ليس أمرًا عاديًا أن نكتب عن رجل بقامة الشهيد جورج حبش، هذا القائد الفَذ، الذي عاش النكبة وانغرست مأساتها في ذاكرته ووجدانه وناضل حتى الرمق الأخير من أجلِ تخليص شعبه من نير هذه المأساة.
كانت صورة جورج حبش ترفع لأول مرة في بلدنا - عرابة في مظاهرة لطلاب المدرسة الثانوية، بعد مجزرة صبرا وشاتيلا عام 82... هذه المظاهرة كانت من الأضخم في تاريخ عرابة والتي بادرنا لها مجموعة من رفاق حركة أبناء البلد.. حينها رفعت صورة جورج حبش حيث كان الاسم لوحده يشد الناس ويبعث فيهم وقعًا من نوع آخر، يومها انحزتُ إلى هذا الرجل القائد عن دونه، رغم وجود صور لياسر عرفات، شعرتُ وأنا أرفع هذه الصورة أنني أعبر عن فكرٍ يساري ثوري ومعتقد اشتراكي رغم حداثة سننا إلاّ أننا كنا نهتمُ بهذه الفوارق التي تُميز هذا القائد عن ذاك وفصيل عن آخر، حتى أننا سُمينا فيما بعد في عرابة بجماعة جورج حبش من قبل بعض كبار السن على سبيل مزاح الجد. ولم نتذمر من هذه التسمية لما فيها من فخر رغم خطورتها. وفي أواخر عام 86 حتى أواسط عام 88 اعتقلت وقضيت هذه المدة في السجون الإسرائيلية أعيش تحت إطار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهكذا تعرفت أكثر وأكثر على جورج حبش المناضل القائد والأمين العام للجبهة الشعبية، من خلال قراءتنا المكثفة لأدبيات الجبهة ونتاجها الفكري والسياسي.
في شهر آب من العام 1997 كانت المرة الأولى التي أسافر بها خارج حدود البلاد، يومها سافرنا مجموعة من الرفاق إلى عمّان للقاء الحكيم، طوال الطريق وأنا أفكر بطبيعة هذا اللقاء، ماذا سنقول للرجل، كيف نصافحه وكيف سيكون استقبالهُ لنا، واستعدت بذاكرتي كل ما قرأته عنه وعن الجبهة، وعن حلمنا بهذا اللقاء، وتذكرت ونحن على مشارف العاصمة الأردنية رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، وبوابة مندلباوم التي فتحت من الجهة الأُخرى، على عكس ما كان ينتظر اللاجئين الفلسطينين.
يومها انفجرنا بالبكاء أكثر من مرة، وكانت اللحظة الأصعب عليه وعليّ حين قلتُ لهُ: "لم نحلم بان نلقاك في عمان وعبر اتفاق مشئوم، كنا ننتظر عودتكم ونلقاك هناك في فلسطين". فانتفض في مكانه وانفجر بالبكاء مرةً أُخرى وكأنه كان يراجع تاريخ مسيرة نضال طويل أثمر اتفاقًا استسلاميًا، شعرتُ أن الحكيم بهذا البكاء يريد أن يصرخ ويقول ليس من أجل هذا ناضلنا وقاتلنا. واستمر هذا اللقاء ساعات طوال واتفقنا على لقاء آخر في اليوم التالي في ذات الساعة.
توالت لقاءاتي مع حكيم الثورة، هذا المقاتل العنيد والسياسي الثائر، كان دائمًا يسأل عن الناس هنا وعن أحوالهم، تابع كل قضية صغيرة وكبيرة، تأثر جدًا لأي معاناة كان يتعرض لها أبناء شعبه في كل مكان، وكان لمنطقة ال 48 مكانة خاصة في وجدانه وقلبه ونشاطه، فهو ابن مدينة اللد، فقد قال بعد أوسلو "لن أعود إلاّ إلى مدينة اللد وأكون آخر من يعود من شعبي".
اللقاء بجورج حبش هو شرف كبير نذكره الآن ونعتز به ونفخر، ومن حملة المواقف التي تسجل لهذا الإنسان العروبي أنَّه كان من أقوى وأشدّ المعارضين لاتفاق أوسلو، وسماه ب "مأساة أوسلو"، وكذلك قوله الدائم رغم كل رياح الهزيمة، انّهُ يؤمن بحتمية الانتصار وتحرير كل ذرة تراب من فلسطين، وقوله كذلك حين يسأل من هو جورج حبش؟ : "أنا ماركسي، يساري الثقافة، التراث الإسلامي جزء أصيل من بُنيتي الفكرية والنفسية، معني بالإسلام بقدر أية حركة سياسية إسلامية، كما أن القومية العربية مكوّن أصيل من مكوناتي..."
وكان الحكيم من أشد الداعمين لبرنامج الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين ودعم موقف مقاطعة انتخابات الكنيست، ومن هذا الباب كان يُعلن دائمًا عن دعمه لمشروعنا السياسي. وبارك مؤتمر حركة أبناء البلد المُنعقد في مدينة سخنين في آب من العام 2000، كذلك بارك انتخابي كأمين عام للحركة. وهذا موقف من رجل بقامة جورج حبش اعتز وأفتخر به.
وفي هذا المقام نقول ما أحوجنا اليوم كفلسطينيين إلى قائدٍ حكيم، ونتساءل كيف كان سيتصرف الحكيم في ظل مجازر تُرتكب بحق أبناء شعبه في غزة "ومسئولين" وقادة من منظمة التحرير يدينون المقاومة ويعتبرونها عبثية ويحملونها مسؤولية العدوان الإسرائيلي على غزة، هل كان جورج حبش سيقف على الحياد في ظل هذا الانقسام بين تيار المقاومة والتمسك بالثوابت وتيار المساومة والتفريط.
حتمًا كان جورج حبش سيعتز ويفتخر بصمود غزة بأهلها ومقاومتها وكان حتمًا سيكرس كل طاقاته إلى جانب شعبه، وهو الذي قال في لحظاته الأخيرة حين سأل عن الحصار المفروض على غزة، وقيل له ان الناس هناك قد هدموا الجدران فقال وهو يبتسم والأمل يملأ عينيه: "حتمًا سوف يأتي اليوم الذي يقتحموا فيه شعبنا كل الحدود ويعود إلى فلسطين".
معًا على الدرب
محمد كناعنة – أبو أسعد
الأمين العام لحركة أبناء البلد