من أكثر ثمار ثورة الربيع العربي نضوجاً, وضوح مفهوم الشراكة الحقيقية بين غالبية مكونات المجتمعات العربية في الثورة الشعبية الجماعية, ومن المفروض أن تصبح الشراكة قيمة عليا, تؤطر للعمل السياسي في هذه المرحلة التي تحتاج إلى جهود جميع الأطراف بلا مناكفة وبلا نزاع, وبلا إقصاء وإبعاد, وبلا استفراد بالسلطة.
من أهم سمات المرحلة السابقة التي قامت على حكم الاستبداد, وحكم الفرد الديكتاتور إلى ما لا نهاية, أنّها كانت تقوم على قيم الاستفراد بالسلطة وإقصاء الأطراف الأخرى وتهميشها وتغييبها عن الحياة السياسية والاجتماعية بل تعدى ذلك إلى المطاردة والنفي والاعتقال, وصحب ذلك هيمنة الحزب الواحد الأوحد على مفاصل السلطة ومكامن النفوذ القوّة وحصاد المال والثروة.
ولذلك يدرك الإسلاميون تماماً أنّهم أمام مرحلة جديدة مختلفة عن المرحلة السابقة بكلّ قواعدها وأركانها ومناهجها وقيمها وسماتها, يدركون تماماً أنّهم بحاجة إلى إرساء مبدأ الشراكة مع الآخر, وعدم ممارسة الإقصاء والتغييب للمخالف, وعدم التمسك بمنهج الاستفراد بالسلطة والعضّ عليها بالنواجذ, لأنهم إن لم يفعلوا ذلك فسوف تكون عبارة عن تكرار للمرحلة السابقة وتصبح العملية مختزلة بتبديل حزب بحزب, أو ديكتاتور بديكتاتور, وهذا ما يأباه الإسلام فكراً ومنهجاً ومقصداً.
فالإسلام جاء بمنهج إنساني حضاري واسع, يتسع لكل الاختلاف والتنوع في البشر, وهو سنة من سنن الكون التي لا تتغير ولا ينبغي مصادمتها, فالله عزّ وجل خلق الناس والموجودات مختلفة متنوعة متعددة, قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ, وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } (سورة فاطر:27).
وبهذا يدرك الإسلاميون تماماً أنّ قدرتهم على الإدارة يجب أن تتجلى في أقوى مظاهرها باستعدادهم لاستيعاب المخالفين واستيعاب مكونات المجتمع, بل وقدرتهم على جعل المخالفين شركاء أصلاء في الإعداد والبناء بكل مودة وبكلّ احترام وتقدير, حتى لو ملكوا الأغلبية أو الأغلبية الساحقة.
لقد أرسى الإسلام الخطاب الأصيل الموجّه لعامة الناس, وأراد أن يبني معهم مرجعية قيميّة تستند إلى العقل والمنطق, من أجل تسهيل الحياة وتقليل مساحة الخلاف المفضي إلى التنازع والشقاق ونكد العيش, ولذلك قرر وحدة أصل الخلقة للبشرية بأنّهم كلّهم جاءوا من ذكرٍ وأنثى, من أجل محاربة عقدة التمييز العنصري ومحاربة كل أنواع التمييز القائمة على اللون أو العرق أو الجهة..
كما جاء الإسلام ليقرر قاعدة عدم الإكراه في الدّين والايمان, فقال سبحانه:}لا إكراه في الدين{; من أجل استيعاب المخالفين في العقيدة, لتكون الحياة قائمة على الاعتراف بالآخر, والاعتراف بحقه في الاختلاف بكلّ شيء, حتى في مبدأ الايمان بالله, وطلب الله عزّ وجل من المسلمين أن يلتزموا بمنهج الحوار بالحجة والبرهان, والجدال بالحكمة والموعظة الحسنة, فقال تعالى: {قل هاتوا برهانكم}, كما قال تعالى:{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن}.
وفي المقابل هناك من يجادل أخذاً ببعض النصوص المجتزأة من سياقها, ليجعل منها منهجاً وقاعدة إسلامية, مثل أن يأتي ببعض الآيات المتعلقة بالمقاتلين أو المحاربين, دون فهم ودون فقه, ودون قدرة على جمع النصوص في المسألة الواحدة, من أجل الإساءة إلى المنهج الإسلامي في التعامل مع الآخر.
وإذا كان الحديث من خلال التجربة والواقع, فخصوم الإسلاميين هم الذين مارسوا الاستبداد, والتسلط, والاستفراد بالسلطة, واستعمال كل أدوات القمع والكبت, وكلّ أدوات النفي, وهم الذين لا يعترفون بالآخر, بل لا يعترفون بالكرامة البشرية, وتجردوا من المبادئ الإنسانية كلّها, وما زالوا حتى هذه اللحظة يمارسون على الإسلاميين حملات التشويه والحصار والتخويف, ووضعهم في قفص الاتهام, قبل أن يصلوا إلى السلطة أو يشاركوا فيها, ويستكثرون على الإسلاميين أن يمارسوا حريتهم كباقي البشر, وأن يمارسوا عرض فكرتهم, وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الديمقراطية وأوصياء على الحريّة, وأوصياء على لعبة الحكم, وهم يمارسون الفوقية واستغباء الشعوب إذا أقدمت على اختيار غيرهم, ويتمردون على نتيجة الانتخابات عندما لا يكون لهم فيها حظٌ ولا نصيب!!.
العرب اليوم