،
لا نبالغ عندما نصف المرحلة المنتهية من تاريخ الاردن ، بانها كانت بحق مرحلة التجويف الوطني الشامل ، لابل اننا نؤكد بأن الفكر الذي ساد على مدى عشرين سنة ،كان يقوم اساساعلى مبدأ التجويف لكل الانظمة ،الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والادارية والامنية والسياسية، حتى عمّ التجويف سائرمجالات الحياة مع ما كان يصاحبه من تركيز لافت على الواجهات الخارجية لاغراض التمويه والتعويض والتحايل.
ففي تلك المرحلة المنفرطة ، شهدنا كيف ينهزم المجتمع الاهلي اولا وتنهار دفاعاته الجوّانيّة، فتنفتح كل الابواب الداخلية امام فلسفة التجويف التي سينجح اصحابها باعادة انتاج الاكاذيب والاوهام وتقديمها بثياب التحديث والتطويرومواكبة روح العصر،وشهدنا كيف حققت قوى التجويف نصرها السريع وفرضت سيطرتها في كل مكان بدون اية كلفة، فالمجتمع الذي كان جاهزا للانقلاب على نفسه ، تكفّل بدفع كامل تكاليف هزيمته وكامل تكاليف عملية تجويفه.
في تلك المرحلة كان الادعاء او الكذب المنظّم هوالسلاح السائد ، فالهدف عادة هو الذي يحدد نوع السلاح المستخدم لتحقيقه، لذلك نفهم كيف تم ابتداع ثقافة اخرى للاستعمال اليومي ، ثقافة تقلب المفاهيم من الداخل وتتيح بسهولة لكل من يرغب ان يتحلل من اي التزام ، ثقافة تشجّع على عدم القيام بأي فعل وتسمح بادعاء القيام بكل فعل، ترفع من قيمة الاسم وتقلل من شأن الفعل، تضخّم العنوان وتسخّف المضمون ، وهكذا ، وعبر وسائل الابدال والاحلال انتشرت هذه الثقافة الحشوّية الادعائية الشكلانية المتسّخفة على اوسع نطاق في المجالين الرسمي والاهلي حتى تشوهت كل الاشياء وحتى صارمن الممكن بدون أي حرج ان ننهى عن الشيء ونفعل مثله من دون ادنى شك بأنفسنا التي لا نضبطها الا لاصطناع التأدب والتهذيب كوسيلة تستدعيها احيانا مقتضيات الخداع والاقناع.
،في ايام التجويف نتذكران المعلوماتيّّة ستعيدنا الى حكم الاقطاع رغم اننا لم نعرف الاقطاع حتى في عصر الاميّة ، ونتذكركيف تم تحويل المؤسسات العامة الى اقطاعيات بقصد التحديث والتطوير ، وكيف جرى تقاسم السلطة والثروة والنفوذ بين اقارب الدرجة الاولى بصورة سلسة استجابة لدواعي الانفتاح وتحريرالسوق ، فحكم الابن مع ابيه والاخ مع اخيه والعم مع ابن اخيه والولد مع خاله وابن خاله والنسيب مع نسيبه ، وجيء بالاحباب والاصحاب والسكرتيرات السابقات تكريما لهم على حساب الاجاويد ، واذا ما سأل سائل عما يجري فالعذرهو نفسه الذي كان يعتبراقبح من ذنب في عصرالاجاويد!
في ايام التجويف صارالقانون جزءا من اختصاص دائرة الاثار، والاخلاق شيئا من الاكسسورات المناسباتيّة ، والعمل الحقيقي من اختصاص المغفلين ، والمال العام مباح لكل القادرين على نهبه او الراغبين ، حتى اعترف رئيس جهاز المحاسبة الوطني اخيرا بأن المكان المناسب لتقاريرجهازه هو قسم التاريخ ، وعلى صعيد اخرحسب اللغة المستعملة،تعمّ جرائم القتل العمد عبرما يسمى حوادث السير او القضاء والقدر، فيما الشرطة تدعوالاخوة المواطنين الى وعد لا وجود له ، والمواطنون يعرفون انهم ليسوا اخوة وان الشرطة ليست اختهم ، وينسى كل المعنيين ان المؤاخاة ،شيء لا يقدمه التلفزيون كالافلام.
لا مجال للتوسع بالشرح اكثرعن مرحلة فارطة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، مرحلة انتهت فعليّا عام 2008 حين شاطت طبختها واختلف لويثناتها ثم انحل مجلس نوابها المزور وانصرفت حكومتها الاخوّية تلقائيا، وانفتح الباب امام الناس لمباشرة حياتهم الحقيقية ، وفيما نحن لا نزال نعبر هذه المرحلة الانتقالية، ومن بين رهانات محدودة ، فان امامنا طريق ثالث ، هو طريق الوطنيّة العلميّة التي يحّن الناس الى نهجها وعصرها وربيعها وكل انجازاتها الحقيقية.
،فالاردن قبل الوطنيّة العلمّية لم يكن الا مجرد امارة تحت الانتداب ولولاها لطال امد الانتداب ، والاردن بعد الوطنيّة العلميّة سيتحول الى الحالة التي وصفناها سابقا ، اما في عهود حكومات الوطنية العلمّية فقد عرف الاردن معنى الدولة الحقيقية القادرة على مواجهة ذاتها ومواجهة الاخرين. فالوطنّية الاردنيّة العلميّة هي التي اقلقت سلطة الانتداب وهي التي تخلصت من انذار كوكس وتجاوزت خطط الاخوين كركبرايد ، وهي التي كشفت حقيقة الموظفين المستعارين من حكومة الانتداب في فلسطين وهي التي، ميّزت بين احرار العرب الحقيقيين وبين الملتحقين بالامارة بحثا عن الارزاق والمراكز ، وهي نفسها التي انتصرت للشرّعية وواجهت الهيمنة المصّرية ولم تذعن لانذارات الانقلابيين، وهي التي تحفظت على حرب حزيران وخاضت معركة سيادة الدولة ، وهي التي ارست قواعد المنهج التنموي الصحيح ، وهي التي حررت التعليم وعممت الخد مات ، والتزمت بمعايير الجودة والاحقيّة، وخضعت حكوماتها للمساءلة والمحاسبة امام البرلمانات الحقيقية.
الاتجاه الوطني العلمّي الاردني هو نتاج حركة الشعب ، الشعب المتحد بكل فئاته وشرائحه ورجاله ونسائه ، بدون منابت واصول ، فالاصل في هذا الاتجاه هو الفعل ولا ينوب فيه الاسم الاول عن الفعل ولا حتى الاسم الاخير، وفي الاتجاه الوطني يتآخى الناس في المؤسسات العظيمة وفي الميادين والمصانع والحقول لا في المناسبات فقط ، وفي النهج الوطني العلمّي يكون الاردن اولا بالفعل لا بالقول ، ونحسّ اننا كلنا الاردن من غير شرح ولا رسومات توضيحية.
والاجندة الوطنية في الاتجاه العلمّي ابسط من ان تكتب ، و هي قادرة ان تكتشف الطريق الثالث بنفسها وتطبّقه ، حيث نقرأ في ادبياتها عام 1966 (الدنيا لن تظل شيوعية ورأسمالية،الدنيا تقترب اكثر فأكثر الى خط ثالث في مفهوم الانتاج وفي مفهوم العدالة الاجتماعية.. ان مستقبل المدارس الاجتماعية والاقتصادية سوف يصل الى الطريق الثالث ، والعلامات واضحة وكثيرة من نظريات هبرمان في روسيا الى نظريات المجتمع الجديد في امريكا.. هذا هو خطّنا الذي لا تعرفه الرأسمالية ولا الماركسية ، والمستقبل هو للمدارس التي تتبنى انظمة شبيهة بالنظام الاقتصادي والاجتماعي الموجود في اسكندنافيا..)
الاتجاه الوطني العلمّي بابعاده القومية والاسلامية والانسانية الواعية خارق لكل الانتماءات الفرعيّة الموزّعة،وهو ديمقراطي بالضرورة ، وحكوماته تتحرك في الاطار الوطني الواسع المدى دون اي تفريط، بالقواعد العلمّية والقيم الانسانية النبيلة ، انه الاتجاه القادرعلى توحيد الناس وزجّهم طوعا في نهرالحياة المتدفق،عبرما يكرّس من معايير صحيحة تبعث الروح في كل الانظمة والمجالات ، وتطلق الطاقات المعطّلة في المجتمع، وفي النهج الوطني العلمّي لا ترهل ولا فساد ولا تمييز ولا استثمارعلى شكل نهب ولا نهب على شكل خصخصة ، ولا قصور الا في جبل القصور فقط .
،انه الطريق الثالث ، طريقنا الذي رسمناه بالعقل والخلق والدم، والتعب ، طريقنا ، الذي لا تعرفه الرأسمالية ولا الماركسيّة ، انه الان امامنا وليس خلفنا ونحن حين ندعو للوطنيّة العلمّية لا نحّن رجعيّا الى الوراء بل نتطلع الى الامام ، فالعالم المغبون كله الان في حالة مراجعة لما جرى ، وفي ادبيات الطريق الثالث لا عقيدة اسمى من الحقيقة ، ولا علم بدون ايمان ولا كذب يطغى على الصدق ، ولا حصانة لاحد امام ادوات النقد والتصحيح، ولاشيء من لاشيء ، فالبرنامج التنموي الاردني لم يتراجع ويتورط، في المأزق عام 1988 الا لانه خرج عن المبادىء العلميّة وتساهل في قضية الصّح والغلط ، وتراخى امام قوى الكذب والتزييف والتمويه ، وحكومات التجويف اللاحقة كان محكوما عليها بالفشل سلفا لانها تصرفت بوحي من رسول فلسفة نهاية التاريخ ، ولم تحسب حسابا لمكرالتاريخ، فالتاريخ لا ينتهي لكنه ينتقم احيانا لنفسه بنفسه!!