الاصلاح نيوز /
قرار جريء إتخذته الصحفية الأردنية الشابة حنان خندقجي عندما حصلت على دعم محطة بي بي سي لعمليتها الإستقصائية الخاصة فانتحلت شخصية متطوعة واخترقت بعض مراكز رعاية الأطفال المعوقين في بلادها لصالح برنامج في غاية الإثارة يفترض أن تبثه المحطة الشهيرة مساء اليوم الإثنين.خندقجي بدعم لوجستي مناسب وعبر كاميرات تصوير سرية تابعت تحقيقا صحفيا مطولا استمر لأكثر من عام.
الفكرة كانت بسيطة للغاية فالصحافية المتخفية حاولت الإجابة على سؤال نادرا ما يخطر في ذهن أحد خصوصا من طبقة المسئولين البيروقراطيين في الدولة الأردنية: ما الذي يحدث بعد وداع الأهل لأطفالهم هناك؟
.. وكلمة هناك تعود إلى مراكز رعاية مرخص لها من قبل وزارة التنمية الإجتماعية ومتخصصة في رعاية الأطفال المعوقين أو من تسميهم أدبيات الحكومة الأردنية من باب التعاطف (ذوي الحاجات الخاصة) وهي تسمية بكل الأحوال تعترض عليها المنظمات الأهلية قليلة العدد التي تتابع شؤون هؤلاء في الأردن كما فهمت ‘القدس العربي’ من الناشطة في هذا المجال كندة حتر.
التوثيق لما يجري خلف أسوار مركزين للرعاية على الأقل يحصل كل منهما على نحو ألف دولار شهريا في الحد الأدنى مقابل كل طفل جرى في ساعات الليل والصباح وبطريقة التصوير السري .
وبرنامج بي بي سي الذي حصلت القدس العربي على نسخة منه وإطلعت عليه قبل البث الرسمي يكشف عمليا عن وقائع وفظائع (مفزعة) عما يجري للأطفال المعنيين لا أحد يتصور بأن المجتمع الأردني يقبلها أو حتى يتخيلها خصوصا وأن المسألة تتعلق بدور رعاية خاصة هذه المرة مدفوعة الأجر وليس بدور رعاية حكومية أو رسمية بعدما تم التصوير والتوثيق في مركزين مع المتابعة الصحفية في خمسة مراكز اخرى من أصل 54 مركزا متخصصا حصل على ترخيص مزاولة المهنة.
والحقيقة الصادمة التي يكشفها البرنامج تتمثل في أن سلطات الرقابة المتراخية أصلا على مثل هذه المؤسسات تركز حتى عندما تمارس الرقابة والتفتيش على مسائل محددة من طراز خدمات الطعام والمنام وأهلية البناء والبنية التحتية لكن لا أحد يدقق في نجوم المأساة التي كشفتها المحطة التلفزيونية وهم حصريا طاقم الموظفين الذين تترك لهم مهمة (الرعاية) لا من حيث الأهلية ولا من حيث متابعة المنتج ومراقبة الأداء حيث يقدم البرنامج ما يصفه محرره بالأدلة الدامغة التي تظهر ببساطة شديدة بأن بعض من أوكلت لهم مهام (رعاية) أطفال بأمس الحاجة للمساعدة تحولوا إلى آلات منتجة للعذاب والمعاناة لهؤلاء الأطفال.
تلاحظ معدة التقرير بأن دور الرعاية المقصودة تستقبل الأسر الراغبة في إيداع أبنائها بالترحاب وتوفير الأدلة على احترافيتها فيما يروي بعض الأهالي قصصا وحكايات عن سوء المعاملة مما استدعى تحريك الكاميرا السرية بإتجاه مركزين في العاصمة عمان.
المشهد الأول الذي تلتقطه الكاميرا: فوضى وعنف في المكان وفتاة صغيرة تساق ممسوكة من شعرها وطفل منزعج يجر قسرا إلى داخل الفصل الدراسي الذي تخلط فيه بالواقع الحالات المختلفة للاعاقة خلافا للمنطق العلمي والمهني والمدرسي بالنسبة لأطفال يعتمدون على المشرفين في كل احتياجاتهم المعيشية والتعليمية والعاطفية وفقا لخندقجي التي تشرح بأنها زارت المركز العام الماضي ورأت أطفالا يتركون وحدهم لساعات طويلة في غرف خاوية ويطلقون الإستغاثات ويبدو عليهم الذهول.
ونفس المشاهد تكررت امام خندقجي فبعض الأطفال مقيدين للكراسي وإحدى المشرفات تنصح بعدم إظهار التعاطف وتحرض زميلة لها على تعلم العنف وأخرى تضرب احد الأطفال بكتاب وثالثة تجر طفلا من ملابسه على الأرض، ومشرفات يحاولن إرغام أحد الأطفال بالقوة على إرتداء الحذاء رغم الجروح التي يعانيها في قدمه.
النزلاء يتعرضون لأنماط متنوعة من الأذى الجسدي والنفسي وفقا لخندقجي التي تحدثت عن طفل أصيبت قدمه بالإلتهاب وعندما استفسرت عن إسعافه طبيا سخر منها بقية المشرفون وتبين عدم وجود حتى الإسعافات الأولية رغم ان القانون يجبر الدور على تقديم الخدمات الصحية مما إضطر خندقجي لإستعمال ورق المرحاض بدلا من الضمادات الطبية.
ناصر شماعين وهو مواطن أردني شهد أمام كاميرا بي بي سي بأن مشرفي المركز الذي اودع إبنه فيه طلبوا منه عدم الحضور قبل شهر كامل حتى يتعود الطفل على وضعه الجديد .. بعد 20 يوما إتصل الطفل بوالده ورجاه زيارته بسبب سوء المعاملة وتبين أنه ضرب بشكل مبرح فلجأ والده للقضاء ويبدو مصرا على المتابعة لكنه يقول (خذلتنا مؤسسة الدولة هنا).
وحسب أوراق وتقارير قضية نجل شماعين فالمسؤولين في المركز تحدثوا عن إضطرابات سلوكية في الطفل وأنه إرتمى على خزانة الملابس ويقول مدير المركز الدكتور أحمد أبو حطب بأن التقرير الأولي للمستشفى يشير إلى أن الطفل أحمد شماعين أصيب برأسه بعد سقوطه والإصابات الأخرى حصلت بعد مغادرته للمركز .. هذه رواية مختلفة عن مضمون تقرير طبي من مشفى حكومي حصل عليه شماعين الأب ويفيد بأن الإصابات نتجت عن ضرب متكرر، الأمر الذي جعل الطفل غير قادر على الكلام ولا المشي، ومع ذلك فقد فشل شماعين في الحصول على حكم من المحكمة.
لكن المواطن خالد أبو دقة له قصة مختلفة فقد أودع إبنه في أحد المراكز باهظة التكاليف وذهب لعمله في الإمارات وتلقى اتصالا يفيد بأن إبنه سكب الماء الساخن على رجليه وتبين لاحقا إن نصف جسد الطفل أصيب بالحروق ولم يسلم أبو دقة بالأمر فاستعان بفريق طبي زوده بتقرير يفيد باستحالة إصابة الطفل بحرق ناتج عن ماء ساخن بل بسبب اللهب او التعرض لمادة كيميائية كالأسيد.
ويؤكد هيثم خرفان أحد المتخصصين بهذا النمط من الرعاية أنه يسمع قصصا عن حالات خطيرة من سوء المعاملة من الأهالي مؤكدا بأن هذه الحالات تنطوي على جرائم ينبغي أن يحاكم مرتكبوها قبل التفكير بإصلاح الوضع في تلك المؤسسات.. مع ذلك يلمح خرفان إلى أن عدد الحالات التي وصلت للقضاء قليلة فيما يفلت المشرفون المجرمون من العقاب فيما تؤكد مصادر وزارة التنمية الإجتماعية بأنها لا تتلقى شكاوى بخصوص ما يجري داخل مراكز الرعاية.
اما المحامي الضمور فيصر على متابعة مثل هذه القضايا لمحاسبة دور الرعاية مع تعديل القانون بحيث تتغلظ العقوبات في مثل هذه الإعتداءات.
وتؤكد المراسلة المتخفية خندقجي أن الربط بالكرسي إجراء مألوف ويومي وإن المعاملة بفترات الليل تكون أقسى حين يصبح عدد الشهود أقل وأن المشرفات يتبادلن الحديث على الإفطار عن أفعالهن السيئة فيما يصر المسؤولون على أن شكاوى سوء المعاملة نادرة ولا يوجد إحصاءات يمكن الإعتماد عليها الأمر الذي يخلق مناخا بين موظفي دور الرعاية تلك يساعدهم في العمل دون خوف من المساءلة مع ان الوزارة المختصة تلقت شكاوى على ثمانية على الأقل من مؤسسات الرعاية المرخصة.
وحسب البرنامج لا يقل الأذى النفسي عن الجسدي فاحد الأطفال يقيد للكرسي لساعات طويلة جدا وليس بوسعه سوى مشاهدة التلفزيون والتحديق فيما حوله فيما تنام طالبة كفيفة على سريرها طوال اليوم ولا يتفقدها المشرفون إلا في ساعات الطعام وإستعمال المرحاض.
يتساءل البرنامج كيف تسمح القوانين الأردنية بذلك؟.. والجواب يمكن إستنتاجه من سيناريو التصوير السري فالقانون يعطي وزارة التنمية الإجتماعية الحق بالتفتيش وهو تفتيش غير فعال لا يطال (أهلية المشرفين) ويركز على اللوجستيات والمقرات فيما يعترف أحد المدراء السابقين بممارسة التضليل المتعمد ضد مفتشي الحكومة.
وبعد نقل معلومات عن سوء المعاملة والعقاب المدني في المؤسسة التي يملكها ويديرها ينفي زياد سكجها، مدير احد دور الرعاية التي تم تصويرها سريا، الأمر ويتهرب من الإجابات لكن في إحدى الدور كان واضحا أن الأطفال يطالبون دوما بالطعام مما يؤشر على تجويعهم فأمام الكاميرا السرية تسابق الأطفال على لقمة خبز ومنع أحدهم من تناول فتات الخبز عن الأرض كما منع آخر من تقليب سلة النفابات بحثا عن طعام.
ويجلس الأطفال حول منضدة فارغة لساعات رغم أن النشاطات الصحية والتدريبية ضرورة ملحة لحالتهم ووقفت إحدى المعلمات لأربع ساعات تتحدث عبر هاتفها المحمول وكانت توبخ أي طفل يأتي على أي حركة.
ويلاحظ التقرير بعد زيارة مركز أخر تديره الخبيرة في المجال ريم أبو سيدو ان الأطفال هنا يبتسمون ويتلقون معاملة جيدة وإهتمام وتشجيع وتوجد مناهج تعليمية وفنون إبداعية وجلسات علاج طبيعي وتقول أبو سيدو: نحرص على فرض الإنضباط لكن لا يوجد أي مبرر للعنف وفي المراكز الأخرى غير الملتزمة بهذه المواصفات حيث يترك الأطفال مقيدين لساعات ولا يستطيعون اللجوء للأباء والأمهات ويتم حرمانهم من الحب والعاطفة وللأسف المشرفون هم مصدر الإهتمام العاطفي الوحيد ولذلك يتسول الأطفال الإهتمام أحيانا رغم قسوة المشرفين.
والأخطر حسب ما يقدمه مضمون التقرير على بي بي سي هو المشكلة المسكوت عنها والتي يعتبر الحديث عنها من المحرمات وهي مشكلة الإعتداءات الجنسية حيث يحجم الجميع عن التحدث عن الموضوع لكن التحقيقات السرية كشفت العديد من حالات الإعتداء الجنسي فيما كانت أسر الضحايا مترددة بالحديث.
شقيقة إحدى الفتيات وافقت على التحدث شريطة عدم كشف هويتها وقالت بأن أختها تعرضت لإعتداءات جنسية من سائق حافلة وظيفته إعادة الأطفال إلى ذويهم وتقول نهى أبو حمد التي عملت مشرفة في إحدى الدور في الماضي: مشاعر العار تمنع العائلات من إبلاغ الأهالي عن الإعتداءات والخوف من الفضيحة يؤدي دوما للوم الضحايا وقد يصل أحيانا لمستوى جرائم الشرف كما تؤكد لبي بي سي الفتاة التي تعلم عن تعرض شقيقتها لإعتداء جنسي .
وبعد عرض جميع التوثيقات والتسجيلات يصر برنامج بي بي سي على أن نظام الرعاية في الأردن برمته يحتاج لمراجعة .. كذلك ثقافة المجتمع في التعامل مع الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة.
القدس العربي