غريب وعجيب أمر هؤلاء “السلفيين”، بعضهم أو بالأصح أكثرهم، حتى لا يغضب علينا من لا يزال منهم على التزامه واتزانه وتوازنه، حملوا على نظام الخيانة والعمالة و”الكفر” في مصر، وأحالوا البلاد إلى جحيم لا يطاق، وزرعوا بذور فتنة كادت (ولمّا تزل) تأخذ الأخضر واليابس، ولكنهم ما أتموا مراجعاتهم، حتى انتقلوا إلى خندق “تكفير الخروج على الحاكم”، ووقفوا ضد الثورة المصرية في بداياتها، قبل أن يقرروا “امتطاء صهوتها” عندما لاحت في الأفق إرهاصات انتصارها العظيم.وعندما أنصفتهم صناديق الاقتراع، بل وأعطتهم أكثر مما يستحقون، نسوا أنهم كانوا بالأمس يكفرون بالديمقراطية ويكفرون المنادين بها، إلى أن تغير الحال تماماً، فخلعوا “دشاديشهم” القصيرة وشذّبوا لحاهم، وأخذوا يظهرون على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام، متحدثين بغير ما اعتدنا أن نسمع منهم، هذا يطمئن العلمانيين بأن لا تكفير ولا تخوين، وذاك يهدئ من روح “الذميين” بأن شعرة واحدة منهم لن تمس أبداً، وهذا تطور محمود على أية حال، وإن كان يخفي في طيّاته كثير من “الانتهازية والبراغماتية”.[/p]لقد ذهبوا أمس الأول، بعيداً عن حدود المنطق والتوقع والخيال، عندما خرج زعيم حزبهم الرئيس، حزب النور، على أثير الراديو الإسرائيلي، ليعلن التزامه بمعاهدة كامب ديفيد بما فيه من التزامات وعلاقات وتطبيع وسفارات مع إسرائيل، وبصورة لم يفعلها سوى العتاة من أركان نظام حسني مبارك المخلوع، ضاربين عرض الحائط بركام من الكتابات والفتاوى عن “العدو اليهودي الصليبي”، و”دولة القردة واليهود”.
لكأننا أمام سباق يتعاظم على بعث رسائل الطمأنينة والاطمئنان، الإخوان المسلمون ما انفكوا منذ لقائهم الشهير بجون كيري في القاهرة، يوجهون رسائل التطمين للغرب ويؤكدون المرة تلو الأخرى على الالتزم بالمعاهدة والسلام والسفارة، والسلفيون يذهبون بأنفسهم إلى ضفاف التطبيع بل ويقارفون ما لم يجرؤ على مقارفته، أشد نشطاء السلام ومبادرة جنيف حماساً وتهافتاً.
غريب أمر هؤلاء الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً وصخباً ضد العلمانيين المُفرِّطين بـ”أكناف بيت المقدس”، المتخلين عن “الفريضة الغائبة”، فإذا بهم، وقبل أن تلتئم الجلسة الأولى للبرلمان المصري، يمهرون أسوأ اتفاقية سلام في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، تواقيعهم وأختامهم، ودائما تحت وابل كثيف من الصرامة الايديولوجية والإفتاء الصحيح الذي لا يأتيه الباطل عن يمين أو شمال.
كيف نصدق هؤلاء، وكيف نصدق زملاء لهم في مصر وخارجها، كيف نصدق “جهاديتهم” التي خاضت الحروب والمعارك على كل الجبهات ما عدا على جبهة “الأرض الوقف”، كيف نصدق هؤلاء في رطانتهم ضد الفساد والاستبداد، وهم الذي ما أن نقلوا بنادقهم كتف إلى كتف، حتى أصبحوا أفضل عون لنظم الفساد والاستبداد، وعندما انتقلوا إلى مواقع “جلاديهم”، استعاروا منهم أسوأ ما لديهم: لهاثهم الذي لم ينقطع لخطب ود الإسرائيلي والاستمساك بالمعاهدات المذلّة معه.
نحن لم نطلب، وما كنا نتوقع، من الإخوان والسلفيين أن يشرعوا صبيحة اليوم التالي للثورة إلى تمزيق المعادات وإغلاق السفارات وطرد (وسحب) السفراء، ولكننا لم نكن نتوقع أبداً، أن يبادر هؤلاء، وقبل أن يجلسوا على مقاعد الحكم والحكومة، إلى تقديم فروض الولاء، وكتب الاعتماد، إلى الغرب والولايات المتحدة، وبالذات إلى إسرائيل.
لقد بتنا نخشى على مصر والثورة المصرية حقاً، فبقايا النظام القديم، لم تعد محصورة أو متمركزة في المجلس العسكري الاعلى للقوات المسلحة، وبعض رموز النظام وأجهزته و”بلطجيته”، بقايا النظام وامتداده، تطل برأسها من ثنايا خطاب وممارسة بعض القوى والرموز “المنتخبة ديمقراطياً”، إنهم يعيدون إنتاج سيرة النظام البائد، ويجددون حضوره، ويواصلون التزاماته، على أن للنظام القديم عليهم ميزة، أنه لم يكن يوماً بـ”شموليتهم” وتطرفهم الثقافي والاجتماعي، وأخشى أن قبضته الأمنية، لم تكن على ثقلها، أشد وطأة على رؤوس المصريين من قبضة هؤلاء إذا قدر لهم أن يظلوا في مواقع السلطة والقرار.
التاريخ : 23-12-2011