وليد خليفة*
في دورة الطبيعة يأتي الربيع بعد الشتاء، يختلف حسب الجغرافيات، ففي مصر تفسده رياح الخماسين لأيام، أما دمشق والجزائر، العاصمتان اللتان تتفننان في صناعة العذاب، يعلن الربيع عن نفسه بخطوات واثقة، يعتدي و يُعتدى عليه، أما طرابلس الغرب، ربما ولأن الربيع تركها حائرة بين الخماسين التي تجتاز حدودها الشرقية والجنوبية وجرأة الربيع في حدودها الغربية، تركت نفسها خارج الفصول والتقاويم، على عكس تونس المحاطة بالربيع، تملك في ذلك كل الأدلة التي لا تسمح لحاملي مفاتيح الجنة السماوية مقاوحة أصحاب الأحلام الأرضية !
،منذ ربيع براغ 1968 ، والذي رقص فيه شباب وصبايا براغ على الدبابات الروسية وتحملّوا كل قساوة الدين الفيشي في تلك الأزمنة ، أقصد الشيوعية، ولم يبدلوا الحرية بالحياة، مصرين على أن ” الحياة في مكان آخر ” كما قال العزيز ، ابن تلك التجربة بكل قساوتها، ميلان كونديرا ، منذ ذلك الربيع التشيكي وكل التظاهرات المطالبة بالحرية سلما، يُطلق عليها جزافا، اسم الربيع، ولكل عاصمة محاطة بحراس الهياكل ربيعها الذي بشبهها تماما، يشبه ثقافتها وطقوسها وتاريخها ومستقبلها أيضا. نعم ربيع البلاد يشبه مستقبلها تماما، لم يحمل ربيع دمشق الأول و الذي بدأ بوفاة حافظ الأسد ووراثة الابن بشار أي مؤشر لمستقبل خارج حفلات الدم التي نراها اليوم، لم يكن ربيعا طارئا على هذا الفصل، كان ابنا شرعيا للشتاء الذي لا يشبه شتاءات الآخرين، شتاء حافظ الأسد الصحراوي، ابن تلك الثقافة الشرعي، أم ابنها بالتبني الموغل فيها حتى أخمص القدمين. ثقافة قائمة على كراهية الشريك في البلاد، شتاء عاجز أمام سخونة تدفق الدم وهي تنظر إلى الدماء المتطايرة في السماء، ثقافة حفلات الدم التي تحاكم التاريخ على أحقية تولي الخلافة بين علي ومعاوية رغم مرور أربعة عشر قرنا على الحادثة، كرسي دمشق ما زال موضع ثأر بين أنصار الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، بين بني هاشم وسيد قريش، شتاء ما زال يحتفظ بتلك الحادثة بطزاجة لا تحسد عليها. لذلك لم يأت الخريف ولا الشتاء الذي تسارع بعده إلا بأشلاء الأكراد في ربيع العام 2004 وحفلات الدم في درعا وحمص ودمشق ودير الزور وإدلب واللاذقية المتواصلة في أيامنا هذه.
ربيع القاهرة لا يختلف كثيرا عن ربيع دمشق، رغم ما تفعله رياح الخماسين التي تقضي على الرؤية وتحدث ضجيجا لا ينافسه إلا ضجيج التحرير والتثوير والتنوير ، هكذا هي ، رغم أنها ابنة المعز بالله الفاطمي، ورغم أنها ما زالت تملك شموع مولد الحسين والسيدة، رغم أنها كل ذلك وفوقها تحمل ثقافة القبور الفرعونية، إلا أن ثمة ثأر تحمله بخبث عمرو ابن العاص، تأر ستعززه الوهابية ودولارات النفط، ثأر له علاقة باستعلاء تاريخي وضرورة قيادة المنطقة وكأنها المهمة الموروثة من رمسيس الثاني بختم إلهي لا مناص منه، كذلك الهرم أو تلك المسلة التي تنتظر في ساحة كونكورد الباريسية، ثمة غبش في الرؤيا وما يسيطر على الحال ذلك الثأر والسعي لمهمة قيادة المنطقة دون أدنى اهتمام بأحلام وأقدام وبطون حاملي مصر واسمها.
،ربيع تونس يحاول الاستثناء دائما، يريد أن يجنح بنفسه خارج السرب ، كان ذلك هندسة فرضها الحبيب بورقيبة، استطاع أن يجنح بنفسه خارج السرب ولكن جنح إلى درجة الاختناق، لدرجة أن يولد حمل الربيع عن مسخ اسمه زين ليلى الطرابلسي، لكنه ولأنه زين ليلى ومجرد موظف يتقن التلصص وقتل الأحلام، هرب قبل أن تخنقه سيول دماء التونسيين، أثبت بهروبه أنه أفضل الديكتاتوريين في لغة العامة التي تستهوي أفعال التفضيل والتفخيم والتنقيح، لم يطل علينا ربيع تونس بعد بوردٍ مأمول، لم يحمل لنا إلا احتمال اختناق أكبر، احتمال صحراء أخرى وكأن قناة العروبة لا تطرح إلا التصحر والنقاب !
،ربيع القاهرة ما زال يصر على أن ثمة نهر هناك وأن ثمة آثار للشجر وبائعات عقود الياسمين، ما زال يصر على أنه هو ولكن المهمة تغدو أشبه بصخرة سيزيف كلما ارتفع قليلا يجد مليون قوة تجذبه للسقوط مرة أخرى في أحلام العودة لزمن الأجداد، الزمن الذي اكتسح فيه عمر ابن العاص مصر و” حلبها حتى هزل ضرعها”، فيتحول ” النور ” من مهمته إلى واجهة لإعادة الموتى من القبور، والعدالة والحرية إلى بازار أشبه بأسواق البصرة قبل ثورة الزنج، وتختصر الليبرالية في ردة فعل على شعبوية الغوغاء، ميدان التحرير يشكو وحدته للبائعين المتجولين وهم يرمون أعقاب سجائر الكليوباترا والبلمونت صوب الكتلة الصماء المسماة جامعة الدول العربية والماضي الذي لا يبخل في مراكمة المآسي .
،ربيع طرابلس الغرب يصر على عطش لا يروى لدماء الليبيين وكأن جحيم القذافي يلزمه نهر عظيم من الدماء للتطهر من براثنه فيما تمضي اليمن بين الأنفاق المعدة بعناية الجيران والتاريخ ولا تستطيع البحرين إعادة القرامطة ولا أثر لهم في الهزيع الأخير، ويسكت الربيع هناك طالبا استراحة أخرى في زحمة الغرباء، فقط دمشق تمضي إلى حيث القدر الليبي بزعيم أبله يظن نفسه سقراط وأفلاطون ونيتشه مجتمعين و هو لا أكثر من مهرج سيء على مسرح لم يُنصب له أساسا. هكذا تتوالى الفصول وما قبل الربيع لم يكن شتاءً وما بعده ربما ثمة عواصف تأتي من تاريخٍ لم يعرف التسامح يوماً.
*كاتب سوري مقيم في فرنسا
،منذ ربيع براغ 1968 ، والذي رقص فيه شباب وصبايا براغ على الدبابات الروسية وتحملّوا كل قساوة الدين الفيشي في تلك الأزمنة ، أقصد الشيوعية، ولم يبدلوا الحرية بالحياة، مصرين على أن ” الحياة في مكان آخر ” كما قال العزيز ، ابن تلك التجربة بكل قساوتها، ميلان كونديرا ، منذ ذلك الربيع التشيكي وكل التظاهرات المطالبة بالحرية سلما، يُطلق عليها جزافا، اسم الربيع، ولكل عاصمة محاطة بحراس الهياكل ربيعها الذي بشبهها تماما، يشبه ثقافتها وطقوسها وتاريخها ومستقبلها أيضا. نعم ربيع البلاد يشبه مستقبلها تماما، لم يحمل ربيع دمشق الأول و الذي بدأ بوفاة حافظ الأسد ووراثة الابن بشار أي مؤشر لمستقبل خارج حفلات الدم التي نراها اليوم، لم يكن ربيعا طارئا على هذا الفصل، كان ابنا شرعيا للشتاء الذي لا يشبه شتاءات الآخرين، شتاء حافظ الأسد الصحراوي، ابن تلك الثقافة الشرعي، أم ابنها بالتبني الموغل فيها حتى أخمص القدمين. ثقافة قائمة على كراهية الشريك في البلاد، شتاء عاجز أمام سخونة تدفق الدم وهي تنظر إلى الدماء المتطايرة في السماء، ثقافة حفلات الدم التي تحاكم التاريخ على أحقية تولي الخلافة بين علي ومعاوية رغم مرور أربعة عشر قرنا على الحادثة، كرسي دمشق ما زال موضع ثأر بين أنصار الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، بين بني هاشم وسيد قريش، شتاء ما زال يحتفظ بتلك الحادثة بطزاجة لا تحسد عليها. لذلك لم يأت الخريف ولا الشتاء الذي تسارع بعده إلا بأشلاء الأكراد في ربيع العام 2004 وحفلات الدم في درعا وحمص ودمشق ودير الزور وإدلب واللاذقية المتواصلة في أيامنا هذه.
ربيع القاهرة لا يختلف كثيرا عن ربيع دمشق، رغم ما تفعله رياح الخماسين التي تقضي على الرؤية وتحدث ضجيجا لا ينافسه إلا ضجيج التحرير والتثوير والتنوير ، هكذا هي ، رغم أنها ابنة المعز بالله الفاطمي، ورغم أنها ما زالت تملك شموع مولد الحسين والسيدة، رغم أنها كل ذلك وفوقها تحمل ثقافة القبور الفرعونية، إلا أن ثمة ثأر تحمله بخبث عمرو ابن العاص، تأر ستعززه الوهابية ودولارات النفط، ثأر له علاقة باستعلاء تاريخي وضرورة قيادة المنطقة وكأنها المهمة الموروثة من رمسيس الثاني بختم إلهي لا مناص منه، كذلك الهرم أو تلك المسلة التي تنتظر في ساحة كونكورد الباريسية، ثمة غبش في الرؤيا وما يسيطر على الحال ذلك الثأر والسعي لمهمة قيادة المنطقة دون أدنى اهتمام بأحلام وأقدام وبطون حاملي مصر واسمها.
،ربيع تونس يحاول الاستثناء دائما، يريد أن يجنح بنفسه خارج السرب ، كان ذلك هندسة فرضها الحبيب بورقيبة، استطاع أن يجنح بنفسه خارج السرب ولكن جنح إلى درجة الاختناق، لدرجة أن يولد حمل الربيع عن مسخ اسمه زين ليلى الطرابلسي، لكنه ولأنه زين ليلى ومجرد موظف يتقن التلصص وقتل الأحلام، هرب قبل أن تخنقه سيول دماء التونسيين، أثبت بهروبه أنه أفضل الديكتاتوريين في لغة العامة التي تستهوي أفعال التفضيل والتفخيم والتنقيح، لم يطل علينا ربيع تونس بعد بوردٍ مأمول، لم يحمل لنا إلا احتمال اختناق أكبر، احتمال صحراء أخرى وكأن قناة العروبة لا تطرح إلا التصحر والنقاب !
،ربيع القاهرة ما زال يصر على أن ثمة نهر هناك وأن ثمة آثار للشجر وبائعات عقود الياسمين، ما زال يصر على أنه هو ولكن المهمة تغدو أشبه بصخرة سيزيف كلما ارتفع قليلا يجد مليون قوة تجذبه للسقوط مرة أخرى في أحلام العودة لزمن الأجداد، الزمن الذي اكتسح فيه عمر ابن العاص مصر و” حلبها حتى هزل ضرعها”، فيتحول ” النور ” من مهمته إلى واجهة لإعادة الموتى من القبور، والعدالة والحرية إلى بازار أشبه بأسواق البصرة قبل ثورة الزنج، وتختصر الليبرالية في ردة فعل على شعبوية الغوغاء، ميدان التحرير يشكو وحدته للبائعين المتجولين وهم يرمون أعقاب سجائر الكليوباترا والبلمونت صوب الكتلة الصماء المسماة جامعة الدول العربية والماضي الذي لا يبخل في مراكمة المآسي .
،ربيع طرابلس الغرب يصر على عطش لا يروى لدماء الليبيين وكأن جحيم القذافي يلزمه نهر عظيم من الدماء للتطهر من براثنه فيما تمضي اليمن بين الأنفاق المعدة بعناية الجيران والتاريخ ولا تستطيع البحرين إعادة القرامطة ولا أثر لهم في الهزيع الأخير، ويسكت الربيع هناك طالبا استراحة أخرى في زحمة الغرباء، فقط دمشق تمضي إلى حيث القدر الليبي بزعيم أبله يظن نفسه سقراط وأفلاطون ونيتشه مجتمعين و هو لا أكثر من مهرج سيء على مسرح لم يُنصب له أساسا. هكذا تتوالى الفصول وما قبل الربيع لم يكن شتاءً وما بعده ربما ثمة عواصف تأتي من تاريخٍ لم يعرف التسامح يوماً.
*كاتب سوري مقيم في فرنسا