويريد مني تقليب هذه العبارة طويلا ً طويلاْ !
-تصبحين على خير يا .. تصدقين ؟ للحين ما اعرف اسمكْ
- إممم .. لا خليه بعدين ! تصبح على خيـ ..تعال :
بكره ..لا هنت .. فز من طولك.. تروح التسجيلات .. خذ ألبوم راشد " ويلي " .. بربك إركن فريد وخل ام كلثوم تستريح شوي وعطني رأيك بأمانه !
نطقت العبارة الأخيره متقطعةً بصوتٍ متغنج .. صوتُ من تشرّب الدلال في أحضان ذويه جيداً !
لم أكن إلا لألبي ..
- أبشري ، أوامر أخرى ؟
- لا .. بس مو تنسى، يالله بـاي
- مع السلامه
إنتهتْ المكالمة الأولى ..
يبدو أني لم أعطِ إنطباعاً سيئاً ..
" خليه بعدين " تشي بأن الباب موارب .. لم تُغلقه في وجهي .. لا لم أكن سيئاً أبداً !
على صوتها المتراقص في أذني كنتُ أحتضن وسادتي وأغمضُ عيني وأنا أردد :
انتظرني يا راشد في الصباح ..
جاءتني بخصوصك توصية ٌ لا ترد !
قبل أن أستسلم للنوم .. وعلى صوت الأذان الأول مخترقاً هدأة الليل ..
كنتُ أرسل لصديقي ماجد مسجاً سريعا أكتبه في الظلمة :
"صديقي ماجد: شكراً لك ..شكراً لـ محلّك .. شكراً حتى لـ حواسيبك "
جاء صوتها هادئاً يشق صمت الرياض، ينسابُ كنسمةٍ باردةٍ تداعب غصناً أخضر ، نطقتْ إسمي متسائلةً إن كنتُ أنا .. ووقفتُ عن الجواب لبرهه .
كان إسمي ينبعثُ بين شفتيها كـ قبله !
"فيصل؟" هكذا نطقتهُ مستفهمةً تستجلي الأمر، قالتهُ بصوتٍ حاد يستفسر، راحت أذني تستقبلهُ كما لو كانت تسمعه أول مره ..
كان إسمي جميلاً جداً ..شعرتُ بإنّي أحمل الإسم الأجمل في المدينه .. همسَت بهِ في ليل السيارة المتوقفة فحركت فيّ إحساساً لم أفهمه ..
- اي نعم .. مرحبا ؟
نطقتُ عبارتي الأخيرة وأنا لا أدري كيف أبدأ أو ماذا أقول ، أشبهَ بطفلٍ يتعلم المشيَ بعد الحبو ..
- عرفتني ؟
لا ، ليستْ حانقه .. لو كانت كذلك ما رمت بهذا السؤال ، لكانت تنطلقُ في مرافعاتٍ غضبى الآن ! لمزيدٍ من سماع صوتها العذب رحتُ أتغابى :
- لا ، عفواً من معي ..
ضحكتْ كأنما تقولُ لي أيها الكذوب ..
- أنا اللي أعرتـَها الكتاب بالأمس !
- آها .. صاحبة الجهاز ؟
سؤالٌ آخر أطمحُ لسماع إجابتها ، على طريقة / هل من مزيد أيها الصوتُ الناغم .. أجابتني فوراً :
- " إمممهه "
هكذا .. لم تجب بكلمة ، فقط همهمت بهذه النغمة في غنج علامة الإيجاب ...
كأنها تعرفُ سطوة صوتها فراحت تقتصدُ في إستهلاكه !
توقفتْ وتوقفتُ أنا ..
مرت سياره ثم أخرى أنا أرمق الطريق في صمت من خلال مرآتي الخلفية ..
كنا غارقين في السكوت كأنما جمدت الألسن بغته .. كأنما انتهتْ المكالمة .. أضعُ الهاتف على أذني وتضعهُ على أذنها لنسمع صمتنا !
ربما ظنت أني من النوع الذي يُعتمد عليه في فتح آفاق الحوار ..
ربما توقعتْ أن عليها فقط أن تتصل وتترك أمر النقاش للشاب الجريء يُدير دفته ..
بالتأكيد هالها صمتي ،
أردتُ تحرير لساني من رقدتهِ فاستعصم ، أردتُ دفع الحديث لأي وجهة فعثرتُ بحجارة الرهبة ووقعت !
ماذا تحسبني ؟ رجلاً يلتقي النساء كل يوم .. ؟ رجلا ً يجيدُ مناقشة الأنثى كمناقشة الرجال ؟
في غمرة أفكاري استيقظتُ على صوتها ينقذ مأزقي :
- يبدو أنك مشغول !
هه، بربك توقفي عن إضحاكي يا سمراي؟! لو اتصلتي وأنا في غمرة انشغالي لأجلتُ كل شيء وفرغتُ لك !
سأخرق تلك الحكمة وأؤجل عمل اليوم إلى الغد .. آه لو تدرين ، مبلبلٌ يا سيدتي لستُ مشغولا .. أي شغلٍ في الواحدة والنصف !
أجبتها بسذاجة :
- لا ، بالعكس .. إنما .. فقط متفاجئ بعض الشيء ..
كانت جملةً رديئه تمتلأ بألف ثغره ، إنما هي محاولةٌ لإرتكاب الحديث !
- متفاجيء ؟ طيب ليش كتبت رقمك !؟
هيّا .. أولى ثمار جملتك الغبيه ، إذاً فلتحصد ثمار ما زرعْت!
حركتُ سيارتي وسلكتُ الطريق أمشي على مهل .. ربما حركة السيارة تصيبُ عقلي ولساني بالعدوى !
فكرت : لا مزيد من الخجل ، تذكر .. الإنطباع الأول أدومُ خاطر !
حسناً :
- سجلتُ رقمي لأحدثك ، راق لي حقاً ذاك النقاش في المحل بالأمس !
- يبدو أنه النقاش كان مجرد وسيلةٍ لغاية !
أيضاً هي بادرتْ بالجرأة ونزع رداء الخجل .. هذا ماتريدين ؟ إذاً هيا ننطلق :
- سأكون كاذباً إن قلتُ أشياء كثيرة ..
إن أخبرتكِ أني لم أطمع في محادثتك .. انعتيني بالكاذب .
إن قلت جئتي ومضيتي دون ترك أثر .. قولي لي كاذب .
وكاذبٌ جداً إن قلتُ أنكِ كأي أنثى صادفتها يوماً !
رميتُ بعبارتي وأنا أردد في نفسي : هذه الجرأة، فلتشبعي نهمكِ يا فاتنتي !
لم يطلْ صمتها كثيراً .. كأنها ضحكت وهي تقول :
- واو .. صريح جداً !
رحتُ أجترّ الحديث ..
- هل تعلمين ماالفرق بين الصراحه والوقاحه ؟
- ها ؟
- الصراحه أن أخبركِ شيئاً حقيقياً .. الوقاحه إخباركِ مالا تودين سماعه! وأظنني جمعتُ الإثنتين !
-إممم لا غلط !، الصراحه أن تخبرَ بالصدق ، الوقاحه نوعٌ من الكذب وتشويه الحقيقه !
- أبداً ! كلاهما حقيقه .. كلاهما خبرٌ صادق .. هل تعرفين فلسفة الكاتب الفرنسي اندري مورا بخصوص هذا الأمر ؟
يقول : الصراحه هو النقد الذي نسمعه ممن يحبوننا ونحبهم. الوقاحه هي مانطلقه على الصراحة ذاتها حين تأتي ممن لا نحب !
- ماشاء الله ، يعني الأمر متوقف على مشاعرنا تجاه الناقل ؟ صدقني مامعه سالفه مورا ههههههه
على صوتِ ضحكتها كنتُ أقفُ بعيداً جداً عن بيتنا ..
طرقاتٌ لأول مرةٍ أعبر من خلالها ، كنتُ أقود كالأعمى وأستمتعُ بالحديث العذب !
تركتُ لأذني دفة القيادة .. مع كل جملةٍ كنتُ أنعطفُ عبر أقرب ممر ، غصتُ في متاهات المدينة !
أين أنا ؟ لا يهم .. المهم أني على الهاتفِ مع هذه العذبه !
بصوتٍ بشوش سألتْ :
- أتوقع إنك بالسياره !
- كيف عرفتي ؟
- صوتُ السيارات المارّه ، صوتُ الهواء القوي ...
ضغطتُ على بوق سيارتي.. راحت على الفور تقول :
- وأيضاً صوت المنبه هههه
فـ ضحِكنا سوياً..
قلت لها أنها نست أهمّ شيء .. صوتُ الأنغام الصادحةِ من المسجل !
يالغبائي .. ليست كل البيوت بيتنا !
أخبرتني ضاحكةً مني أن الأغاني ليستْ حكراً على السيارات ، قالت ها أنا في غرفتي و لا يكف صوتُ محمد عبده عن الغناء !
وقنواتُ الفيديو كليب لاتهدأ حتى أقرر النوم !
وأننا كشباب ، محظوظون جداً لحريتنا في الخروج والدخول متى نشاء ..
على إثر حديثها رحتُ أبتسم !
في الرياض تتجاورُ البيوت وتصطف قبالة بعضها لكن بينهنّ ثمة فروقاتٍ واضحه ..
رمى بي حديثها في بحر المقارنات ورحتُ أفكر ..
أي سجنٍ يا سمراء ؟
في بيتنا .. لم تكن تخرج شقيقاتي إلا للمدارس فقط !
السوقْ في مواسم متباعده .. يخرجنَ برفقة والدي أو رفقة أحدنا نحن الأبناء ..نحرسهنّ كقطيعٍ لا يعرف إدارة أموره إلا بوجود راعي !
يوصينا أبي أن ننزل معهن ونجول في السوق وبضائعهِ المملة ونعيدهن بسرعه !
والدي لو سمع صوتَ موسيقى ينبعث من التلفاز لأقام الدنيا وما أقعدها ..
في بيتنا لم يكن لشقيقاتي قبل زواجهنَ صديقاتٌ خارج اليوم المدرسي.. في بيئتنا من الخطأ أن يُترك للفتيات حرية التزاور !
لا بد من ملعقة شكٍ وارتياب لنصونَ المرأة ..
نتعاهدها بالحراسة حتى تغادر لبيت زوجها كماسةٍ تُحاط بالعناية والرقابة والإهتمام حتى البيع !
في بيتنا .. كانت تُكمل الفتاة التعليم الثانويّ ثم تقف مجبورةً .. لأن سمعة الجامعة سيئة في مجمتعنا المحافظ !
تتحدثين عن السجن يا ذات الهودج الخاص !
أي سجنٍ بربك وأنتِ الساهرة على أنغام أبو نورة في الثانية من الليل !
أتتحدثين عن السجن ياذات السائق المطيع ! بربكِ عمّاذا تتحدثي !!
في بيتنا .. كانت شقيقاتي يُجمعنَ في غرفةٍ وحيدة .. لا غرف خاصة للبنات !
هه يا أيتها السمراء ذات الغرفة الضاجة جدرانها بأصوات جميلات لبنان !
أنا الشاب ، لا أستطيعُ مشاهدة قنوات الفضاء لأن والدي يمنعُ الدش منعاً باتاً أن يهبط سطح منزلنا ..
وأنتِ تسهرين للفجرِ على قنوات الأغاني في غرفتكِ الأثيره !
رحتُ أقارن بيننا وبينهم في كل ما تخبرني به ..
يا للفرق الواضح !
لديهم كميةٌ هائلةٌ من الثقة يحيطون بها أبنائهم وبناتهم !
لها كافة الحرية حتى العاشرة من الليل ..
بعد العاشرة يجب أن تكون في المنزل .. يُمنع السواق بعد العاشرة أن يلبي مشواراً إلا للضرورة .. يا للصرامة !
ثقتُها في الحديث كانت تتصاعد .. جرائتها ساعدتني لأنطلق معها لأتحدث عبر كل شيء ..
ليستْ مثلي أبداً .. تتضحُ عليها آثار النبل والثراء .. كانت تتحدثُ غاضبةً على خادمتهم المغربية التي نامت ولم تجهز لها العشاء ..
سمعتُ عن سائقين في البيت وليس واحد !
جهازها الذي كان بالأمس بداية اللقاء.. عرفتُ أنه يفوق الآلاف التسعة !
أجوبُ طرقات حيّنا السكني البسيط وهي تثرثرُ عن أرقى أحياء الرياض بطلاقةٍ تشي أنها من تلك البِقاع !
كل شيء يحيط بها كان نقيضاً لي ..
بهرتني بحديثها عفويتها ثراءها رقة صوتها ..
تتحدثُ لي وأسترجع مشهد عينيها البراقتين فلا أجد أحق بتلك العيون الجميلة من هذا الهمسِ الرقيق ..
رمتْ بي في أتونِ المقارنة .. أدركتُ على الفور حقيقةً دامغه : تجمعنا الرياض لكن نعيش في عالمين نقيض !
لم يعد الأمر مجرد إقترابي من أنثى واتخاذها صديقه ..
ما بات فقط هوساً بهذه العيون والقوام الرشق والدنوّ منه ..
وليس ملأ فراغي وإشباع عاطفتي المتقدة ..
بل أيضاً أصابني الفضول ..
الفضول في الإنغماس في هذا العالم الآخر الذي أشاهده عبر التلفاز و أقرأ عنه في القصص ..
عالم الأثرياء والبيوت المنعمّه !
تلك الأحياء التي أمرها لأتأمل قصورها .. اليوم أجدني على مقربةٍ من إحدى فتياتها !
طالما رنوتُ للنوافذ الفاخرة المشجرة وأتخيلُ ما خلف الستائر ..لطالما تسائلت عن الحياة الدائرة في الغرفِ المخملية تلك !
هكذا .. صدفة ..
وجدتُ نفسي أمام فتاةٍ من تلك الطبقه التي تختلفُ عني في كل شيء ..
* * *
توقفتُ أمام بابِ بيتنا القديم..
بقيتُ في السيارة أستمعُ حديثها المنساب كجدول ماء ، حتى سخريتها مني كانت تتسلقُ لمسامعي كأغاريد :
- بربك فيه احد يسمع فريد وأم كلثوم !
- أنا مثل أوسكار وايلد، عارفه وش يقول ؟ " ذائقتي بسيطة جداً، فقط لا أرتضي إلا الأفضل ! "
- يا بابا .. يا بابا فيه اختراع اسمه رابح.. راشد .. عبدالمجيد
ضحكتُ وهي تقول بابا بطريقةٍ تلح في الإقناع ..
- ألحانهم مكررة ، موسيقاهم مستنسخه من بعض ، اتركيهم واسمعي الأطلال أو عش انت .. على الأقل أنفقي سيئاتكِ فيما يستحق
- ههههههههههههههههه
شعرتُ أن ضحكتها تدوّي في سماء حيّنا البسيط .. بيوتٌ متراصة .. متقاربة .. تتكدسُ أمامها السيارات القديمة بعض الشيء ..
ما موقفها لو رأتْ هذا البيت ذو الطلاء المقشر ! أو هذا الباب .. بابنا الذي حوّله أطفالنا وأطفال الجيران سبورة لتعلم الخط ..
ماذا ستقول إن شاهدتْ سيارة والدي " الوانيت " .. سيارتنا الرسميّه .. في حين أسوأ سياراتهم هناك تُمنح للسائق " يوكن فيراني " !!
إبتسمتُ لهذه المقارنة الساحقة ..
استأذنتها في وضع المكالمة على " تعليق " ..دخلت البيت وحين فتحتُ باب غرفتي ذات الستائر القديمة والفوضويّة الأشياء .. عدتُ لسمرائي أتحدث ..
في بيتنا .. أتسللُ للبيتِ كل ليل خائفاً أترقب .. فإذا وجدتُ أبي نائماً شعرتُ أني اجتزتُ الخطر المحدق!
آخر ما ينقصني أن يصرخ فيني والدي وهي تسمع !
كانت الساعة الثالثة وأنا فوق فراشي أحادثها همساً ..
تجاذبنا الحديث في كل شيء .. وعندما قالت متثائبةً " دوّختني يافيصل نعست " ، شعرتُ إن شيطاني يبتسمُ لي ويريد مني تقليب هذه العبارة طويلا ً طويلاْ !
-تصبحين على خير يا .. تصدقين ؟ للحين ما اعرف اسمكْ
- إممم .. لا خليه بعدين ! تصبح على خيـ ..تعال :
بكره ..لا هنت .. فز من طولك.. تروح التسجيلات .. خذ ألبوم راشد " ويلي " .. بربك إركن فريد وخل ام كلثوم تستريح شوي وعطني رأيك بأمانه !
نطقت العبارة الأخيره متقطعةً بصوتٍ متغنج .. صوتُ من تشرّب الدلال في أحضان ذويه جيداً !
لم أكن إلا لألبي ..
- أبشري ، أوامر أخرى ؟
- لا .. بس مو تنسى، يالله بـاي
- مع السلامه
إنتهتْ المكالمة الأولى ..
يبدو أني لم أعطِ إنطباعاً سيئاً ..
" خليه بعدين " تشي بأن الباب موارب .. لم تُغلقه في وجهي .. لا لم أكن سيئاً أبداً !
على صوتها المتراقص في أذني كنتُ أحتضن وسادتي وأغمضُ عيني وأنا أردد :
انتظرني يا راشد في الصباح ..
جاءتني بخصوصك توصية ٌ لا ترد !
قبل أن أستسلم للنوم .. وعلى صوت الأذان الأول مخترقاً هدأة الليل ..
كنتُ أرسل لصديقي ماجد مسجاً سريعا أكتبه في الظلمة :
"صديقي ماجد: شكراً لك ..شكراً لـ محلّك .. شكراً حتى لـ حواسيبك "
يتبع....