وكم ذا بمصر من المفاجآت, ولكن العديد من هذه المفاجآت مؤسف ومثير للجدل, وغير سار علي الإطلاق, ففي الوقت الذي تطلعت فيه جموع المصريين والعرب بعد ثورة يناير.
إلي فتح صفحة جديدة ازاء القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي, تعزز الموقف العربي وتدعم حق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال والتمتع بالحرية والكرامة, طالعتنا الأنباء بزيارة نفر قليل من الأخوة الأقباط للأماكن المقدسة المسيحية في القدس, وقام فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة, بكسر الحظر المقرر من غالبية علماء المسلمين علي زيارة مدينة القدس الشرقية تحت الاحتلال.
والمفارقة أن هذه المفاجآت والزيارات لا تقف فحسب في تناقض مع ما خلقته الثورة المصرية من آمال وتطلعات ازاء القدس والأقصي والاحتلال الإسرائيلي, بل أنها تقف في تناقض مع تلك الاشارات والمواقف الوافدة من الغرب ازاء إسرائيل.
ولاشك أن مكمن الخطر فيما أقدم عليه فضيلة المفتي وبعض الاخوة المسيحيين يتمثل أولا في إضافة انقسام جديد بين أوساط الجماعة الوطنية المصرية, بين القلة التي تؤيد مثل هذه الزيارات من المصريين والعرب بناء علي رؤية سياسية مختلفة وبين الكثرة من المصريين والعرب الذين يرون في مثل هذه الزيارات نوعا من التطبيع, وتمثل هدية مجانية لإسرائيل, التي لم تقدم حتي الآن شيئا ملموسا للشعب الفلسطيني أو حتي اقرارا بحقوقه المشروعة في الدولة والقدس والعودة للاجئين بل علي النقيض من ذلك فهي تكرس الاستيطان وتقوم بتنفيذ مشروعات وخطط استيطانية جديدة وتتجاهل علي طول الخط استحقاقات عملية السلام.
من ناحية أخري فان هذه الزيارات تقف بحدة وتناقض مع ما استقر في ضمير الجماعة الوطنية المصرية بمختلف أطيافها السياسية والدينية وفي كافة العهود, عهد السادات, وعهد الرئيس السابق مبارك, حيث استقر في ضمير الجماعة الوطنية, خاصة بعد توقيع معاهدة السلام وتبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل, أنه بمقدور إسرائيل ان تنتزع الاعتراف من النظم والنخب الحاكمة التي استبدت بشعوبها عن طريق التفوق وامتلاك مصادر القوة المادية والسياسية وحاجة هذه النظم والنخب للعلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية, ولكن ليس بمقدور إسرائيل ان ترغم المواطنين والشعوب علي مثل هذا الاعتراف والقبول بوجودها وتبادل الزيارات معها.
اعتقدت الجماعة الوطنية منذ عام1979 ـ وعن حق بانه إذا كانت المعاهدة المصرية الإسرائيلية ضرورية لانهاء الحرب, فانها تستطيع ان تتمسك بالحد الأدني المبدئي والأخلاقي والسياسي المتمثل في مقاطعة إسرائيل, واعتبار ذلك حجر الزاوية في الموقف الوطني ازاء إسرائيل, طالما بقيت عدوانية توسعية استعمارية في المنطقة, وطالما تجاهلت حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وتستمر في مصادرة أرضه وتحويل حياته إلي جحيم والاصرار علي اخضاعه للمفهوم الإسرائيلي للسلام والذي لا يتوافق البتة مع قرارات الشرعية الدولية التي ارتضاها الشعب الفلسطيني وتقف إسرائيل حاجزا دون تنفيذها.
يستطيع فضيلة المفتي أن يقول أن هذه الزيارة للأقصي والقدس تحت الاحتلال دينية بحتة, كذلك يستطيع بعض الاخوة المسيحيين الذين حجوا إلي الأماكن المقدسة ان يحذو حذو فضيلة المفتي, أي القول انها زيارات دينية لا تمت للسياسة بصلة, ويمكن ببساطة الرد علي ذلك بالقول بانه حتي لو كانت مثل هذه الزيارات دينية ـ واعتقد أنها كذلك بالفعل ـ ولكنه مع ذلك فإنه يصعب الفصل ـ ان لم يكن يستحيل ـ بين ما هو ديني وما هو سياسي خاصة إذا ما تعلق الأمر بإسرائيل, التي تود أن يقتنع العرب المسلمون والمسيحيون منهم أنها تضمن حق المرور البريء للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية كبديل للمطالبة بتحرير القدس ومقدساتها من قبضة الاحتلال الإسرائيلي, وتمهيدا لقبول العرب التدريجي بالقدس الموحدة غير القابلة للتقسيم من وجهة النظر الإسرائيلية وهي الرسالة التي تحرص إسرائيل علي تقديمها للعالم والرأي العام العالمي والتي مفادها أن إسرائيل تحمي الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية وتضمن زيارتها للجميع.
من ناحية أخري ان اكتساب هذه الزيارات دلالة سياسية رغم ارادة القائمين بها, وبصرف النظر عن نبل وروحانية دوافعهم, يأتي من السياق الذي تمت فيه هذه الزيارات, فهي تجيء بعد الثورة المصرية التي فتحت الباب لتوقعات ايجابية, تتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية وإسرائيل وكأنها تعاكس هذه التوقعات وتبعث باشارة إلي من يهمه الأمر أن الأمور باقية علي ماهي عليه.
قد يفسر غياب ورحيل الأنبا شنودة الثالث ـ قدس الله روحه ـ بعض زيارات الاخوة المسيحيين, وخاصة انه لم يكن فحسب قيادة روحية ودينية ورمزية بل كان أيضا قيادة وطنية, وكان قد حدد منذ وقت طويل موقف الكنيسة المصرية من زيارة القدس وكان يوقع بعض العقوبات الكنسية علي من قاموا بمثل هذه الزيارات أثناء تقلده منصب البابوية. ولاشك أن زيارة فضيلة المفتي قد يكون لها ما بعدها في هذا الشأن إذ قد يري بعض المسلمين الاقتداء بفضيلة المفتي, وهو الأمر الذي لن يجد قبولا لدي مختلف القوي الثورية والسياسية خاصة في توقيت جمود عملية السلام وتعرض القضية الفلسطينية للخطر من جراء السياسات الإسرائيلية العنصرية والتوسعية.
ليس من الضروري ان يمر تدعيم القدس والقضية الفلسطينية عبر الزيارات التي تضيف إلي أجندة الانقسامات الراهنة بين المدني والديني وبين المدني والعسكري وبين الثورة والثورة المضادة انقساما جديدا, بل يمكن أن يتم عبر دعم المقدسيين ماديا وتنظيم الفاعليات الجماهيرية لدعم القضية الفلسطينية وحمل نظم ما بعد الثورة علي الافصاح عن حقيقة مواقفها تجاه إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي والتوافق مع رغبات وتطلعات المواطنين وإعادة دمج القضية الفلسطينية والمواقف الإسرائيلية ازاءها عن الأجندة المصرية والعربية الرسمية والشعبية.
إن تجاوز الثوابت الوطنية ـ أو ما بقي منها علي الأقل ـ والقفز فوق الاجماع الوطني ـ أو ما تبقي منه مع إسرائيل والقضية الفلسطينية, تبقي مقاطعة إسرائيل علي الأقل شعبيا إن لم يكن رسميا, باعتبارها الحد الأدني من المقاومة السلمية بعد أن سكتت المدافع وانتهي التفاوض إلي طريق مسدود, إن هذه الزيارات لا تمت بصلة لا من قريب ولا من بعيد تقيم البطولة والريادة أو اجتياز العقبات النفسية, حيث فعلها السادات قبل ذلك بنحو خمسة وثلاثين عاما ومازلنا أي المصريين نعاني وتراودنا الرغبة عن أنفسنا في إعادة النظر فيما ألزم مصر والمصريين به, وربما علي استحياء أيضا وسيظل الأمر كذلك حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا.