9
هناك في محل ماجد حين رأيتُها قبل يومين .. كان إبليس يكتب السيناريو ويقوم بالإخراج وأنا مجرد بطلٍ يؤدي الدور !
أما هنا ، في هذه السيارة الواقفة على قارعة طريقٍ مظلم ، كان إبليسُ يتوارى إحتراماً لفهد .. فهد ذاك الشيطان البشري الذي يعرف الكثير ..
كان إبليس يترك المقاعد الأمامية في مسرحية "الشاب والسمراء" ويقول لفهد تفضل.. هذا المكان مكانك .. ثم ينزوي صامتاً في جوانب المسرح الكبير !
فهد صديقي منذ كنتُ طفلاً في قريتنا .. سبقني في الظهور للدنيا بأربعين يوما .. كان بيتهم الطيني يقابل بيتنا تماماً .
تعلمنا الحبوَ سوياَ .. نطقنا ومشينا سوياً ،
كبُرنا على نصائح أمهاتنا ينبّهنَنا أن نلزم البقاء عند الباب ، وشققنا عصا الطاعةِ وخرجنا إلى المزارع سوياً ..
كبرنا وصرنا أشقياء بما يكفي لنتلقى العلقات من أهلنا .. ومن جدي وجده حين نَدهمُ السواقي ونخطرُ في حقول البرسيم غير آبهينَ بأقدامنا التي تحصدُ ماوطأت ..
وعرَفتْ الأغنام هجماتنا سوياً مقلدين الذئاب الشرسة ضاحكين ، والنخلُ المتسامي عرفَ شقاوتنا ...سوياً ..
لطالما صعدنا النخيل كأنما نصعدُ في السماء .. ولطالما استعجلنا مواسمها فقطفنا ثمرها ولمّا يؤت أٌكلهُ بعد ..
وعرفنا الرياض في ذات الوقت تقريباً .. نزلوها أهلهُ قبلنا بأشهر،
يومها بكيتُ فوق ركامِ بيتٍ طينيٍ خرِب، اعتليتهُ ورحت أشيّعهم راحلين عن القرى في صبحٍ كئيب !
عرَك الرياض قبلي ، شبَ وصار رجلاً كأنما استحال فرقُ الأيام بيني وبينهُ أعواماً طوال،
اختلفت اهتمامتهُ جذرياً .. ترك طفولته في القرية وبات شيئاً آخر تماماً !
قرويٌ لطمتهُ الحضارة بغته .. خرج عن النسق كلياً وساءت سمعتهُ .. تعثرت دراستهُ طويلاً ..
انخرط في العمل الوظيفيّ كاتباً في أحدِ فروع البلدية بالرياض، عملٌ يغيبُ عنه أكثر مما يحضر!
ثم بالكاد أتمّ تعليمه الثانويّ -ليلاً- حين صرتُ الآن طالباً في سنة التخرج من كلية اللغة العربية.
في نظر والدي لم يعد فهد ذلك الجارُ القديم .. ما عاد ذلك الفتى الوادع الذي يغدو ويروحُ إلينا كما لو كان أحد أفراد منزلنا .
صار أبي يصفهُ بشيطانِ وُلِد في بيتٍ ملائكيّ .. عقوبةٌ ابتلى الله بها أهلَه ! يزجرني إن رآني معه ..
دائماً مايعطيهِ - أبي - الأعذار المكذوبة حين يراهُ أمام بيتنا ينتظرني ..لهذا اِعتدتُ أن ألتقيهِ سراً !
نعم هو نموذجٌ للصديق السيء في نظر الآباء ، سيماهُ في وجهه ..
إنما للحق هو أقربُ الأصدقاء طراً ..
وأعرفُ أن خلف سمرتهِ الطارئة وعينيه الغائرتين وجبهتهِ المندوبة قلباً ينضح بالصداقة والطهر ..
السفر الشراب حضور مباريات الهلال السهر أبرز إهتمامات فهد وأهم قضاياه الخاصة.. لكنّ لا صوتَ يعلو في حديثه على صوت النساء !
يحدثنا عن تجاربهِ فـ يغمرنا الصمت كـ تلاميذ يقبعون فوق المقاعد مصخين السمع لمعلمهم ..
يقصّ لنا مغامراتٍ لا نراها إلا في الأفلام ، لم نكن لنصدق يوماً أن الرياض تخبيء في زواياها مثل هذا العرض ..
الهدايا التي تملأ غرفته ، دُمى الدببة المتناثرة في الشقه ، قلوب الحب والدناديش الحمراء التي تزين سيارته كلها تخبرنا أنهُ المتفرد عنا !
حتى فاتورة هاتفهِ التي تتجاوز مرتبه الشهريّ ، يقسم لنا باسماً معتداً بنفسه ، أن فتاةً في شمال الرياض تتكفلُ بسدادها له فنغرق في الضحك وبعضنا في الحسد !!!
كان يسميني " نجيب محفوظ " هازئاً من إمعاني في القراءة .. وأسميه " دنجوان " لإمعانهِ في أحاديث الهوى ..
قال لنا يوماً وهو يُفصحُ عن نظريّاته الخاصه :
- لا يهم الجمال ولا الأناقة ولا حتى المادة .. يلزمك خفة الظل وسلاسة الحديث لتستقر في قلب إحداهن
وكنا نصغي ... لا يجرأ أحدنا فيقطع الحديث اللذيذ
- المرأه تبحث عن ما يتضاد مع شخصيتها ، لا تريد الجمال ولا النعومه ولا سخافات المراهقين في الأسواق ، تريد رجلاً ليس أكثر
فأقول في نفسي تباً له كيف يعرف؟! ، ما كان ينقصنا إلا كراساتٍ جانبية نسجل فيها مايقوله د.دنجوان ونتلقاهُ كمحرومين !
- الأنثى لا تريد منك إلا أن تُشعرها بالدفء والإهتمام ،لذلك حين تتحدث إليها: " اصرف حنانك هههههههههه "
ونضحكُ كأننا نقول للحديث الصاخب هل من مزيد !
في إحدى المساءات الباردة ..
اتصلَ بي وهو يتألقُ سعادةً .. عرفت فيما بعد أنه عائدٌ من موعدٍ غرامي، حادثتهُ وهو يغني " زي الهوا " ..
رفعت سماعة الهاتف لينطلق صوتهُ في حبور:
- وفـ عز الكلام آآآآه، سكت الكلا.. ألو ، هلا نجيب، أعرف جيداً ماذا تفعل ، ممسكٌ بروايةٍ ساذجه وتقرأ هههه
- أهلا فهد ، وكأنك تدري !
كنتُ حينها أقرأ رواية جين اير العالميّه مأخوذاً بتفاصيلها .. قال لي على الفور :
- غبي! اصنع روايتكْ لا تقرأها .. الأحاسيس والمشاعر تُعاش أولاً ثم تُقرأ !
حين تصنع تجربتك الخاصه، إطّلعْ على تجارب الآخرين يابو محفوظ.. وأتاريني ماااسك الهوى بيديّا آآآه ماسك ...
راح يغني وأنا أضحك !
هل كنتُ أحسِده ؟
هل كنتُ أتمنى أن أكون مثلَه ، حقاً لا أدري !
لكنّي كنتُ على فتراتٍ متباعدة أحاول أن أغتنمَ رياحي حين تهِب ، مدفوعاً بالإنتعاش اللذيذ الذي أراهُ في أعين دنجوان !
كنتُ على النقيض منه ،حييّاً أفتقدُ للجرأة ، كثيراً ما كنتُ أكتفي بإختلاسِ النظراتِ أملاً في تحقيق علاقةٍ عابرة ، لكن النظرات لا تصنع للحمقى شيئاً !
كنتُ أعود بالخيبة والكثير من الألم ،
لديّ عينٌ تهوى الجمال وقلبٌ يهفو للحب لكني أبله .. نعم أبله.. وهذا ما اعتدتُ وصفَ نفسي به حين أسمع احاديث العشاق !
لستُ أسوأ من غيري مظهراً وأناقة .. لكني أدركتُ أن فهد مقنعٌ حين قال :
- الأسلوب !
وأسلوبي أبلهٌ مثلي تماماً .. مرتبك خجول متلكيء .. أشعرُ أني غالباً مثار شفقة الجميلاتِ اللواتي يكتفينَ بالنظر لي ويقلن في أنفسهن :
- يبدو أنه أخرس ! ثم يمضينَ كما لو قلّبن بضاعةً لم تعجبهن !
هكذا .. أقفُ بخجلي ثم أفشل ..أمضي ساخطاً مستصعباً سهولة الأمر الذي يتحدثُ عنه صديقي !
في الرياض .. أسمعُ همسات العشاق لكن لا أراهم .. أفتش في الزوايا فلا أجد إلا الصمت ..
تمنيتُ كثيراً أن أكون صديقاً لإحداهنّ أبثها الوجد وتبثني همومها .. لكن لم أجد !
لهذا ..
عرفتُ أخيراً أن الأسلوب اللبق ليس الأهم، إنما يأتي بعد شيءٍ آخر ، شيئاً أهم منه ، يبدو أن صديقي الأستاذ نسيَ أن يعطي تلميذه النصيحة الأولى ، لكن التلميذ النجيب اقتنصها لوحده :
- الجرأة !
حين تجرأتُ أخيراً .. كنتُ أقفُ على أعتاب مغامرةٍ استوقفت فهد ونظر لي أخيراً بعين الرضا !
رفعتُ الهاتفَ وأنا كافرٌ بالخجل مؤمنٌ أن الحياء لا يصنعُ شيئاً في بلدتي هذه ،
وأمام شيطاني دنجوان الذي كان يردد بإلحاح :
- رد .. كلمها
رحتُ بصوتٍ غير مرتبك ، أحادثها كمن ألِف النساء وأحاديثهنّ :
- هلا و غلا !
على بسماتِ فهد ويده الرابتةِ على كتفي رحتُ منطلقاً معها كلاعبٍ يتلقّى الإشادات من مدربه !
10
- بالتأكيد سمعتُ الأغنية ، إسمحي لي أن أهنيء ذائقتك !
- شايف؟ ماقلت لك عط الجيل الجديد فرصه !
كانت تجيبني ويمينُ فهد تلكزني أن أضع المكالمة على المكبر ، كان يريدُ أن يفحص الصوت كمهندسٍ يريد فحص مركبه !
كانت لديهِ نظرياتٌ بخصوص الصوت :
حاد.. إذاً هي جادةٌ للثقافةِ أقرب ! اهرب عنها
خفيض.. معذبة ! كن لها نعم السنَد تكن لك نعم الصديقة
مبحوح.. عاطفية ! عض عليها بالنواجذ
راح صوتها العابث يدوّي في السيارة :
- إذا أردتَ أيّ استشارة بخصوص الأغاني الجديده ، فسأخبركَ من الآن وهاأنا أقولها لك: لا أحدَ أفهم مني فيها!
كان الصوت ينسكبُ في أذن فهد مزيجاً من تصنيفاته الثلاثة ..الحاد الخفيض المبحوح ..
..يبدو أن دنجوان لم يستطِع تحديد الفصيله فاكتفى بالإبتسام !
متصنعاً الجديّة قلت لها باهتمامٍ باد :
- أوَليس غريباً .. أن تسمعي الموسيقى في وحدتكْ ، فتشعري أنكِ قد ازدحمتي بالناس ؟!
- الله الله ياسيدفيصل، كلمتك هذه جملة موسيقيه لوحدها ههه
- إذاً ، لأكن معكِ صريحاً ، ليست لي بل لروبرت براونغ
مازحةً راحت تضحك :
- آها ، أصلاً هالكلام كبير عليك ههه
كان فهد غاضباً يضرب زجاج سيارتي في صمت وهي تنطلقُ في ردهات الرياض ، علّقت المكالمه :
- ماذا بك !
- يا مغفل يا غبي ، وما يدريها عن هذا الملعون روبرتانغ؟! ، كان ينبغي أن تنسبها لنفسك وتنفرد بالإعجاب ، لا أن تطبّل لهذا السقيم الأمريكي
- أولاً / اسمه براونغ ، ثانياً / بريطاني ليس أمريكي ، ثالثاً / إهدأ لا توترني أرجوك
- حسناً حسناً .. لكن حذارِ أن تكون صدوقاً .. إكذب، إختلق وستُبهر صدقني
فهد ميكافيلي ، كل وسيلةٍ مبررة .. آخر ما يعبأ بهِ حفظ الحقوق !
عدتُ أحدثها بكل شيء .. عن يومي، منذ الصباح وحتى الآن ، عن إفطاري ! عن حتى شراء الشريط ..
عن الكلية عن الأسلوبية في النقد وحديثُ الدكتور المتحمس .. عن زحمة السيارات وأنا عائدٌ ظهراً نتيجة انقلاب شاحنه ..
لم أكن مضجراً ، كانت تشاركني وكأنما تسسحثني لمزيدٍ من الحديث .. تسألني فأجيب ،
تارةً يشيرُ لي فهد بإبهامه مرفوعاً لأعلى نتيجة الإستحسان ، وتارةً يلكزني بمرفقه كما لو خالفتُ التكتيك !
راحت تحدثني عن الضوضاء في منزلهم هذا اليوم ، أختها الكبرى لم تسافر مع زوجها لباريس هذا الصباح وحضرت عندهم بأطفالها الخمسة ..
كنتُ فضولياً حتى بشأن ذهابِ زوج أختها لباريس .. لا يسافر الأفراد في عائلتي إلا للقرى !
أردتُ سؤالها لكن خشيتُ أن تعجبَ من حشر أنفي !
حدثتها على الفور عن حبي للأطفال إنما لستُ قادراً على البقاء بينهم ..ضجيجهم يحيلني لعصبيٍ متبرم !
حدثتها عن إشفاقي على الآباء .. أشعرُ أنهم مسلوبي الراحة ويعانون الصخب الدائم ..
أخبرتني أنها على العكسِ مني تعشق الأطفال وأنها تتمنى لو أنها تتبنى طفلا ً دون عناء الحمل والولادة ..
ابتسمتُ لفهد وهو يشير لي بالخوض في غِمار هذا التفصيل ، اللعنة على عقلِك الوغد ياصديقي دنجوان !
- أنا طالب في السنة الأخيرة لغة عربيه ، بعد شهر سأكون في ال23 من عمري
- هذا يعني أنكَ أكبر مني بسنةٍ وحيدة ..
- أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة ..أتعلمين بهذا القياس كم أفوقكِ في المعرفة ؟ تقريباً ثلاثة قرون ونصف !
- هههههههههههه يا الشايب
حضرتني دعابةٌ وأنا أرى فهد يصغي السمع ، :
-أتعلمين ؟ لديّ صديق يكبرني بـ40 يوماً ، فقط كما ترين الفرق مسألة أيام لا أكثر !
لكنه لا يكف عن نعتي بـ ولده ! يصر أن يعلمني في هذا الحياة كل شيء بحجة هذه الأيام الأربعين !
على إثر عبارتي الأخيرة كان فهد يفتلُ شاربهُ مبتسماً يعرف جيداً عمّ أتحدث !
- حسناً سأتركك الآن يافيصل، أأستطيعُ محادثتك ليلا ً ؟!
كنت أظنني سيئاً .. كنتُ أظنني وحدي الشغوف بهذا العلاقة والمحتاج لها ..
يبدو أن سمرائي تشاركني ذات الأفكار !
كانتِ السيارة كالعادة تنطلقُ إلى غير وجهة !
وجدتني فجاةً أتوقف عند الجسر المعلق في قلب الرياض ... كيف ومتى وصلت هنا لا أدري!
توقفتُ عند حوافّ ذاك الوادي الغارق في السكون رغم زحمة الناس على أطرافه ..
مساكينٌ أهل الرياض .. يسكنون صحراء معمورةً فقط بالخرسانات والإسمنت .. أنصفَهم التاريخ وظلمتهم الجغرافيا !
لا بحر يلقون إليه بأسرارهم ولا طبيعةً خلابة تضفي البهجة على حياتهم ..
يهرعون لأي متنفس وإن كان على ضفاف الطرقات ـ يستوطونون أي مساحةٍ نستها مؤسسات البناء وإن كانت وعرةً موحشة .
كنتُ أقفُ على أطراف هذا الوادي الصامتِ كصمتِ صديقي وأحدث سمرائي :
- بالتأكيد تستطيعين محادثتي متى شئتِ، فقط لا أطلب إلا الإسم !
بربكِ أليسَ نوعاً من الظلم أنت تناديني بإسمي وأناديك بالضمائر النحويّة !
ثم إنكِ لم تخبريني أينَ تدرسين وتغلفين نفسكِ بالغموض التام !
- خمّن يا سيدي !
- لا أحب لعبة التخمينات .. حسناً ، بإمكانكِ الإحتفاظ به لنفسك ..
- زعلت !
- لا ، إنما لا أحب أن أمارس الرجاء .. نوعٌ من الخضوع لا أرتضيهِ لنفسي
- حسناً لا تخمن اسمي ، خمّن ماذا أسميتك في هاتفي !
تراقصتُ لهذه الجملة ، شعرتُ بالزهو ، إبهامُ فهد المرتفع لأعلى يخبرني أني على الطريقِ المستقيم !
-إممم فيصل ؟!
- لا
- إذاً ماذا
- ههههههههه دوستويفسكي
- ههه مساكين هؤلاء الأدباء يا ..يا أنتِ ، صديقي يقول نجيب وأنتِ تقولين الآن دوستو وأخشى غداً أن أكون كويلو !
-هذا لأنك أديبٌ فعلا ً !
- أشكركِ على الإطراء والتسمية.. لكني بصراحة مازلتُ أخزّن رقمك دون إسم ..
- حسناً.. اكتبه تحتَ مسمى " ساره " !
ولستُ أدرس الآن ، توقفتُ بعد السنة الأولى في كلية التربية، في إجازة إلى أجلٍ غير مسمى .. لا أحب النهوض صباحاً .
ســـــاره !
سمرائي الجميلة ، عيونها الجميله ، صوتها الجميل ، وإسمها الجميل ..
ساره !
يا للإسم المنطوقِ كنغمة .. ساره ، يا لرنّة الإسم المبهج .. ساره : أربعةُ حروفٍ تعرّف الجمال !
أجملُ الأسماء من الآن فصاعداً !
-عاشت الأسامي ساره
- عشت ، يالله بـاي
أغلقتُ الهاتف .. فتح فهد باب السيارة ودوّى صوت صفيرهِ في الوادي ..
كان يهتفُ لي كما يهتفُ لمهاجمي الهلال حين يحرزون الأهداف التي تُسعده في المدرج ..
كالَ ليَ المديح .. هنأني .. تصافحنا كـ زميليْ مهنة !
وفي أطرافِ الوادي كان صدى التصفير والضحك ينعكسُ إلينا .. ربما إبليس من يبادلنا التحايا !
على دفة المركبةِ الباردة كنا نتمدد ننظرُ للقمر الساحر .. يصلنا هتاف الصبية اللاعبين بجوارنا وصوتُ أهاليهم .. ونباح الكلاب الجائعةِ في زوايا المكان ..
تمر بنا سيارات الآيسكريم و يتعدانا المارّة محدقين بنا كأنّا سُكارى ! نتحدثُ ويُنصتُ الوادي ..
راح يخبرني فهد عشرات الطرق لإختصار المسافة ..
- عليك أن تحدثها بأسرار مكذوبه ،فقط تُسبقها بعبارةٍ مثل : " لم أقل هذا السر لأحدٍ في حياتي غيرك "
البنات اللواتي يرتكبنَ المحادثات الهاتفيّة .. لا يدفعهنّ لذلك إلا قلة الإهتمام من المحيطين بهن ..
عبارةٌ مثل التي أخبرتك يا فيصل ، تُشعرهنّ بالخصوصيّة بالشأن الرفيع بمقاسمة حياة الرجل ..
صدقني انا أعرف عمّاذا أتحدث
أستمعُ عباراته وأتمتم بالإنبهار !
راح يردف :
- بربك يا صديقي ، أليست سخيفةٌ هذه الحياة لو خلَت من الجميلات !
- أتعلم يا فهد ماذا يقول الحكيم نيتشه / الحياة بدون موسيقى غلطة ! أتُراه أخطأ ولم يقل المرأة !
- سأخبرك شيئاً يافيصل ، إن كان حكيماً كما تقول فلن يخطيء صدقني ، لكن الرواة الملاعين حرفوا الجمله هههههه
ضحكاتنا تنبعثُ في فضاءات المكان غير مبالين بالرائح والغادي ..
ثم صوتُ هاتفي ينبعثُ في سماء الوادي .. حدثتني نفسي أن سمرائي .. عفواً ساره ! لم تصبر ، تريد أن تكلمني مجدداً !
يا لخيالات العظمة .. كان رقمُ سلمان صديقي ..
صوته يعنفنا غاضباً :
-وينكم ! ساعه وربع عشان تجيبون عشاء !
ماذا فعلتي ياساره ..
نسيتُ الأصدقاء جوعى في الشقة !
راح الوادي يشيّعنا مغادرين وأصواتُ ضحكاتنا تصدحُ دون مبالاةٍ بناظر !
هناك في محل ماجد حين رأيتُها قبل يومين .. كان إبليس يكتب السيناريو ويقوم بالإخراج وأنا مجرد بطلٍ يؤدي الدور !
أما هنا ، في هذه السيارة الواقفة على قارعة طريقٍ مظلم ، كان إبليسُ يتوارى إحتراماً لفهد .. فهد ذاك الشيطان البشري الذي يعرف الكثير ..
كان إبليس يترك المقاعد الأمامية في مسرحية "الشاب والسمراء" ويقول لفهد تفضل.. هذا المكان مكانك .. ثم ينزوي صامتاً في جوانب المسرح الكبير !
فهد صديقي منذ كنتُ طفلاً في قريتنا .. سبقني في الظهور للدنيا بأربعين يوما .. كان بيتهم الطيني يقابل بيتنا تماماً .
تعلمنا الحبوَ سوياَ .. نطقنا ومشينا سوياً ،
كبُرنا على نصائح أمهاتنا ينبّهنَنا أن نلزم البقاء عند الباب ، وشققنا عصا الطاعةِ وخرجنا إلى المزارع سوياً ..
كبرنا وصرنا أشقياء بما يكفي لنتلقى العلقات من أهلنا .. ومن جدي وجده حين نَدهمُ السواقي ونخطرُ في حقول البرسيم غير آبهينَ بأقدامنا التي تحصدُ ماوطأت ..
وعرَفتْ الأغنام هجماتنا سوياً مقلدين الذئاب الشرسة ضاحكين ، والنخلُ المتسامي عرفَ شقاوتنا ...سوياً ..
لطالما صعدنا النخيل كأنما نصعدُ في السماء .. ولطالما استعجلنا مواسمها فقطفنا ثمرها ولمّا يؤت أٌكلهُ بعد ..
وعرفنا الرياض في ذات الوقت تقريباً .. نزلوها أهلهُ قبلنا بأشهر،
يومها بكيتُ فوق ركامِ بيتٍ طينيٍ خرِب، اعتليتهُ ورحت أشيّعهم راحلين عن القرى في صبحٍ كئيب !
عرَك الرياض قبلي ، شبَ وصار رجلاً كأنما استحال فرقُ الأيام بيني وبينهُ أعواماً طوال،
اختلفت اهتمامتهُ جذرياً .. ترك طفولته في القرية وبات شيئاً آخر تماماً !
قرويٌ لطمتهُ الحضارة بغته .. خرج عن النسق كلياً وساءت سمعتهُ .. تعثرت دراستهُ طويلاً ..
انخرط في العمل الوظيفيّ كاتباً في أحدِ فروع البلدية بالرياض، عملٌ يغيبُ عنه أكثر مما يحضر!
ثم بالكاد أتمّ تعليمه الثانويّ -ليلاً- حين صرتُ الآن طالباً في سنة التخرج من كلية اللغة العربية.
في نظر والدي لم يعد فهد ذلك الجارُ القديم .. ما عاد ذلك الفتى الوادع الذي يغدو ويروحُ إلينا كما لو كان أحد أفراد منزلنا .
صار أبي يصفهُ بشيطانِ وُلِد في بيتٍ ملائكيّ .. عقوبةٌ ابتلى الله بها أهلَه ! يزجرني إن رآني معه ..
دائماً مايعطيهِ - أبي - الأعذار المكذوبة حين يراهُ أمام بيتنا ينتظرني ..لهذا اِعتدتُ أن ألتقيهِ سراً !
نعم هو نموذجٌ للصديق السيء في نظر الآباء ، سيماهُ في وجهه ..
إنما للحق هو أقربُ الأصدقاء طراً ..
وأعرفُ أن خلف سمرتهِ الطارئة وعينيه الغائرتين وجبهتهِ المندوبة قلباً ينضح بالصداقة والطهر ..
السفر الشراب حضور مباريات الهلال السهر أبرز إهتمامات فهد وأهم قضاياه الخاصة.. لكنّ لا صوتَ يعلو في حديثه على صوت النساء !
يحدثنا عن تجاربهِ فـ يغمرنا الصمت كـ تلاميذ يقبعون فوق المقاعد مصخين السمع لمعلمهم ..
يقصّ لنا مغامراتٍ لا نراها إلا في الأفلام ، لم نكن لنصدق يوماً أن الرياض تخبيء في زواياها مثل هذا العرض ..
الهدايا التي تملأ غرفته ، دُمى الدببة المتناثرة في الشقه ، قلوب الحب والدناديش الحمراء التي تزين سيارته كلها تخبرنا أنهُ المتفرد عنا !
حتى فاتورة هاتفهِ التي تتجاوز مرتبه الشهريّ ، يقسم لنا باسماً معتداً بنفسه ، أن فتاةً في شمال الرياض تتكفلُ بسدادها له فنغرق في الضحك وبعضنا في الحسد !!!
كان يسميني " نجيب محفوظ " هازئاً من إمعاني في القراءة .. وأسميه " دنجوان " لإمعانهِ في أحاديث الهوى ..
قال لنا يوماً وهو يُفصحُ عن نظريّاته الخاصه :
- لا يهم الجمال ولا الأناقة ولا حتى المادة .. يلزمك خفة الظل وسلاسة الحديث لتستقر في قلب إحداهن
وكنا نصغي ... لا يجرأ أحدنا فيقطع الحديث اللذيذ
- المرأه تبحث عن ما يتضاد مع شخصيتها ، لا تريد الجمال ولا النعومه ولا سخافات المراهقين في الأسواق ، تريد رجلاً ليس أكثر
فأقول في نفسي تباً له كيف يعرف؟! ، ما كان ينقصنا إلا كراساتٍ جانبية نسجل فيها مايقوله د.دنجوان ونتلقاهُ كمحرومين !
- الأنثى لا تريد منك إلا أن تُشعرها بالدفء والإهتمام ،لذلك حين تتحدث إليها: " اصرف حنانك هههههههههه "
ونضحكُ كأننا نقول للحديث الصاخب هل من مزيد !
في إحدى المساءات الباردة ..
اتصلَ بي وهو يتألقُ سعادةً .. عرفت فيما بعد أنه عائدٌ من موعدٍ غرامي، حادثتهُ وهو يغني " زي الهوا " ..
رفعت سماعة الهاتف لينطلق صوتهُ في حبور:
- وفـ عز الكلام آآآآه، سكت الكلا.. ألو ، هلا نجيب، أعرف جيداً ماذا تفعل ، ممسكٌ بروايةٍ ساذجه وتقرأ هههه
- أهلا فهد ، وكأنك تدري !
كنتُ حينها أقرأ رواية جين اير العالميّه مأخوذاً بتفاصيلها .. قال لي على الفور :
- غبي! اصنع روايتكْ لا تقرأها .. الأحاسيس والمشاعر تُعاش أولاً ثم تُقرأ !
حين تصنع تجربتك الخاصه، إطّلعْ على تجارب الآخرين يابو محفوظ.. وأتاريني ماااسك الهوى بيديّا آآآه ماسك ...
راح يغني وأنا أضحك !
هل كنتُ أحسِده ؟
هل كنتُ أتمنى أن أكون مثلَه ، حقاً لا أدري !
لكنّي كنتُ على فتراتٍ متباعدة أحاول أن أغتنمَ رياحي حين تهِب ، مدفوعاً بالإنتعاش اللذيذ الذي أراهُ في أعين دنجوان !
كنتُ على النقيض منه ،حييّاً أفتقدُ للجرأة ، كثيراً ما كنتُ أكتفي بإختلاسِ النظراتِ أملاً في تحقيق علاقةٍ عابرة ، لكن النظرات لا تصنع للحمقى شيئاً !
كنتُ أعود بالخيبة والكثير من الألم ،
لديّ عينٌ تهوى الجمال وقلبٌ يهفو للحب لكني أبله .. نعم أبله.. وهذا ما اعتدتُ وصفَ نفسي به حين أسمع احاديث العشاق !
لستُ أسوأ من غيري مظهراً وأناقة .. لكني أدركتُ أن فهد مقنعٌ حين قال :
- الأسلوب !
وأسلوبي أبلهٌ مثلي تماماً .. مرتبك خجول متلكيء .. أشعرُ أني غالباً مثار شفقة الجميلاتِ اللواتي يكتفينَ بالنظر لي ويقلن في أنفسهن :
- يبدو أنه أخرس ! ثم يمضينَ كما لو قلّبن بضاعةً لم تعجبهن !
هكذا .. أقفُ بخجلي ثم أفشل ..أمضي ساخطاً مستصعباً سهولة الأمر الذي يتحدثُ عنه صديقي !
في الرياض .. أسمعُ همسات العشاق لكن لا أراهم .. أفتش في الزوايا فلا أجد إلا الصمت ..
تمنيتُ كثيراً أن أكون صديقاً لإحداهنّ أبثها الوجد وتبثني همومها .. لكن لم أجد !
لهذا ..
عرفتُ أخيراً أن الأسلوب اللبق ليس الأهم، إنما يأتي بعد شيءٍ آخر ، شيئاً أهم منه ، يبدو أن صديقي الأستاذ نسيَ أن يعطي تلميذه النصيحة الأولى ، لكن التلميذ النجيب اقتنصها لوحده :
- الجرأة !
حين تجرأتُ أخيراً .. كنتُ أقفُ على أعتاب مغامرةٍ استوقفت فهد ونظر لي أخيراً بعين الرضا !
رفعتُ الهاتفَ وأنا كافرٌ بالخجل مؤمنٌ أن الحياء لا يصنعُ شيئاً في بلدتي هذه ،
وأمام شيطاني دنجوان الذي كان يردد بإلحاح :
- رد .. كلمها
رحتُ بصوتٍ غير مرتبك ، أحادثها كمن ألِف النساء وأحاديثهنّ :
- هلا و غلا !
على بسماتِ فهد ويده الرابتةِ على كتفي رحتُ منطلقاً معها كلاعبٍ يتلقّى الإشادات من مدربه !
10
- بالتأكيد سمعتُ الأغنية ، إسمحي لي أن أهنيء ذائقتك !
- شايف؟ ماقلت لك عط الجيل الجديد فرصه !
كانت تجيبني ويمينُ فهد تلكزني أن أضع المكالمة على المكبر ، كان يريدُ أن يفحص الصوت كمهندسٍ يريد فحص مركبه !
كانت لديهِ نظرياتٌ بخصوص الصوت :
حاد.. إذاً هي جادةٌ للثقافةِ أقرب ! اهرب عنها
خفيض.. معذبة ! كن لها نعم السنَد تكن لك نعم الصديقة
مبحوح.. عاطفية ! عض عليها بالنواجذ
راح صوتها العابث يدوّي في السيارة :
- إذا أردتَ أيّ استشارة بخصوص الأغاني الجديده ، فسأخبركَ من الآن وهاأنا أقولها لك: لا أحدَ أفهم مني فيها!
كان الصوت ينسكبُ في أذن فهد مزيجاً من تصنيفاته الثلاثة ..الحاد الخفيض المبحوح ..
..يبدو أن دنجوان لم يستطِع تحديد الفصيله فاكتفى بالإبتسام !
متصنعاً الجديّة قلت لها باهتمامٍ باد :
- أوَليس غريباً .. أن تسمعي الموسيقى في وحدتكْ ، فتشعري أنكِ قد ازدحمتي بالناس ؟!
- الله الله ياسيدفيصل، كلمتك هذه جملة موسيقيه لوحدها ههه
- إذاً ، لأكن معكِ صريحاً ، ليست لي بل لروبرت براونغ
مازحةً راحت تضحك :
- آها ، أصلاً هالكلام كبير عليك ههه
كان فهد غاضباً يضرب زجاج سيارتي في صمت وهي تنطلقُ في ردهات الرياض ، علّقت المكالمه :
- ماذا بك !
- يا مغفل يا غبي ، وما يدريها عن هذا الملعون روبرتانغ؟! ، كان ينبغي أن تنسبها لنفسك وتنفرد بالإعجاب ، لا أن تطبّل لهذا السقيم الأمريكي
- أولاً / اسمه براونغ ، ثانياً / بريطاني ليس أمريكي ، ثالثاً / إهدأ لا توترني أرجوك
- حسناً حسناً .. لكن حذارِ أن تكون صدوقاً .. إكذب، إختلق وستُبهر صدقني
فهد ميكافيلي ، كل وسيلةٍ مبررة .. آخر ما يعبأ بهِ حفظ الحقوق !
عدتُ أحدثها بكل شيء .. عن يومي، منذ الصباح وحتى الآن ، عن إفطاري ! عن حتى شراء الشريط ..
عن الكلية عن الأسلوبية في النقد وحديثُ الدكتور المتحمس .. عن زحمة السيارات وأنا عائدٌ ظهراً نتيجة انقلاب شاحنه ..
لم أكن مضجراً ، كانت تشاركني وكأنما تسسحثني لمزيدٍ من الحديث .. تسألني فأجيب ،
تارةً يشيرُ لي فهد بإبهامه مرفوعاً لأعلى نتيجة الإستحسان ، وتارةً يلكزني بمرفقه كما لو خالفتُ التكتيك !
راحت تحدثني عن الضوضاء في منزلهم هذا اليوم ، أختها الكبرى لم تسافر مع زوجها لباريس هذا الصباح وحضرت عندهم بأطفالها الخمسة ..
كنتُ فضولياً حتى بشأن ذهابِ زوج أختها لباريس .. لا يسافر الأفراد في عائلتي إلا للقرى !
أردتُ سؤالها لكن خشيتُ أن تعجبَ من حشر أنفي !
حدثتها على الفور عن حبي للأطفال إنما لستُ قادراً على البقاء بينهم ..ضجيجهم يحيلني لعصبيٍ متبرم !
حدثتها عن إشفاقي على الآباء .. أشعرُ أنهم مسلوبي الراحة ويعانون الصخب الدائم ..
أخبرتني أنها على العكسِ مني تعشق الأطفال وأنها تتمنى لو أنها تتبنى طفلا ً دون عناء الحمل والولادة ..
ابتسمتُ لفهد وهو يشير لي بالخوض في غِمار هذا التفصيل ، اللعنة على عقلِك الوغد ياصديقي دنجوان !
- أنا طالب في السنة الأخيرة لغة عربيه ، بعد شهر سأكون في ال23 من عمري
- هذا يعني أنكَ أكبر مني بسنةٍ وحيدة ..
- أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة ..أتعلمين بهذا القياس كم أفوقكِ في المعرفة ؟ تقريباً ثلاثة قرون ونصف !
- هههههههههههه يا الشايب
حضرتني دعابةٌ وأنا أرى فهد يصغي السمع ، :
-أتعلمين ؟ لديّ صديق يكبرني بـ40 يوماً ، فقط كما ترين الفرق مسألة أيام لا أكثر !
لكنه لا يكف عن نعتي بـ ولده ! يصر أن يعلمني في هذا الحياة كل شيء بحجة هذه الأيام الأربعين !
على إثر عبارتي الأخيرة كان فهد يفتلُ شاربهُ مبتسماً يعرف جيداً عمّ أتحدث !
- حسناً سأتركك الآن يافيصل، أأستطيعُ محادثتك ليلا ً ؟!
كنت أظنني سيئاً .. كنتُ أظنني وحدي الشغوف بهذا العلاقة والمحتاج لها ..
يبدو أن سمرائي تشاركني ذات الأفكار !
كانتِ السيارة كالعادة تنطلقُ إلى غير وجهة !
وجدتني فجاةً أتوقف عند الجسر المعلق في قلب الرياض ... كيف ومتى وصلت هنا لا أدري!
توقفتُ عند حوافّ ذاك الوادي الغارق في السكون رغم زحمة الناس على أطرافه ..
مساكينٌ أهل الرياض .. يسكنون صحراء معمورةً فقط بالخرسانات والإسمنت .. أنصفَهم التاريخ وظلمتهم الجغرافيا !
لا بحر يلقون إليه بأسرارهم ولا طبيعةً خلابة تضفي البهجة على حياتهم ..
يهرعون لأي متنفس وإن كان على ضفاف الطرقات ـ يستوطونون أي مساحةٍ نستها مؤسسات البناء وإن كانت وعرةً موحشة .
كنتُ أقفُ على أطراف هذا الوادي الصامتِ كصمتِ صديقي وأحدث سمرائي :
- بالتأكيد تستطيعين محادثتي متى شئتِ، فقط لا أطلب إلا الإسم !
بربكِ أليسَ نوعاً من الظلم أنت تناديني بإسمي وأناديك بالضمائر النحويّة !
ثم إنكِ لم تخبريني أينَ تدرسين وتغلفين نفسكِ بالغموض التام !
- خمّن يا سيدي !
- لا أحب لعبة التخمينات .. حسناً ، بإمكانكِ الإحتفاظ به لنفسك ..
- زعلت !
- لا ، إنما لا أحب أن أمارس الرجاء .. نوعٌ من الخضوع لا أرتضيهِ لنفسي
- حسناً لا تخمن اسمي ، خمّن ماذا أسميتك في هاتفي !
تراقصتُ لهذه الجملة ، شعرتُ بالزهو ، إبهامُ فهد المرتفع لأعلى يخبرني أني على الطريقِ المستقيم !
-إممم فيصل ؟!
- لا
- إذاً ماذا
- ههههههههه دوستويفسكي
- ههه مساكين هؤلاء الأدباء يا ..يا أنتِ ، صديقي يقول نجيب وأنتِ تقولين الآن دوستو وأخشى غداً أن أكون كويلو !
-هذا لأنك أديبٌ فعلا ً !
- أشكركِ على الإطراء والتسمية.. لكني بصراحة مازلتُ أخزّن رقمك دون إسم ..
- حسناً.. اكتبه تحتَ مسمى " ساره " !
ولستُ أدرس الآن ، توقفتُ بعد السنة الأولى في كلية التربية، في إجازة إلى أجلٍ غير مسمى .. لا أحب النهوض صباحاً .
ســـــاره !
سمرائي الجميلة ، عيونها الجميله ، صوتها الجميل ، وإسمها الجميل ..
ساره !
يا للإسم المنطوقِ كنغمة .. ساره ، يا لرنّة الإسم المبهج .. ساره : أربعةُ حروفٍ تعرّف الجمال !
أجملُ الأسماء من الآن فصاعداً !
-عاشت الأسامي ساره
- عشت ، يالله بـاي
أغلقتُ الهاتف .. فتح فهد باب السيارة ودوّى صوت صفيرهِ في الوادي ..
كان يهتفُ لي كما يهتفُ لمهاجمي الهلال حين يحرزون الأهداف التي تُسعده في المدرج ..
كالَ ليَ المديح .. هنأني .. تصافحنا كـ زميليْ مهنة !
وفي أطرافِ الوادي كان صدى التصفير والضحك ينعكسُ إلينا .. ربما إبليس من يبادلنا التحايا !
على دفة المركبةِ الباردة كنا نتمدد ننظرُ للقمر الساحر .. يصلنا هتاف الصبية اللاعبين بجوارنا وصوتُ أهاليهم .. ونباح الكلاب الجائعةِ في زوايا المكان ..
تمر بنا سيارات الآيسكريم و يتعدانا المارّة محدقين بنا كأنّا سُكارى ! نتحدثُ ويُنصتُ الوادي ..
راح يخبرني فهد عشرات الطرق لإختصار المسافة ..
- عليك أن تحدثها بأسرار مكذوبه ،فقط تُسبقها بعبارةٍ مثل : " لم أقل هذا السر لأحدٍ في حياتي غيرك "
البنات اللواتي يرتكبنَ المحادثات الهاتفيّة .. لا يدفعهنّ لذلك إلا قلة الإهتمام من المحيطين بهن ..
عبارةٌ مثل التي أخبرتك يا فيصل ، تُشعرهنّ بالخصوصيّة بالشأن الرفيع بمقاسمة حياة الرجل ..
صدقني انا أعرف عمّاذا أتحدث
أستمعُ عباراته وأتمتم بالإنبهار !
راح يردف :
- بربك يا صديقي ، أليست سخيفةٌ هذه الحياة لو خلَت من الجميلات !
- أتعلم يا فهد ماذا يقول الحكيم نيتشه / الحياة بدون موسيقى غلطة ! أتُراه أخطأ ولم يقل المرأة !
- سأخبرك شيئاً يافيصل ، إن كان حكيماً كما تقول فلن يخطيء صدقني ، لكن الرواة الملاعين حرفوا الجمله هههههه
ضحكاتنا تنبعثُ في فضاءات المكان غير مبالين بالرائح والغادي ..
ثم صوتُ هاتفي ينبعثُ في سماء الوادي .. حدثتني نفسي أن سمرائي .. عفواً ساره ! لم تصبر ، تريد أن تكلمني مجدداً !
يا لخيالات العظمة .. كان رقمُ سلمان صديقي ..
صوته يعنفنا غاضباً :
-وينكم ! ساعه وربع عشان تجيبون عشاء !
ماذا فعلتي ياساره ..
نسيتُ الأصدقاء جوعى في الشقة !
راح الوادي يشيّعنا مغادرين وأصواتُ ضحكاتنا تصدحُ دون مبالاةٍ بناظر !
يتبع ...