حتى الان، هي أشبه ما تكون بمناوشات حدودية تدور بين وحدات جانبية متمركزة في مواقع غير متقدمة. لكنها تنذر كما يبدو بحرب طاحنة يمكن ان تعيد المنطقة كلها الى حقبة ما قبل اختراع الهاتف.
ليس هناك مجال لوقف اطلاق النار ولنشر قوات فصل او فض اشتباك. فالمتحاربون على جانبي الحدود، وهو تعبير مجازي الى حد بعيد، لان أحدا لا يستطيع رسم مثل هذه الحدود، هم عبارة عن مجموعات من الأشباح التي تتحرك في الظلام، وتنفذ عملياتها بأساليب خيالية، وتقدر انتصاراتها وخسائرها بطريقة تكاد تكون وهمية.
يمكن بسهولة التكهن في شكل هؤلاء المحاربين المستقبليين الذين يختلفون تماماً عن صورة الجندي المقاتل المحفورة في الأذهان منذ القدم والتي لم يطرأ عليها الكثير من التعديلات سوى في أسلحة القتال وأدواته: الأرجح انهم مجرد مراهقين، ثقبوا أنوفهم وآذانهم بالدبابيس، وأغلقوا على انفسهم غرفهم المعتمة والمليئة بعلب المشروبات الفارغة وبقايا الوجبات الخفيفة، وجلسوا بثيابهم الداخلية امام شاشة مسطحة واسعة، وشرعوا في اختيار أهدافهم وتحديد تكتياتهم، المستمدة من ألعابهم المفضلة على الجهاز السحري، ثم بدأوا اطلاق النار الذي لا يصدر صوتا ولا يسفك دما ولا يكلفهم سوى كبسة او ربما لمسة، وترقبوا الصرخة الآتية من الجهة المقابلة من الجبهة، او بالتحديد من الغرفة المعتمة التي يتحصن فيها العدو أيضاً.
هم رواد حروب المستقبل، التي خصصت لها الدول الكبرى الميزانيات الضخمة والأجهزة الاكثر تطورا واعدت لها الخطط والكوادر المتخصصة في خوض معركة حقيقية تؤدي في خلال دقائق ومن دون إسقاط قطرة دم واحدة الى إسقاط دول واستسلام شعوب وانهيار اقتصاديات وبناء نظام عالمي جديد .. او ارساء عالم الغاب المقبل الذي لا صمود فيه ولا بقاء الا للأقوى والأقدر في مجال التكنولوجيا.
لكن هؤلاء الرواد العرب ما زالوا اشبه بالفدائيين الذين تمرسوا في حروب العصابات التكنولوجية، من دون ان يستندوا إلى دولة عربية او ربما الى تنظيم عربي يدعمهم ويعطيهم ويحميهم، بخلاف العدو الاسرائيلي الذي سبق أن اعد العدة لمثل هذه المعركة وجهز لها المئات من خبرائه ومراكزه العسكرية وصرف لها ميزانية تقدر بمئات ملايين الدولارات.. تحسبا لمثل هذا اليوم الذي يستيقظ فيه نفر من الشباب العربي ليسد فجوة الصراع المعطل على جميع جوانبه العسكرية والسياسية والاقتصادية، ويكمل المسيرة ضد الكيان الغاصب الذي كان يقدم باعتباره معجزة العصر وسره الذي لا يخترق.
هي مناوشات محدودة، تهدف كما يبدو الى اختبار عناصر قوة العدو ومكامن الخلل في تحصيناته، لكن الحرب الالكترونية آتية لا محالة . ثمة جيل عربي شاب لن يسلم او يستسلم امام اسرائيل، مثلما لم يسلم أمام اي قهر او استبداد.