أما وأن العديد من التنظيمات السياسية الإسلامية قد وصلت إلى قاعات البرلمانات والى كراسي الحكم في بعض الأقطار العربية وأنها في طريقها شبه المؤكد للوصول إلى تلك المقاعد في أقطار اخرى, فانًّ العلاقة بين أسس الحكم كتعبير عن سلطة الدولة وأسس ممارسة السياسة في المجتمع كتعبير عن إرادة الشعوب أو الأمة من جهة وبين العقيدة والفقه والفكر الإسلامي من جهة أخرى لم يعد موضوعاً أكاديمياً وإنما أصبح شأناً مؤثراً بقوة في واقع كل جوانب حياة الناس اليومية, الشخصية منها والعامة. وفي المستقبل القريب سيصبح هذا الموضوع شغلاً من أهم شواغل الثورات والحراكات العربية في تجلياتها في الشوارع والسَّاحات وفي قاعات الحكم والتشريع والقضاء ومؤسسات المجتمع المدني كافة وفي كل وسائل الإعلام والتواصل.
ومن المؤكد أن الطرح الإسلامي لتلك العلاقة سيقابله وجهاً لوجه الطرح الآخر الذي هيمن سابقاً: طرح العقائد والمذاهب والفلسفات والأفكار والتجارب الأخرى غير الإسلامية. وهذا بالطبع سيجعل المشهد السياسي عبر الوطن العربي أكثر تعقيداً وامتلاء بالصراعات0 وكنا نتمنَّى لو أن هذا الموضوع قد حسم قبل مجيء ثورات الربيع العربي وما حملته من مفاجآت لم تكن في حسبان الكثيرين. هذه الصّراعات الفكرية السياسية ستكون عبثية وغير منتجة لو لم تأخذ بعين الاعتبار الجوانب التالية:
أولا: إدراك القوى الإسلامية السياسية بأن تاريخ الفكر السياسي الإسلامي, بما فيه السياسي الفقهي, اتَّسم بالفقر والتسطيح وأنه انشغل بحقوق وواجبات السلطان أكثر من اهتمامه بحقوق وواجبات الأمة وساكني المجتمعات. وكان أكثره شبه نصائح للسلاطين وولاة الأمر بدلاً من تأصيل لمجمل العلاقات بين الناس وسلطة الدولة. ولن تكفي الإشارة إلى بضع آيات قرآنية كريمة أو بضعة أحاديث نبوية لتكوين فكر سياسي يتصف بالشمولية والمرونة والفاعلية في مواجهة قضايا معقدة شائكة تواجهها مجتمعات عصرنا.إن تلك الآيات والأحاديث هي توجيهات أخلاقية وقيمية رفيعة المستوى ودافعة نحو سمو الحياة السياسية لكنها ليست نظريات ولا استراتيجيات ولا برامج ولا منهجيات ولا تنظيمات سياسية تعمل في الواقع اليومي وتغيره.
ثانيا: لكن في مقابل ذلك الفقر القديم يوجد تراث فكري سياسي إسلامي, فيه الكثير من الجدية والحيوية والعمق, تراكم عبر القرنين الماضيين. إن كتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والطهطاوي والكواكبي ورشيد رضا وعلي عبد الرزاق وابن باديس وخير الدين التونسي وخالد محمد خالد وحسن حنفي وط¯¯¯¯¯¯ه عبدالرحمن وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وفهمي هويدي وطارق البشري وعشرات غيرهم في طول الأرض العربية والإسلامية وعرضها, تزخر بمحاولات جدية مبهرة ناجحة لتأصيل فكر سياسي إسلامي يتصف بالشمولية والفاعلية والمرونة والتجديد اللازمين لقيام حياة سياسية بالغة الغنى والحداثة في أرض العرب والإسلام.
ثالثا: هناك التطور الكبير الذي دخل على الفكر السياسي الإسلامي عند الأحزاب السياسية الإسلامية نفسها وذلك عبر العقود الأخيرة. فتعبيرات من مثل الديمقراطية والدولة المدنية وحقوق الإنسان العالمية والتعددية السياسية والثقافية ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات أصبحت جزءاً من خطاب العديد من الأحزاب الإسلامية السياسية الكبيرة التي نجحت مؤخراً في اقتحام الحياة السياسية العربية بشكل مبهر. والمطلوب من هذه الأحزاب هو الاستمرار في تطوير فكرها السياسي من أجل التعامل مع الأوضاع العربية الجديدة من جهة ومع مسؤولياتها وواجباتها الثقيلة الجديدة من جهة أخرى.
رابعا: من جانب آخر فان المفكرين والكتاب الذين حملوا لواء الفكر السياسي الآخر, وعلى الأخص الآخر الذي ولد وترعرع وطبّق في الغرب الأوروبي والأمريكي, مطلوب منهم مراجعة ما تبنَّوه وما ادَّعوا انه الحل السحري المتكامل الذي يجب أن يتبنًّاه العرب والمسلمون. إن مهمتهم تحتاج أن تركز على إبداع القدرة على إغناء ذلك الفكر السياسي الإسلامي الواسع والمتنوع, بما لدى الآخرين من فكر وتجارب في حقول السياسة. المسألة ليست انتصار فكر على فكر أو إحلال فكر مكان آخر. المسألة هي تلاقح فكري خلاًّق لا يقفز فوق تاريخ وثقافة المجتمعات.
هل سينجح المفكرون والقادة السياسيون في أن يخرجوا هذه الأمة من المواجهات الفكرية العبثية التي تميَّز بها القرن الماضي, لرحاب الحوارات المغنية لحياتنا السياسية العربية, حتى لا ينقلب الربيع العربي إلى خريف أو حتى شتاء ? هذا هو أحد الأسئلة المطروحة في هذه المرحلة الجديدة بقوة على مفكري وقادة هذه الأمة التي أنهكتها المحن والإحن عبر القرون الماضية, وآن لها أن تهدأ وتستريح.