فتحت مصر الجديدة، ملفات التمويل الاجنبي لمؤسسات مدنية، تحمل مسميات مختلفة، تتعلق بالديمقراطية وحقوق الانسان والمراة والاعلام وغيرها من العناوين التي يستخدمها الممولون، للدخول الى تفاصيل السياسة والاجتماع في الدول النامية. ولم تكن هذه القضية غائبة عن الجدل الذي كان يسود المجتمع المصري في زمن النظام السابق، لكنه كان جدلا لايتجاوز حدود الكلام، بعد ان اعتبرها النظام من القضايا التي يجب اعتبارها ضمن قائمة المسكوت عنه لاعتبارات مختلفة، اهمها العلاقة مع الدول الممولة. غبر ان الوضع الجديد في مصر والضغوط الشعبية التي يتعرض لها المجلس العسكري والحكومة، لم تعط فرصة للابقاء على الكثير من القضايا قيد التطنيش والتجاهل، خاصة اذا كان الامر يتعلق بالسيادة الوطنية والاختراقات الاجنبية للمجتمع المصري، في قضايا عديدة بينها قضية التمويل الاجنبي، وسط توافق مصري عام، على تفسير الكثير من الاحداث المؤسفة بعد الثورة، على انها تعود لطرف ثالث، اما فلول النظام السابق، او جهات اجنبية لاتريد الخير لمصر ولا لشعبها.
فوجئت المؤسسات المعنية بالاجراء الحاسم، الذي اتخذته الحكومة، عندما هاجمت مقار هذه المؤسسات، ووضعت يدها على الكثير من المعلومات والوثائق، ليس حول التمويل فحسب، بل ايضا فيما يتعلق بالانشطة التي تقوم بها تحت غطاء عناوينها الانسانية والحقوقية، وحولت هذه الوثائق بسرعة قياسية الى القضاء ليقول كلمته فيها، قبل ان تبدا الاتصالات والضغوط من الدول المموله لاجهاض هذا الاجراء.
ولكي نتبين مدى اهمية هذه القضية لدى الدول الممولة، وعلى راسها الولايات المتحدة، فان العلاقات المصرية الامريكية كادت تصل الى مرحلة القطيعة، بعد ان قامت قيامة الولايات المتحدة في محاولة لوقف هذا الاجراء، ومفاعيله الناتجة عنه، واهمها الكشف العلني عن حقيقة اهداف هذا التمويل، والمؤسسات التي يقدم لها وفضح ابعاده والانشطة التي تقوم بها هذه المؤسسات، والتي تقع في خانة التجسس وجمع المعلومات عن المجتمع والدولة المصرية، ومحاولات اغراء البعض بتغيير مواقفهم وارائهم لتتفق مع اهداف التمويل وابعاده.
ولان المؤسسات التي يتم تمويلها في مصر كانت تشكل قاعدة معلومات مهمة لمؤسسات القرار الامريكي، فقد حاولت واشنطن مساومة السلطة في مصر بين وقف المعونات المقررة منذ اتفاقيات كامب ديفيد، والاجراء المصري. لكن الحالة الجديدة في مصر لم تكن تسمح بتمرير هذه المساومة، حيث هدد الاخوان المسلمون باعادة النظر في اتفاقيات كامب ديفيد، اذا الغيت المعونة الامريكية لارتباط هذه المعونة بتوقيع الاتفاقية، عدا عن الهيجان الشعبي الذي لايحتاج الى مزيد من الاستفزاز. عندها اضطرت واشنطن لتغيير تعاطيها مع هذه المسالة واعتماد الدبلوماسية الهادئة،لانقاذ ما يمكن انقاذه، ومحاولة التقليل من الخسائر الناجمة عن فضيحة التمويل.
القضية ما زالت موضع شد وجذب في العلاقات الامريكية المصرية، وما دامت بين ايدي القضاء وتحت الرقابة المباشرة للشارع، فان المجلس العسكري والحكومة وحتى القضاء لايستطيعون الا السير في القضية وتفاصيلها الى النهاية، حتى لو ادى ذلك الى مالا يحمد عقباه في علاقات البلدين. ويبقى على واشنطن ان تقدر مدى الحرج الناشئ عن هذه المسالة وابعادها، سواء للسلطة المصرية، او للادارة الامريكية نفسها.
العبرة مما جرى، هي ان نسخة التمويل الاجنبي في مصر، هي نفسها بالتفاصيل والاهداف في دول اخرى ومن بينها الاردن، التي يقال ان هناك العشرات من مؤسسات المجتمع المدني ممن تنطبق عليها ذات المواصفات. والحل المطلوب في حده الادنى، ولكي لايهدد الممولون بقطع مساعداتهم الضرورية، هو ان تعلن الحكومة انها ليست ضد التمويل من حيث المبدأ، ولكنها تريد ان يمر هذا التمويل عبر المؤسسات الرسمية، لكي توثق وتعرف وتدقق، في مجالات انفاق هذا التمويل ومساراته. هذه القضية اكبر واعمق من اعتبارها قضية فساد، لانها تتعدى الفساد، الى السيادة والامن الوطني السياسي والاجتماعي. ولابد من فتح ملفاتها، لكي لايبقى البرئ متهما، والمتهم في صندوق المسكوت عنه.