يخوض عون الخصاونة غدا معركة انتزاع ثقة مجلس النواب مستعدا لاحتمالات شتّى في مواجهة نواب يتمترسون وراء مقاومة شرسة معبئين بعدم رضاهم عن تشكيلة الحكومة, هواجس الحل المبكر, وتصريحات متسرعة أطلقها الرئيس وأركان في حكومته اعتبرت في حينه تعديا على دور البرلمان.
يصر القاضي الدولي لمحدثيه وزواره على أنه لن يستعين ب¯ (صديق) – والمقصود بذلك دائرة المخابرات العامة التي طالما تدخلت خلال السنوات الماضية لإنقاذ حكومات كانت آيلة للسقوط تحت القبة بعد أن تضخم دور المؤسسة الأمنية على نحو غير مسبوق خلال العقدين الماضيين
كما يؤكد في لقاءاته أنه لن يجازف بتقديم تنازلات على حساب سيادة القانون والحرص على معايير النزاهة والشفافية التي يعتبرها حجر الرحى في مسعاه لاسترجاع ولاية الحكومة العامة, فك تشابك السلطات, مكافحة الفساد واستكمال حزمة قوانين الاصلاح السياسي لضمان انتخابات تشريعية نزيهة تعيد ثقة الشعب بالسلطة التشريعية.
فالهدف الأسمى هو تضييق فجوة الثقة المرعبة بين مكونات الدولة الرسمية والشعبية والعمل بمطلق الحرية لقنص فرصة التحول على وقع الربيع الأردني, ما يتطلب حكومة قوية ومخابرات لا تعرقل عملها, وفق تشخيص هذا الرجل السياسي الوطني الذي يحمل فكرا تحديثيا.
يعرف تاسع رئيس حكومة في العهد الجديد حجم التحدي ويصر على أن مقياس النجاح لا يكمن في عمر حكومته وإنما في الانجازات النوعية الممكن تحقيقها عبر الاصلاحات التشريعية, بما يؤسس لمرحلة جديدة في ظلال الدستور ونظام نيابي ملكي وراثي يقف على مسافة واحدة من الجميع.
وهو شديد التأثر بتجارب رؤساء وزارات في بدايات التأسيس مثل توفيق أبو الهدى, كان لهم حضور قوي تعززه ولاية السلطة التنفيذية الكاملة وأحدثوا فرقا بتجربتهم السياسية بالحد الادنى من الروافع الديمقراطية والبرلمانية الفعالة.
في المقابل, لكن لا يبدو أن النواب التقطوا الرسائل الملكية الجديدة التي رافقت تعيين الخصاونة واللواء فيصل الشوبكي مديرا عاما لدائرة المخابرات, تاركا لهما فرصة ذهبية لتغيير نهج جلب الويلات للحاكم والمحكوم
نسوا ان الملك طلب من “الدائرة” التركيز على تحديث الجهاز وحصر دوره في المربع الأمني مع وقف التدخل في تفاصيل المشهد السياسي, البرلماني, النقابي, البلديات والجامعات.
خلال الأيام الماضية, اتصل عشرات النواب بمراجعهم الأمنية في محافظات المملكة للاستفسار عن الموقف والدور المطلوب منهم في جلسة الثقة. لكنهم سمعوا جوابا واحدا متماسكا شتّت بوصلتهم; “الدائرة لن تتدخل” بعد اليوم.
فالمعادلة التي حكمت العلاقة بين التنفيذية والتشريعية كرّست تقاليدا وطقوسا تنافي الأصول الدستورية, ومن الصعب عليهم تجاوزها قبل تغيير قواعد اللعبة السياسية عبر انتخابات نيابية حرة ونزيهة تنبثق عنها حكومة تمتلك الشرعية من مجلس ليس مزورا “على قد اليد”
بالطبع, لن تكون معركة الخصاونة مع “النيابي” سهلة في زمن لم يعد فيه الشعب يخشى سلطة أحد ولا يخاف من قول كلمة حق أو باطل. وهناك مآخذ كثيرة على بيان الحكومة على اساس أنه لم يفصّل وجهة نظرها حيال قوانين الانتخابات البلدية والتشريعية والحزبية.
بل, تتنامي خشية صانع القرار بأن يتعدى موعد إجراء الانتخابات التشريعية خريف ,2012 بعد أن أعلن الخصاونة أنه سيرسل مشروع قانون الانتخاب إلى مجلس النواب في آذار المقبل, ما يشي بعدم استكمال البنى الإجرائية والادارية والقانونية المطلوبة لاجراء الانتخابات في موعدها المقترح.
ترحيل الانتخابات إلى بداية 2013 قد يدفع باتجاه تفجير الأوضاع وحرمان البلد من فرصة نادرة لاستباق التحولات في سورية وتخفيف تداعياتها على المشهد السياسي الداخلي, حيث التيار الإسلامي الكتلة السياسية الأكثر تنظيما وحضورا في الساحة.
يشير نواب وساسة وحزبيون إلى أن الخصاونة سيفوز ب¯ 75 صوتا كحد أدنى.
لكن قبل الفوز, سيستمع وأعضاء حكومته حال – سائر الشعب – إلى ملاحم بطولية, طروحات ورقية وكلمات نقد حاد تطال الخصاونة وفريقه الوزاري الذي ينظر إليه باعتباره خاليا من روافع سياسية ومفاتيح برلمانية يحتاجها الرئيس في رحلة الاصلاحات المطلوبة.
وسيظهر مدى قدرته السياسية والشخصية على إدارة قرص النار لجهته سيما وأن احد المآخذ عليه قلة خبرته التنفيذية داخل الحكومة. فلم يسبق له أن عمل وزيرا. وما يزال يتعرف على تفاصيل المشهد الداخلي الملوث بعد ان قضى السنوات العشر الاخيرة في لاهاي نائبا لرئيس محكمة العدل الدولية.
لكنه صمّم البيان الحكومي بواقعية لكي لا يرفع منسوب التوقعات الشعبية كما حصل مع من سبقوه. فهو لا يؤمن ببيع الاحلام والاوهام من أجل كسب شعبية سياسية قصيرة الأمد مقابل تعميق خيبة أمل الناس.
ويراهن أيضا على خلو أعضاء فريقه من وزراء “موصومين بالفساد” ويأمل بأن تحسب حساب لائحة طويلة من المناقب الشخصية بما فيها نزاهته, نظافة اليد, المنطق القانوني, وبقاؤه خارج صراع مراكز النفوذ. ويصر على أنه لن يقبل بأي صفقة مع النواب تعطيه الثقة مقابل إطالة عمر المجلس إلى 2013.
لكن أجواء مجلس النواب ساخنة. والنواب يسنون سكاكينهم لاستعادة ثقة الشارع التي اهتزت كثيرا بعد ان تكشّفت أبعاد فضيحة تزوير انتخابات 2010 على اساس قانون “الدوائر الوهمية”.
وقد يماطلون قدر المستطاع لكي يؤجلوا حتمية حل المجلس مبكرا بعد استكمال قانوني الانتخابات والاحزاب
في الأثناء, يدرك النواب أن عليهم غسل أيديهم من خطايا كثيرة بما فيها فضيحة ال¯ 111 صوتا إلى حكومة سمير الرفاعي – قبل ان يقيلها الملك مع انبلاج فجر الصحوة العربية. ثم تبرئة رئيس الحكومة السابق معروف البخيت في قضية رخصة الكازينو مقابل منح جامعية وتعيين أقرباء ومحاسيب في الجهاز البيروقراطي المترهل. وبعدها طريقة التعاطي مع جهد التعديلات الدستورية وبطريقة ساهمت في صياغة منتج نهائي يرى فيه العديد من فقهاء الدستور ردة على سقف الوعود الملكية والمطالب الشعبية التي حدّدت العودة الى دستور 1952 كحد أدنى.
بعد رحلة الثقة هذا الأسبوع, سيبدأ الرئيس حواراته السياسية مع شباب الحراك الشعبي, والأحزاب والتيارات اليسارية والوطنية الأخرى لكي لا يفهم بأن التيار الاسلامي شريك حكومته الوحيد. وسيقدم خارطة طريق واضحة المعالم صوب خطوات الاصلاح السياسي.
في الأسابيع الأخيرة, لم يهدأ حراك الرئيس ولقاءاته مع النواب واعضاء الجبهة الوطنية كما جال في مؤسسات الدولة بما فيها هيئة مكافحة الفساد وتوعد بإرسال جميع الملفات الدسمة للمحكمة وطلب من ديوان المحاسبة نشر تقريره الاخير على موقعه الالكتروني. في موازاة ذلك يعمل على كسب ثقة صاحب القرار والاجهزة الامنية في معركة استعادة الولاية العامة.
لكن القليلين يعرفون أن الرئيس منع دخول رئيس وزراء سابق إلى تشكيلة الاعيان, مع أن هذه الشخصية كانت قد تلقت وعودا ملكية بذلك. عندما اندلعت المواجهات في الرمثا قبل أيام, زار الخصاونة أهل الفقيد بعد أن قطع الطريق على محاولة مستشار الملك لشؤون العشائر للتدخل في هذا الملف الملتهب قبله حيث أصر على أن هناك حكومة واحدة تعمل في البلد.
حراكه وانفتاحه على القوى السياسية ساهم حتى اليوم في حقن الدماء وحال دون جر البلاد إلى فوضى غير خلاقة عقب أحداث “سلحوب” و”ساكب”.
تركة الخصاونة السياسية ستتركز في تنفيذ اصلاحات سياسية ذروتها قانون انتخابات يطبق قبل نهاية 2012 ومحاولة السيطرة على الوضع الاقتصادي المتردي وعجز الموازنة المرعب.
تركة قد تكون بسيطة لكنها افضل من الاحلام والاوهام التي باعها غالبية من جلسوا على مقاعد الدوار الرابع ومن كانوا يديرون حكومات ظل خلال العقد الماضي.
نعم, باعوا الوطن والمواطن أحلاما وبرامج لبناء دولة جديدة أقرب للمثالية, لم تلمس آثارها الا القلة القليلة من البطانة, طبقة الكريما السياسية وحلفاؤهم من رجال المال والاعمال. أحلام ذهبت أدراج الرياح بعد أن جلبت المزيد من الفقر والبطالة وضخمت عجز الموازنات, زوّرت إرادة الناخبين ومأسست لتزاوج السلطة والفساد.
لا بد من إجراء الانتخابات قبل نهاية 2012 تحت مراقبة هيئة عليا محايدة ومستقلة, لأن ذلك طوق نجاة الأردن وسط أعاصير المنطقة ومدخل لتمتين الجبهة الداخلية وضمان حكومة بولاية كاملة مدعومة ببرلمان مستقل وسلطة قضائية مستقلة, وفي الخلفية دائرة مخابرات تقي البلد من الارهاب, وتوفر تحاليل واقعية وحقيقية عن التهديدات الداخلية والخارجية وتعمل “كبنك معلومات” للملك, ولرئيس الوزراء وغيره.
وهكذا يستبدل المثلث القديم — الحكومة, القصر والمخابرات — غير المتساوي الاضلاع بمثلث متكامل لا تتنافر أضلاعه لبناء الأردن الجديد.
العرب اليوم