ليلة اغتياله في منزله في سيدي بوسعيد , قرب تونس العاصمة, حاول قاتلوه أن يقتلوا الفكرة.
أفرغوا سبعين رصاصة في جسده, ولم ينسوا أن يصيبوا يده اليمنى لأنهم فهموا تماما قوة ورمزية هذه اليد – لأنهم رأوا فيها يد كل طفل يرمي الحجارة على جنودهم, وزند كل مقاتل يصوب رشاشه ضد احتلالهم.
“أول الرصاص, أول الحجارة” , كما سٌميَ أبو جهاد, مسؤول العمل العسكري في تنظيم “فتح”, بعد استشهاده يوم 16 من شهر نيسان عام ,1988 كلمات لم تطلق جزافاً; فحياة أبو جهاد جسدت تاريخ انطلاق النضال الفلسطيني واستعادة النفس الفلسطينية بعد صدمة نكبة الاحتلال والإحلال , نكبة الاقتلاع والشتات عام .1948
فمن تبنيه وقيادته العمل العسكري في الشتات إلى تبنيه انتفاضة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال أصبح أبو جهاد أحد أهم رموز المقاومة الفلسطينية في الوعي العربي, وأحد أخطر أعداء إسرائيل في العقل الصهيوني.
سياسياً واستراتيجياً, فهم الإسرائيليون أبو جهاد جيداً ولهذا كان لا بد من التخلص منه, ليس لأن الرصاص أو الحجر الفلسطيني سيؤدي الى إبادة إسرائيل بل لأن فكرة المقاومة واستمراريتها تهدد شرعية دولة لا تستطيع بكل ترساناتها العسكرية القضاء على شاهد جريمتها.
مسيرة أبو جهاد تحتاج إلى دراسة, أو دراسات معمقة, فيها من التحليل وبالضرورة النقد لتستلهمها الأجيال, وتتعلم من نجاحاتها وكبواتها, لأن الرجل كان يسبح ضد تيار كاسح يرصد كل خطوة مقاومة لتحطيمها وهزيمتها.
وعى أبو جهاد حجم المواجهة جيداً, وكان دائماً يقول لي, وأنا متأكدة يقول للآخرين من حوله, إن قوة الاستمرار تكمن في الحركة الدائمة والنظر الى الأمام, وإن المقاومة يهزمها الجمود كان يستشهد بما تعلمه من دروس نضال الشعب الجزائري , وحرب فيتنام, وثوار الفيتكونغ وأقوال ماوتسي دونغ عن حرب العصابات الثورية.
لم يكن ابو جهاد يأبه كثيراً بالأيدلوجيات والتنظير, ولكنه كان نهماً لمعرفة وفهم تاريخ حركات التحرر الوطني للشعوب, وإن كان دائم السعي لأفكار واستراتيجيات لابتكار طرق لتطبيقها في ظروف جعلت الثورة الفلسطينية مختلفة عن نظيراتها لأنه من غير المسموح أن تكون هناك قاعدة لانطلاقها, فالثمن باهظ جداً جداً , سواء للفلسطينيين أو للشعوب والدول المحاذية للكيان الصهيوني.
لكن بعيداً, ولو قليلاً , عن الحديث عن العقل المدبر للعمليات العسكرية ضد إسرائيل, كان هناك رجل انطبعت في عينيه مشاعر خسارة عميقة ليوم مريع عندما التصق خليل الصغير بثوب والدته فوزية مذعوراً والعائلة تهرب من إرهاب الهجوم الصهيوني على مدينة الرملة.
كانت هذه النظرة, وقد تحولت عبر السنوات إلى نظرة ألم عميق ممزوجة بتصميم فولاذي وغضب حاد, كانت تعود عند سماعه كل خبر استشهاد مقاتل أو طفل, أو استيلاء أو تهجير أو حتى أي محاولات أمريكية لإجبار الشعب الفلسطيني على المساومة على حقوقه خاصة في سنوات بعد سنوات الخروج القصري من بيروت عام .1982
منذ لقائي الأول بأبي جهاد, وكنت أتابعه عن بعد في سنواتي الجامعية, اكتشفت رجل عرف كيف يطوع الحزن والألم ويحولهما إلى إرادة حركة دائمة ترفض التوقفلأنها ترفض الهزيمة.
كان يداوي حجم الخسارة على الأرض وفي القلب , في حفظ كل تفصيل يتعلق بكل قرية – وأحياناً كل حارة في فلسطين.
كل من كان قريباً من “أبو جهاد” يتذكر مجموعة الدفاتر الصغيرة السميكة التي لا تنتهي وكأنها أتت من مخازن لا تنضب – لأنها مخازن حفظ الذاكرة.
كنت أجده أحيانا وقد فرغ من تدوين ملاحظات سمعها من زائر من الأرض المحتلة, أو سمعها أو قرأها في الأخبار والصحف, كان دائم التدوين ليس فقط إدراكاً لأهمية حفظ الذاكرة, بل لأن هذا ضروري لمهمته اليومية الإستراتيجية: هذه التفاصيل التي كان يدونها ويحفظها أبو جهاد كانت ضرورية لفضح مخططات التهويد والتهجير الفلسطينية, ولكنها كانت أيضاً ضرورية لاختيار أهداف عسكرية وكيفية الوصول إليها, وكانت ضرورية لمهمة تنظيم وتعبئة الشعب الفلسطيني في صفوف منظمة التحرير.
كانت تلك الدفاتر الصغيرة احدى أهم أسرار فهم عقلية أبو جهاد وبالتالي خطره على إسرائيل; لأن المعلومات التي اختزنها أهَّلته ليكون الأب الروحي للانتفاضة الأولى عند انطلاقها, ولمحاولة تنفيذ العمليتين العسكريتين الاثنتين اللتين سارعتا باتخاذ ومن ثم تنفيذ قرار اغتياله: عملية الشاطئ التي استهدفت وزارة الدفاع الإسرائيلية في عام 1985 والثانية التي استهدفت مفاعل ديمونا قبل اغتياله بأسابيع قليلة.
نعم لم تنجح العمليات في تحقيق أهدافها, وأنا متأكدة أن هناك من رفاق أبو جهاد من سيكتب بالتحليل والمعلومات عن أسباب ذلك, ولكنها نجحت في توجيه رسالة كان يريدها أبو جهاد, وفقا لفهمه لعقلية القادة الإسرائيليين وهي أن الفلسطينيين لن يتوقفوا عن محاولة قلب الطاولة وتغيير المعادلة كلما توهمت إسرائيل وأمريكا قرب استسلام الفلسطينيين.
الرسالة الأخرى, وهي أن أبو جهاد كان قادرا على معرفة التفاصيل بأدوات لم تكن متقدمة حينها, من جمع يومي وتفصيلي لمعلومات كان لا يتعب ولا يمل من تدوينها وجمعها واستعمالها.
أذكر أنني كل ما سمعت عن احتمال قبول القيادة الفلسطينية بمساومة سياسية كنت أذهب اليه ثائرة غاضبة, وكنت أتحداه أن يأخذ موقفاً عمليا واضحاً وقاطعاً, فيدعني أكمل كلامي ويجيبني بكل هدوء اصبري واطمئني فلن نكف عن “خلط المعادلة.”
و فهمت مرتين: عملية الشاطئ كانت ردا على المساعي الأمريكية لإجبار منظمة التحرير الفلسطينية على القبول بشروط الدخول في تسوية تنتقص من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني, وعملية ديمونا كانت ردا على المحاولات الأمريكية لوقف الانتفاضة الفلسطينية.
في النهاية كانت هذه العمليات العسكرية, وتبنيه ومن ثم قيادته لجانب كبير من الانتفاضة الثانية تعبيراً عن الفكرة البسيطة العميقة التي كان يرددها دائما: لا يمكن أن يكون هناك أي تغيير دون أن نحاول دوما أن نجبر المٌحتَل على دفع ثمن احتلاله.
فلذلك كان لا بد من قتل الفكرة ومن يحمل الفكرة ولكن التاريخ يشهد أن الفكرة لا تموت بوجود شعب مقاوم.