الثامن والعشرون من ايلول.. اربعون عاماً مرت على رحيل القائد العربي الفذ, الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه, بما هو باعث روح الكفاح والنضال وخصوصاً الامل والكرامة والكبرياء, في نفوس أبناء أمته من المحيط الى الخليج, هذه الأمة التي «اختزلت» في زمن التراجع والخنوع واليأس الذي بثته دول وأجهزة وإعلام مضاد, كمفهوم نقيض للعروبة وكمصطلح يراد من ورائه ان نكون في منطقتنا, التي شهدت حضارتنا وريادتنا وحضورنا بين الأمم, مجرد كَمّ بشري يمكن أن يختزل بالجغرافيا القطرية التي ينعق رموزها المزيفون بهوياتهم الاقليمية والجهوية الطائفية والمذهبية, في «كفر» معلن بهوية هذه الأمة وما تختزنه من طاقات وابداعات ومنسوب نضالي يكاد أن يكون أمثولة وانموذجاً مضيئاً, لكنها سنوات القهر والتراجع والعسف وسيادة منطق الأمن وسلامة كرسي الحاكم, وفوضى الفتاوى, على منطق الحريات والديمقراطية واحترام حقوق الانسان وبناء مؤسسات المجتمع المدني وتداول السلطة..
مضى عبدالناصر الى رحاب ربه في مثل هذا اليوم من العام 1970 بعد أن شكّل التاريخ ذاته, ولكن قبل تسع سنوات خلت 28 ايلول 1961, الضربة القاسية, عندما نجح المعسكر الامبريالي الرجعي, المعادي لمشروع جمال عبدالناصر القومي وخصوصاً التحرري, بمضمونه الاجتماعي المنحاز للشرائح الفقيرة, والقائم على تحالف قوى الشعب العامل والرافض لسياسات الهيمنة والتبعية والوجود الاجنبي وبخاصة العسكري على الاراضي العربية, هذه القواعد التي كانت تشكل رصيداً للانظمة المرتبطة بالمشروع الاميركي الملتقي موضوعياً وايديولوجياً ومصلحياً بالمشروع الصهيوني, والذي رأينا ترجمته الميدانية والفورية في الخطوات «الجريئة» التي اتخذها خلفه لمعانقة الاسرائيليين, والاعتراف العلني بامتلاك الاميركيين 99% من أوراق الحل في المنطقة, ولم يكن ممكناً بروز هذا الانسلاخ عن روح هذه الأمة وتاريخها, سوى بالاقدام على الخطوة الشجاعة المسماة زوراً وبهتاناً, بتجاوز «الحاجز النفسي» الذي لم يكتف بتجاوزه بل قام بكسره.. ولم يحصد غير الخذلان من اعزائه.. بدءاً بهنري كيسنجر وليس انتهاء بشريكه في السلام مناحيم بيغن, الذي اوصله الى مربع الصلح المنفرد المتواصل حتى اللحظة..
رحل جمال عبدالناصر, بما له وما عليه, لكن الحملة الضارية المفتعلة والمضللة التي تفوح منها رائحة الكذب والاختلاق, لم تتوقف, واللافت في كل هذا, ان الذين يهاجمونه هم انفسهم الذين ناصبوه العداء في فترة حياته, وهم ذاتهم الذين استعانوا بأموال وأبواق وأجهزة المعسكر المعادي لعبدالناصر, وواصلوا التآمر عليه, بعد أن صلّوا لله تعالى ركعتي «شكر» لأن اسرائيل هزمت عبدالناصر (على ما اعترف بالصوت والصورة الشيخ محمد متولي شعراوي الذي رافق السادات للقدس ورأى في زيارته لاسرائيل شجاعة وسيراً على خطى السلف الصالح في الجنوح للسلم)..
حساباتهم خاطئة على الدوام, وهم لا يتعلمون شيئاً, كما انهم لا ينسون شيئاً بل اكثر من ذلك لا يعرفون التسامح, والحقد هو الذي يحكم خطاهم ويشكل رؤاهم الضبابية (اقرأ المشبوهة)..
ظنوا أن هزيمة عبدالناصر ستشكل فرصة سانحة لتمرير مشروعهم الظلامي, المعادي لكل ما هو تحرري ومضيء ومنحاز للفقراء والمعوزين والطبقة الوسطى, وحق الجماهير في التعليم المجاني والعمل والطبابة والتمثيل في البرلمانات, بعيداً عن النخبوية والوصاية والطبقة المستغلة وقطاعات الكمبرادور والسماسرة والوسطاء والفاسدين, ودائماً في الفتاوى المضللة واحتكار الحقيقة والنطق باسم الدين الحنيف.
لم تخذل الجماهير العربية وخصوصاً المصرية زعيمها, بل الذين خذلوه هم رفاقه ورهط الفاسدين والضعفاء الذين أحاطوا به, فاعترف الرجل النزيه والصادق, بخطئه وكفـّر عنه في عمل دؤوب ومتواصل لبناء الجيش وتنظيف «الاسطبلات» من بواقي الاجهزة والجنرالات المتكرشين, وكان بيان «30» مارس 1968 هو «المانيفستو» الذي أدار عبدالناصر في آخر سنتين من عمره, جدول الاعمال الوطني, ولم تكن حرب الاستنزاف المجيدة سوى المؤشر والدليل الواضح على استيعاب الدروس والعبر.
لكن الرحيل المفجع والمفاجئ في مثل هذا اليوم من العام 1970, وضع حداً لمشروع جاد وعملي عروبي, أكثر تصميماً على إحداث قطيعة مع الاسباب والظروف والمرحلة التي قادت الى الخامس من حزيران 67, فبدأت الانهيارات والانكسارات وتعددت الهزائم ودخلنا مرحلة «خلود» الحكام وخروج الشقيقة الكبرى, وتغول تيارات الاسلام السياسي, التي رأت أن كابول أهم من القدس وأن الجهاد لا يكون إلاّ في افغانستان, لأن التحالف مع «اهل الكتاب» فريضة لمقاتلة «الملحدين», وبامكان فلسطين وشعبها أن ينتظروا ثلاثة عقود اخريات..
شَمِتوا بعبدالناصر.. فأخذهم خليفته الى صلح منفرد, وأسهموا في هزيمة الاتحاد السوفياتي «الملحد» فوضعتهم حليفتهم وأجهزتها, أقصد واشنطن والسي آي إيه, في دائرة الاستهداف بعد ان انتهى دورهم, وهم الان يجأرون بالشكوى ويرفعون الصوت عالياً ضد الاستكبار والخذلان.
رحم الله جمال عبدالناصر وسلام عليه في يوم رحيله