مخطئ من يتلكأ في الاستجابة الفورية لدعوة خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز، من خلال الدراسة والبحث الجاد في الطرق التي تأخذ الخليج إلى التكامل الوحدوي بلا تردد، الفكرة التي نادى بها الملك بشكل واضح وجلي في مؤتمر القمة الخليجي الذي انعقد الأسبوع الماضي في الرياض، الجميع مطالب تجاهها بوضع الأعمال بعد الأقوال موضع الفعل.
موروث القرن العشرين هو تفكيك الدول لا ربطها، بدءا من تفكيك الخلافة العثمانية في بدايات القرن، وانتهاء بالسودان وربما العراق في نهايته، مرورا بالدولة اليوغوسلافية في أوروبا، هذا التفكيك تم من أجل مصالح مختلفة، أغلبها أوروبي، واليوم نشهد الموجة الثانية من محاولات التفكيك عن طريق إحياء أفكار الانعزال الفئوي والطائفي أو العرقي، في لبنان يحدث ذلك التفكيك، واليمن يتوجه نفس الواجهة، وتغازل الفكرة أيضا في ليبيا، ولعلها ليست بعيدة عن فلسطين.
قليل من السياسيين يجيد تفسير التاريخ بطريقة صحيحة في ضوء حركته الاجتماعية وتفاعلاته والنظر إلى الأبعد قبل الأقرب، لعل الملك عبد الله واحد منهم، حين قرأ التاريخ بوضوح، كما قرأ ما يحدث حولنا من عمليات الهدم، وقدم خطابا جديدا ينقل دول الخليج من التهديد بالخروج من الوجود، إلى الوجود الراسخ، ومن النخر الداخلي إلى البناء الصلب.
ما يهدد الخليج اليوم هو بعينه ما هدد الدول التي تفككت أمامنا، أي نقل الصراع القائم بين المصالح والآيديولوجيات من الخارج إلى الداخل. هناك فلسفتان للحكم في الخليج اليوم، فلسفة «ولاية الفقيه»، التي تتغطى بالمذهب في الغالب لتتستر على مطامح «قومية» وتمرر على البسطاء مطامع دولة كانت، وما زالت، شهيتها مفتوحة للتوسع، وهناك في المقابل المتمسك بقوميته واستقلاله معا.
نقل الصراع من صراع خارجي إلى داخلي من خلال إحياء «الهويات المذهبية» العابرة للأوطان تحت شعارات شتى، هو ما نشاهد اليوم، وهو آلية التفكيك. في كفة بلاد لها ثقل بحجم سكاني ضخم كإيران، ولديها القدرة على بناء ترسانة عسكرية، تتوجه لتأكيدها من خلال الحصول على قوة ضاربة غير تقليدية، ولها أذرع في داخل النسيج المجاور، واضحة كما في العراق ولبنان وإلى حد ما اليمن، وخفية أو مستترة في مناطق أخرى. تقابلها، في كفة أخرى، بلاد صغيرة محدودة السكان ومبعثرة القدرات، لديها مخزون اقتصادي للطاقة يستهوي كل طامع طامح. ومن خلال إذكاء الصراع للعوامل الداخلية، وزيادة تناقضاتها، معطوفا على التجهيل بشعارات ملتبسة، ومغازلة العواطف المذهبية، تكتسب إيران قيمة مضافة للقوة التي هي في الأصل غير متكافئة، فيزداد احتمال التفكيك في الكيانات الصغرى إلى الأصغر، أو الإلحاق وسحق الهوية.
إذا أضفنا إلى ذلك عددا من العناصر الفاعلة، منها العربي والدولي، نجد أن الحاجة ماسة لتمتين اللحمة الخليجية لمواجهة التهاوي في الجوار والهروب للقوى الكبرى، حيث يتصاعد التهديد الحقيقي، وليس المتخيل، فهناك بلاد عربية كثيرة تجتاحها تغيرات هائلة سياسية واجتماعية، لا يمكن التنبؤ بنتائجها أو قراءة تحالفاتها المستقبلية، أو حتى الركون إلى رافعة استراتيجية تأتي منها على المديين القريب والمتوسط، كما كانت حتى وقت قريب.
في الموقف الغربي يكفي الاستشهاد بموضوع ظهر في كتاب بعنوان «الحصان القوي» للكاتب الصحافي الأميركي «لي سميث» مراسل الـ«ويكلي ستاندرد» في الشرق الأوسط، صدر العام الماضي، قال فيه شيئا لافتا للنظر، وقد يكون اكتشافا متأخرا لسوسيولوجيا الشرق الأوسط من جانبه، قال إن الغرب انقسم بعد الحرب العالمية الأولى في نظرته وتعامله مع شعوب الشرق الأوسط إلى مدرستين؛ الأولى الفرنسية التي رأت أن شعوب هذه المنطقة قبائل ومذاهب وطوائف (وقررت أن تتعامل معهم كذلك)، وأما الثانية البريطانية، فوجدت أن هناك أغلبية سنية في المنطقة، فتعاملت مع قياداتها كنخب قادرة على ترسيخ الاستقرار. ثم يكمل الكاتب أن أميركا اتبعت المدرسة الإنجليزية حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ثم انقلبت بعدها إلى المدرسة الفرنسية! هذه القراءة تفسر موقف الولايات المتحدة مما يحدث الآن، وعلى رأس ما يحدث هو صيرورة العراق السياسية! وموقفها العام المساند «للتفكيك»! لقد اكتشفت أميركا «بلاغة الطائفية في التفكيك»، كما اكتشفتها القوى الإقليمية، فسارعت إلى الاستفادة منها.
التوازن والاستقرار في الخليج لفترة مقبلة يحتاج إذن للتفكير «خارج الصندوق» كما يقال، وما يُدعى إليه اليوم (من انتقال من تعاون إلى وحدة) خطوة جادة في الطريق الصحيح. إن ما يدفع إلى ذلك ليس فقط (مطامع الدول الإقليمية).. ذلك مهم، ولكن أيضا استقرار ونمو المنطقة، فليس بخاف أهمية الاستفادة من تكامل القدرات الاقتصادية على النمو الاقتصادي، كما ليس بخاف أن اتساع الروابط بين مجمل قطاعات الإنتاج والخدمات بقدر من المرونة يحقق الانتفاع الاجتماعي المشترك، ويخفف بالتالي من الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تواجه دول الخليج فرادى. كما أن جاذبية التشابه تمكن هذا التجمع من لعب دور أكثر فعالية في المحيطين العربي والإقليمي، بل ويساعد في تخفيف حدة الصراعات الخفية والمعلنة، فالدعوة إذن استراتيجية وتأثيرها تاريخي لمن يمد بصره بعيدا عن موضع قدميه.
المؤسف أن قوى وتيارات في الخليج استقبلت فكرة «الانتقال من التعاون إلى الاتحاد» بشلال من التفكير السلبي تحت ذرائع مختلفة، لا يجوز لأحد بالطبع تجاوز حق النقاش الحر، ولكن واجب المناقشة يدعونا إلى القول إن التخوف الذي ظهر على السطح هو افتراضي، كالقول إن «الامتيازات التي حصلت عليها الشعوب سوف تُنتقص» وهو افتراض قاله البعض عند إعلان «التعاون»، ولم يتحقق على الأرض، كما أن الظاهر من القول يراد به التخويف، البعض الآخر يرى أن «التهديد الخارجي» هو نظري أكثر منه عملي، وهو أمر قال به بعض الكويتيين عشية التهديد العراقي في يوليو (تموز) 1990، ثم أصبح عدد غير قليل منهم لاجئين خارج وطنهم بين عشية وضحاها. بالطبع لا بد – من جهة أخرى – من إرسال إشارات واضحة لكل الفئات المواطنة في الخليج، التي قد يستفز البعض خوفها كونها أقلية، للتشكيك في الفكرة، أن ترسل رسالة إلى كل هؤلاء، بأن الجميع شركاء في الوطن الخليجي الكبير، وأنهم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني، ما دام الجميع متمسكين بالولاء للأرض.
آخر الكلام:
أمين عام البوليساريو يُنتخب للمرة الحادية عشرة، لم تسمع المنظمة ربما بعد بـ«ربيع العرب»، الذي لا يقبل «ديمومة الكراسي»! على الأقل في الظاهر.