في مسلسل الإدارة بالكوارث في المرحلة الانتقالية فتح باب الكلام حول التمويل الأجنبي, واشتد الخطاب حول مؤسسات المجتمع المدني ومن أجل ذلك تاقت النفس إلي ما اعتبره تخصصا واهتماما في عالم تحليل الخطاب وتفسير النصوص.
لأعبر عن ضيق في النفس حيال خطاب تاهت معالمه وهانت مفرداته وجرفت معانيه وفرغت مبانيه, وبانت فجاجة غاياته ووضحت مهانة وهوان خصائصه وسماته, وتذكرت أمرين ارتبطت بهما نفسي بأستاذي المرحوم الدكتور حامد عبد الله ربيع.
الأمر الأول: حينما كتب بشكل مبكر سلسلة من المقالات حول وصف مصر بالأمريكاني يوضح فيها أنه آن الأوان لنظام سياسي يحترم نفسه, وبدولة في مكانة وقيمة مصر أن تضع استراتيجية للمعلومات والعلم والبحث والأنشطة والفاعليات, ووضع الاستراتيجيات من أوجب الواجبات في مراحل الانتقال لتشكل مفصلا استراتيجيا ونقلة نوعية في الرؤي السياسية وعناصر صياغة للتخطيط الاستراتيجي للمستقبل.
مصر الثورة كانت بمثابة إعلان حول التحول النوعي المفصلي والاستراتيجي لمسار بلد في مكانة مصر ضمن مسارات التمكين النهضوي والتنموي. ويومها صرح الدكتور ربيع محذرا في سلسلة أخري من المقالات المهمة والمتمة بعنوان
احتواء العقل المصري. ومرت المقالات في حينها مرور الكرام, ورغم أنها كانت بمثابة بلاغ لأجهزة أمن المعلومات أن تحمي حياض مصر وأمنها وأمانها, واشار إلي قضية مهملة ومخذولة آنذاك بأمن المعلومات, ولسان حال المخاطب من أجهزة الدولة, والأجهزة الأمنية, يقول: دعه يكتب, دعه يمر.
مفاد ذلك وما أعنيه ان قضية التمويل الأجنبي ليست اكتشافا في هذه الآونة ولا هي بالمسألة التي تعالج جزءا, ولكنها ضمن تحديد الاستناد إلي القدرات النابعة لا التابعة, وإلي الاستراتيجيات القائمة علي الاعتماد علي الذات والتعاون علي البر والحسنات. لأن المعالجة الجزئية تشير إلي حالة عنترية, أو إلي حالة المهانة والإهانة, ومن دروس قضية التمويل الأجنبي أننا مارسنا العنترية لأسباب سياسية منسية, وهو أمر يتعلق بمعادلة الإرادة والإدارة ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة الإرادة والعدة( الإدارة) هما عناصر الخروج الصحيح من الأزمة فإرادة بلا عدة عنترية لا تطاق, وعدة بلا إرادة مهانة نحوها نساق, والإرادة في العدة خروج رصين, وحفاظ علي المكانة والتمكين.
فخطاب العنترية الذي قاده رئيس الوزراء ووزيرة التعاون الدولي ووزير العدل السابق والقائم بعد ان رفع المايسترو عصاه الاجهزة الامنية والمجلس العسكري لتبدأ معزوفة والله زمان يا سلاحي اشتقت لك في كفاحي لتؤكد كل معاني التصعيد.. لمواجهة مجموعة من المنظمات تسبب وجع دماغ للعسكري.. ويترافق مع ذلك تسريبات حول بلاغات مصنوعة ومصنعة مثلما كان يدفع البعض لعمل بلاغات هنا أوهناك ضد فلان وعلان.. حتي يعرف أنه تحت النظر وتحريك كل هذه البلاغات ضمن منظومة تشويه, من دون أن يعني ذلك قبولا بكل أنشطة يفعلها من يفعل.
ويتساند مع خطاب العنترية خطاب الشبورة والتعتيم خاصة مع تسفير المتهمين أو مصطلح المتهمون الهاربون, والأسلم قل مهرب, ولا تقل هارب, مثلما هرب ممدوح اسماعيل صاحب العبارة وولده, هرب بليل, ونطالب به من خلال الإنتربول, ومطالبة الإنتربول هي عين الفرج للمهربين, ولسان الحال يقول: إبقي قابلني ؟!!
القاضي الأعلي يطلب عدم الحديث إلي الإعلام, ومن يتحدث عن كيف حدث ما حدث من عملية التسفير ؟؟ هو من يريد ان يشوه المؤسسات, والسكوت عن القول وعن أصل الفعل.
هؤلاء يجب أن يفهموا أن الطاعة بالسكوت لا تكون في معصية الخالق ومعصية حقوق الوطن علينا, والساكت عن الحق شيطان أخرس, ولا يؤخر البيان عن وقت الحاجة إليه, وان السكوت حيال الفساد فساد, والصمت عنه إفساد, وإحدي ثمرات الثورة هو الخروج عن المسكوت عنه وكشف المستور والتعبير عن المكبوت.
إننا نقف اليوم في مفترق طرق حرج, فإن لم نعمل شيئا, وإن لم نتحد السيطرة الصامتة وإذا لم نمتحن نظام اعتقادنا الذي يروج إلي أن السكوت علامة الرضا, ومن اشتدت وطأته وجبت طاعته, فما رضينا بذل أو استبداد أو إهانة, والسكوت للبكر التي تستأنس في زواجها حياء هو علامة الرضا, أما سكوت الشعوب فلم ولن يكون علامة رضا.. ولا يخرج علينا من يتحدث نيابة عن الشعب وعن إرادته ورؤيته, وهو يخنق إرادته ويسحق رؤيته, ولم يعترف بعد أو يتعرف علي مقتضيات شعار أنتجته الثورة الشعب يريد.
نصل إلي خطاب من نوع ثالث لعله يذكرني بالأمر الثاني حول أستاذي الدكتورحامد ربيع- رحمه الله- حينما يتكلم عن وظيفة العالم الكفاحية, الكفاحية هي في قوله لا إله إلا الله, لا في الشهادة شهادة بميلاد إنسان جديد لا يخاف إلا من الله ويصدع بكلمة الحق في وجه كل من يتأله أو يطغي, أو تفتنه قوته فتصده كلمة الإيمان لا إله, لا هي كلمة الإيمان الساطعة التي لا تخاف ولا تهاب إلا الله, ولا تخاف المتألهين المفتونين بطغيان قوتهم وسلطانهم, لا هي عنوان النص الحر الذي علمني أستاذي الدكتور حامد ربيع أن أكتبه, وعاهدت نفسي ألا أكتب نصا عبدا, ومن علمني حرفا, صرت به كريما عزيزا حرا.
خطاب لا أنصع ما يكون, وأبين ما يصون, وأرفع من أن يهون, وخير مما يجمعون, وهو أفضل ما يعين ويعون, لا الكاشفة الفارقة البانية, لا خطاب التذبذب والتحسب والتضبب, الذي يعد خطابا هو بمثابة ربا الكلام يمحق الله الربا ويربي الصدقات, وصدقات الكلام في صدقه وحقه.
خطاب التذبذب في إطار التصريحات الخائبة المبررة, وهو حديث الصفقة وما أدراك ما حديث الصفقة, هو حديث محرف حول الصفعة التي تحولت الي صفقة, يقولون وبملء الفيه: الصفقة مقبولة إن كانت معقولة, فإن كانت الصفقة فلنعلنها بشفافية, أرجوكم يامن تتحدثون حديث الصفقة, اصمتوا ففي الصمت سعة فلتقل خيرا أو لتصمت ففي الصمت سعة لكم.
فمتي كانت الصفعة صفقة ؟!, نحدثكم عن الكرامة والمكانة فتحدثوننا عن الثمن والصفقة!!, ومن كل صنوف التيارات تداعت هذه الأصوات علي حديث الصفقة فأين أنتم من حديث القصعة للنبي عليه الصلاة والسلام. حديث الوهن في الخطاب وفي إنتاج الكلام العبد.
فمن هؤلاء الذين أوجعوا رؤوسنا حول أن السياسة هي فن الممكن وأن ما حدث هو الممكن!!, ومن هؤلاء الذين قالوا بحديث الصفقات مشفوعا بالشفافية, وقالوا بأنه حديث حسن لا بأس به( قالها الإسلامي والليبرالي والعلماني ومن كل لون) في شبه إجماع غريب ليلفتنا عن أصل القضية, وأصل القضية تقع بين أمرين:
إن الإدارة العنترية لمشهد التمويل الأجنبي ومؤسسات المجتمع المدني كانت أهدافها سياسية, ومحاولة للإفصاح عمن يحكم مصر الآن بعد الثورة ؟!, إنها الأجهزة الأمنية والتنفيذية وأسهم في ذلك قضاة ووزراء وشيوخ. وحينما أنزل المايسترو عصاه صمتوا جميعا إيذانا بسقوط خطاب العنترية في معركة من غير ميدان.
أن الإدارة المخزية لمشهد تسفير الأجانب قادها نفس المايسترو وقد اغتال في طريقه مؤسسات أعلن أنها مؤسسات هي ملك يمينه من مثل بعض القضاة, ومؤسسات تحولت إلي ساحات لفائض الكلام والتنفيس وهي( البرلمان بغرفتيه) وهما أقرب إلي الحصار من الفاعلية, وخطاب يحمل علامات التسييس الفاسد لا بأس بالصفقة, ناسيا الصفعة, ومرحبا بالثمن لو كان مقبولا أو معقولا, ناسيا الكرامة والمكانة.
ويا خيبتي في بعض رموز الفكر والسياسة الذين كنت آمل فيهم أن يعيدوا الاعتبار إلي مفهوم السياسة وهو القيام علي الأمر بما يصلحه, وما كانت معه الأمور أقرب إلي الصلاح وأبعد عن الفساد, تبني هؤلاء مفهوما للسياسة وممارسة في إطار الصفقات, ألا عذرا مكيافللي!!, فإن هناك من سبقوك!!, حينما حولوا الحديث في السياسة إلي حديث عن الصفقات بعد تحريف بسيط لفعل الصفعات, وتناسوا عن عمد حديث الكرامة والمكانة.
ألا إن حديثهم موضوع, ألا هل بلغت اللهم فاشهد.