حين يبالغ الملاكم في التذكير بقوة عضلاته يعطي انطباعاً بأنه قلق، أو خائف من الجولة المقبلة، أو غير واثق من صلابة الأرض التي يقف عليها. ربما لهذا السبب يسرف في التحذير من المنازلة الكبرى. ويلمح إلى أنها ستفتح أبواب الجحيم. وستشعل المنطقة برمتها. وأن أحداً لن يكون بمنأى عن الشرر المتطاير. يشبه السلوك الإيراني في الآونة الأخيرة سلوك ملاكم من هذا النوع. الإعلان عن مناورات. جنرالات ومناظير. صور لصواريخ تنطلق وتأكيدات لدقتها في إصابة أهدافها. حديث عن إنتاج أجيال جديدة من الأسلحة. وحين تغيب المناورات وصور الصواريخ تنوب عنها التصريحات النارية.
تتصرف إيران وكأنها تحتاج باستمرار إلى درجة عالية من التوتر. ربما لأن هذا التوتر يحميها من تجاذبات وانشقاقات لا بد أن تطل إذا تراجعت احتمالات الصدام مع الخارج. مناخ التوتر يبرر الاتكاء على الترسانة والاستمرار في تطويرها. يبرر القول إن الأمة في حالة حرب وعليها التحدث بصوت واحد. هذا يعني إسكات المعارضين والمعترضين ومنع أي مطالبة بكشف حساب عن الأثمان التي رتبتها سياسات المجازفة.
تتصرف إيران وكأن الهدوء يقلقها. يلزمها بفتح الدفاتر الداخلية. بمواجهة أسئلة عن الاقتصاد والتنمية والحريات وجدوى السياسات التي بنيت على قاعدة الاستمرار في الملاكمة. غياب التوتر مع الخارج سيتيح للإيراني العادي فرصة للتأمل والتساؤل والاستفسار وربما الاستنكار. فبماذا يمكن أن يجيب المسؤول الإيراني لو سأله أحد مواطنيه لماذا صنعت تركيا دوراً إقليمياً مقبولاً أو مطلوباً وامتلكت القدرة على التحدث إلى الجميع ومن دون أن تنهك اقتصادها بأثمان المبارزات في الإقليم أو خارجه؟ ولماذا نجح حزب إسلامي تركي في اعتناق اللعبة الديموقراطية والفوز بترحيب إقليمي ودولي إلى حد اعتباره نموذجاً يحتذى؟ وماذا لو سأل المواطن الإيراني رئيس الجمهورية لماذا لم ترتفع في ميادين «الربيع العربي» شعارات الثورة الإيرانية أو صور الإمام الخميني ولماذا لم تعتبر التجربة الإيرانية نموذجاً وهل شيعيتها هي التي ترسم لها حدوداً لا يمكن تخطيها أم القاموس الذي اعتمدته في مخاطبة أهل الإقليم والعالم؟
الأسئلة كثيرة. ماذا لو سأل الإيراني لماذا لم تستطع الثورة وبعد ثلاثة عقود من تركيز دور إيراني مؤثر وفاعل ومقبول ما دامت كل دول المنطقة تسلم بحق إيران في مثل هذا الدور الذي لا يمكن أن يبنى على سياسات الاختراق والتسلل والقسر؟ ومن حقه أن يسأل عما إذا كانت محاولة إيران التحول مرجعية سياسية ودينية للشيعة العرب وضعتها في مواجهة مع الأكثريات في المنطقة وأربكت علاقات الشيعة العرب بالمكونات الأخرى في بلدانهم؟ ومن حقه أن يذكر أن فيتنام قهرت أميركا لكنها تحاول اليوم اجتذاب المستثمرين والسياح الأميركيين. وأن الاتحاد السوفياتي انفجر بفعل انزلاقه إلى سباق تسلح يفوق طاقته وأعباء رتبتها أدوار صراعية خارج حدوده.
يخيل للمتابع أن إيران خرجت خاسرة ومتوترة من سنة «الربيع العربي». ليس فقط لأنها اضطرت إلى الاصطدام بهذا الربيع لدى بلوغه الحلقة السورية بل أيضاً لأنها كانت مستفيدة من وجود أنظمة جامدة ومتهمة وغير شعبية خصوصاً في مصر. ففي غياب مصر أمسكت إيران بالورقة الفلسطينية وصار «يوم القدس» يوماً إيرانياً بامتياز. يمكن القول أيضاً إن إيران مهددة بخسارة حلفاء لم تبخل عليهم. صار باستطاعة خالد مشعل أن ينام مطمئناً في القاهرة. وصار باستطاعة إسماعيل هنية أن ينزل في مطار تونس ويستغرق في العناق مع راشد الغنوشي. أصحاب النوايا الخبيثة يقولون إن إصرار إيران على كسر التوازنات في العراق ولبنان ألحق ضرراً شديداً بعلاقات سورية العربية والدولية وطوى صفحة المثلث السوري – القطري – التركي.
خرج الملاكم الإيراني خاسراً من سنة «الربيع العربي». الانسحاب الأميركي من العراق قد يستدرجه إلى المزيد من الجولات والمواجهات. التهديد بإغلاق مضيق هرمز لا يحل المشكلة. يضاعف صعوبة معركة الدور ومعركة القنبلة. وسواء كان الملاكم الإيراني يبحث عن مواجهة أم أزمة كبرى للتفاوض، عليه الالتفات إلى نقاط الضعف الكامنة في قاموسه وعملته وترسانته.