الأحداث العظام التى تمر بها بلادى مصر، تشبه شريط تسجيل تم تحميله بعدد من المواقف والتصرفات، التى يبديها الشعب فى مواطن كثيرة، وأيضا رد الفعل الحكومى عليها، سواء بالإيجاب أو بالسلب، وتحول الشعب المصرى بالنسبة للحكومات المتعاقبة إلى مجرد مريض، يشكو مرضاً موسمياً، وتقدم له الحكومة روشتة علاج متكررة، رغم عدم فعاليتها ليزداد المريض مرضاً، والحكومة تخمة سياسية.
ولذلك لم أتعجب من تكرار تلك الأحداث، وتعرض الشعب لها وبنفس السيناريو القديم، لأنه يبدو أن الفجوة ما بين الحاكم والمحكوم فى بلادى مصر تتسع، والخط بينهما فى تواز لا يمكن أن يتلقيا.
فالقضية المثارة حاليا على الساحة، وهى قضية التمويل الأجنبى والإفراج عن المتهمين الأمريكان فيها، أعادت إلى ذاكرتى عبارة رددها فى عهد الرئيس السابق مبارك، رئيس الحكومة المحبوس حالياً أحمد نظيف، الذى ادعى أن حكومته إلكترونية ونظيفة، وهو شرف لم تنله لا حكومته ولا أى حكومة فى عهد نظام مبارك الساقط، فقد رأيت– فيما يرى النائم– الرجل وهو يقول “إن الشعب المصرى غير مؤهل سياسياً”، وجالت بخاطرى ردود الأفعال على تلك العبارة من جانب المواطنين والمثقفين من أبناء بلادى، ويبدو أن تلك العبارة كانت فيروساً أصاب حكومته الإلكترونية، وأصابها بالفشل، بعد أن ادعى أنها تعمل وفق معطيات العالم الرقمى، وأنها سوف تنهض بحال المصريين، وتبدل أوضاعهم من حال إلى حال.
وبعد زوال تلك الحكومة وكل ما كانت على شاكلتها، لم يمكن التخلص من هذا الفيروس الذى تقوقع وانتقل ليصيب الحكومات، بل ونظام الحكم ذاته بعد أحداث يناير 2011، التى من المفترض أنها فتحت الباب لآفاق جديدة من التقارب بين الحاكم والمحكوم.
ولكن جاءت قضية التمويل الأجنبى، وما حدث حولها من ملابسات، لتؤكد أن الفيروس الذى أصاب حكومة نظيف انتقل إلى من بعده، وأصبح التعامل مع الشعب على أنه غير مؤهل سياسياً، أو أنه مازال صبياً لم يبلغ سن الرشد، ويجب فرض الوصاية عليه حتى بلوغ السن القانونية.
وإذا تساءلنا عن التمويل الأجنبى وجدواه، فلا نجد إجابة أبسط من القول بأنه يمثل إثما كبيراً، وليس فيه أى نفع للناس، باستثناء أصحاب المصالح الخاصة، الذين يعيثون فى الأرض فساداً، وكان ينبغى على الحكومة أولاً، أن تبين ما حدث فى تلك القضية التى أصبحت وبحق، دليلاً دامغاً على أن مصر بنظام حكمها، مازالت بعيدة عن الديمقراطية وعن احترام الإرادة الشعبية.
وإذا كانت مبررات العفو عن المجرمين مادية، وإن هناك ثمة صفقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأمريكا التى تمارس الإجرام بحق الشعب المصرى، فلم يكن ينبغى حتى إتمامها دون الرجوع إلى الشعب صاحب السلطات فى النظم السياسية التى تحترم حقوق شعوبها، فلا الحكومة، ولا حتى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، له الحق أن يفرض وصايته على الشعب، ويتصرف فى شئونه، دون الرجوع إليه أو على الأقل طرح الأمور عليه وأخذ رأيه فيها، وعدم الاعتداد بقرارات فوقية، بدعوى النظر إلى المصلحة العامة، وإذا كانت المبررات قانونية، أن ينبغى بيانها للناس حتى تتم إزالة أى غموض أو لبس حول مصير الدولة ومستقبلها.
الفترة الأخيرة وبحق، تضع كثيراً من علامات الاستفهام على أداء السلطات التنفيذية فى الدولة، والذى خرج عن المسار واتجه إلى الانحراف عنه، مما ينذر بأخطار كثيرة، فأصبحت سلوكيات تلك السلطة فى حاجة إلى تفسير، وفى حاجة إلى إيضاح وبيان لعامة الشعب دون تجاهل للرأى العام، وكفا صانعو القرار السياسى فى مصر الاستمرار فى برج عاجى، يطبخون فيه القوانين والقرارات ليفاجئوا بها الشعب.
ورب ضارة نافعة، فقضية التمويل الأجنبى، جاءت لتكشف أن سياسة الانبطاح التى كانت تتهم بها المعارضة نظام مبارك الساقط، مازالت قائمة فى كل أجهزة الدولة، من مجلس الشعب، إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مروراً بالحكومة الحالية التى حاول د. الجنزورى أن يتخذ منها منبراً يعتليه ليدافع عن نفسه ويجمل وجهه، وقت أن كان مسئولاً تنفيذياً فى نظام مبارك، بدءاً من محافظ وانتهاء برئيس وزراء، ولكن لم تجد محاولاته نفعاً، ولم تتغير الصورة.
الشعب المصرى لم يعد فى حاجة إلى وصى، وإنما إلى قيادة رشيدة، ترسو به على بر الأمان.