ليس سهلاً على لبنان التعايش مع الحريق المندلع في سورية. ولا ضرورة للإسهاب في الشرح. على مدى عقود كانت سورية اللاعب الأول على المسرح اللبناني. دعمت سياسيين واخترعت سياسيين وشطبت سياسيين. نصّبت رؤساء ووزراء ونواباً ومخاتير. وتركت بصماتها في السياسة والأمن والاقتصاد.
وليس بسيطاً ما تعيشه سورية. إنه زلزال غير مسبوق تكاد كل نتائجه تكون مؤلمة. إذا بقي النظام سيبقى جريحاً ومتهماً ومحاصراً. وإذا غرقت سورية في حرب أهلية مديدة ستكون الأثمان باهظة لها وللمنطقة. واضح أن لا عودة الى الوضع المستقر الصارم الذي كان قائماً قبل شرارة الاحتجاجات. سورية الآن دولة مريضة تكرّست ملعباً بعدما كانت لاعباً.
في المقابل الوضع اللبناني أكثر من صعب وأكثر من معقّد. إنه بالغ السوء والخطورة في آن. لا دولة ولا رائحة دولة. ما بقي من الدولة يتبخر ويتفكك ويتلاشى ويندثر. وجود الرئاسات والمواكب والأعلام لا يلغي ما تقدم. والتجارب تعلّمنا ان الأعلام يمكن ان ترفرف فوق الخرائب. والحكومة عجيبة غريبة على رغم حصافة سياسة النأي بالنفس. زرتُ الكثير من الدول المريضة البائسة ولم أعثر على حكومة مؤلمة كهذه. جزر متوترة ومتناحرة تتبادل التسريبات والاتهامات ونصب المكائد.
لا دولة ولا رائحة دولة. كل ما كان يجمع اللبنانيين يقسمهم الآن. من الحريق السوري الى سلاح «حزب الله». من موقع لبنان الى مواقع الطوائف والمذاهب فيه. من المحكمة الدولية إلى مخالفة قانون السير. لم تعد الدولة مرجعية لأحد حتى لأجهزتها العسكرية والأمنية. صار اعتقال شاب من طائفة أخرى ينذر بفتنة. لم يسبق أن وصلت العلاقات السنّية – الشيعية الى هذا الدرك. وبما اننا ضجرنا من التهذيب واللياقة وتشذيب الأوصاف، نقول إن التفكك اللبناني يتعمق الى درجة تحويل الانتخابات محطات من الحرب الأهلية.
أقرأ صحف الصباح فيرتبك دمي. بحبرها وسمومها. أتابع نشرات المساء فأهرب الى النوم. لا تنتابهم الرحمة ولا تأخذهم الشفقة. فوق المسرح المهدد بالانهيار الكامل يفتحون الجراح ويدسون الملح. كأنهم يملكون وطناً بديلاً. أعرف الملعب واللاعبين والخيوط والامتدادات والرهانات. وعلى رغم ذلك تنتابني أحياناً سذاجة المراسل الغريب. على أبواب الصيف ومع تحرّق اللبنانيين لرؤية السيّاح، كم أتمنى إعلان هدنة لشهر واحد يمتنع السياسيون خلالها عن أي تصريح أو إطلالة إعلامية.
لن تنهار الثورة السورية إذا امتنع الرئيس سعد الحريري عن تكرار تأييده لها. يمكنه توظيف شهر الصمت هذا لإعادة ترتيب تيار «المستقبل» أمام محاولات اختراقه أو سرقة الشارع السنّي منه. لن ينهار النظام السوري إذا امتنع السيد حسن نصرالله على مدار شهر عن تكرار تأييده له. يمكنه توظيف هذا الشهر في التفكير في مستقبل الشيعة اللبنانيين في العالم العربي الجديد الضائع بين هجوم الربيع والهجوم الإيراني وتسللات «القاعدة». يمكنه أيضاً التفكير في مستقبل الشيعة العرب.
يستطيع الرئيس نبيه بري توظيف الشهر لعقد دورة تدريبية للنواب الشباب. هدف الدورة إقناعهم بأن بعض الشتائم والاتهامات التي تبادلوها تحت قبة البرلمان مضرّة بصحة الوطن والمواطن أو بما تبقى منهما، وأن العنتريات الهزلية تشكل احتقاراً مدوياً للمواطنين والمشاهدين.
يستطيع الدكتور سمير جعجع توظيف شهر الصمت لإعداد حزب «القوات اللبنانية» للانتخابات خصوصاً بعدما رسخت محاولة اغتياله الانطباع بأنه «مطلوب» في السلم كما في الحرب. وما يصدق على سمير جعجع يصدق ايضاً على وليد جنبلاط.
لا النظام السوري باق بقوة اللبنانيين ولا الثورة مستمرة بقوتهم. الهدنة مفيدة ايضاً للرئيس الجنرال ميشال سليمان تريحه على الأقل من راجمات الجنرال عون. يستطيع الرئيس ميقاتي توظيف شهر الصمت لإعادة صيانة النأي بالنفس.
ليتكم تغادرون الشاشات لشهر واحد. ليتكم ترحمون المواطنين وتدعون السياح يتدفقون. لن تهتز مواقعكم ولن تميد الأرض تحت أقدامكم. ومن يدري فقد تعجبكم التجربة وتقررون تمديدها الى آخر الصيف، وإن فعلتم سنمتدحكم طويلاً. طبعاً مع الإشارة الى ان الهدنة مطلوبة ايضاً من سياسيي الصفَّين الثاني والتاسع فضلاً عن جيش المحللين. ويمكن صاحب الغبطة ان يمضي الشهر في التأمل والصلاة بعيداً من أشواك الربيع العربي.