أخشى ما أخشاه أن ينتصر لدينا منطق العشيرة على منطق الدولة، وأنا هنا لا أقلل من الدور الاجتماعي الذي يمكن أن تقوم به العشيرة ولا من أهميتها وحضورها في تماسك المجتمع واشاعة مفاهيم المروءة والشهامة والتكافل بين ابنائه، ولكنني اشعر بالقلق حين توظف العشيرة لاغراض سياسية، أو حين يقتحم البعض – باسم العشيرة – مجالنا العام بشكل غير مفهوم، لا من اجل تعزيز قيم الدولة وقوانينها والاحتكام لشروط هيبتها وموازين العدالة فيها، وانما للاحتماء بالعشيرة منها، على افتراض ان العشيرة ند للدولة: تتناطح معها وقد تتغول عليها وتتصادم معها ايضاً.
واذا اتفقنا على أن العشيرة هي الاطار الاجتماعي الذي يجمعنا، وعلى انه من الطبيعي ان نعتز بانتمائنا لها كرابطة من روابط الدم والقرابة، فمن الأولى أن نتفق على أن “الدولة” هي الاطار السياسي الذي نتوحد فيه كمواطنين لا كرعايا، وعندها نكسب قيمة العشيرة دون أن نفقد معنى الدولة أو أن نستقوي عليها بأي شكل من الاشكال. لكن ما يحدث للأسف ان ثمة من يريد أن “يختطف” الدولة والعشيرة معاً، وأن يقايض أحداهما بالاخرى، وهنا لا بد ان ننتبه ونحن نطالب بالاصلاح ونرفع شعاراته الى ضرورة استعادة دور الدولة اولاً، فالاصلاح في حقيقته لا يتحقق الا في اطار “دولة” قوية تبسط هيبتها على الجميع، بمنطق القانون لا بأي منطق آخر، والفساد الذي نعاني منه ما كان يمكن أن يتسلل الى مؤسساتنا لو كانت “الدولة” تتمتع بما يلزم من عافية وحضور وهيبة.
اعرف أن ثمة الغاماً كثيرة تمنعنا من الدخول – بصراحة – على المشهد العام وما يجري فيه من اشتباكات وسجالات، لكن من حق الناس ان تستشعر خطر هذا الخلط بين المفاهيم والاعتبارات، وان تعبر عن هواجسها من صراعات “القوى” ومحاولات “التغطية” على الفساد تحت أي مسمى او اطار، ومن “توظيف” الخاص ضد العام والاستقواء على القانون.. وعلى الدولة ايضاً.
لا يمكن لمنطق الدولة ان ينتصر الا بسيادة القانون واستقامة موازين العدالة، وترسيخ قيم “المواطنة” الحقة التي تضع الجميع امام حقوقهم وواجباتهم سواء، ولا يمكن بناء تحول ديمقراطي حقيقي الا على قاعدة الانحياز لأعراف الدولة وتقاليدها، أما الاحتماء والهروب الى “مظلات” اخرى فهي “وصفة” للفوضى لا للاصلاح، وللمعاندة لا للتوافق، ولتعميق الازمة وإحكام انسداداتها بدل ايجاد ما يلزمها من مخارج وحلول وتفاهمات.
لا اتحدث هنا فقط عن “الملاذات” البديلة بمفهومها الاجتماعي القائم على رابطة الدم والقرابة، وانما ايضاً عن تلك “الملاذات” التي خرجت من رحم السياسة والاقتصاد، حتى أصبح لدينا “مجاميع” حزبية واخرى مذهبية وثالثة “مصلحية” ويا ليت انها درجت في سياق الدولة من جهة التقوية والانصهار والتكامل.. لكنها أصبحت عبئاً عليها وطرحت نفسها – احياناً – بديلاً عنها.. بل وفرّخت ما يعانيه مجتمعنا من ضعف وفساد وخيبة وقلة حيلة.