عبرت ملامحه عن حزن عميق حفر في تفاصيل حياته اليومية، وعشش في دواخله منذ بعثر في المدى صرخ ميلاده، لقد نهض في ظل ظروف قاسية، وشب وسط اليتم والعوز والترحال في المكان والزمان، باحثاً عن ملتجأ ما، أو مصدر رزق يبقيه على مقدرة لعيش يوم إضافي، في واقع حافل بالبؤس، عندما يدفعه الشعر إلى مواجهة الظروف بروح رافضة بالواقع من أجل ظروف أفضل، فلقد كان متصعلكاً بهدوء المبدع، زاهداً بالحياة الدنيا، ومخلصاً لذويه الذين تمركزوا في وجود والدته (حنيفة) التي فقدت زوجها مبكراً وأصيبت بالشلل، فتكفلت به صغيراً، ورعاها شاباً وكهلاً وكأنما أوقف حياته عليها.
ترجح الروايات أن حسني الكيلاني أطل على الدنيا في العام 1910م، وهي فترة عانى فيه الناس ظروفاً صعبة وأحوالاً مضطربة، حيث كانت حاضرة البلقاء السلط في بؤرة الحدث، ومركزاً نشطاً في كافة المناحي، وكانت هي نفسها مسقط رأسه التقط فيها أنفاسه الأولى، وبث في فضائها صرخات الرضيع الخائف من ذاك المجهول القادم، وقد رجح البعض أن ولادته كانت في نابلس، ونظراً لما للمدينتين من صلات وتواشج تاريخ ملحوظ فأنه سواء ولد هنا أو هناك فالبيئة متشابهة، والأحوال واحدة، فوالده زيد الكيلاني مزارع صغير يحاصره الفقر وضيق ذات اليد، حيث كانت هذه حال الأسرة العاملة بيديها، ولم تكن لوالده صلة بالأدب، فلقد كان أمياً ومنهكاً بعمل لا بديل عنه، ومما زاد في قسوة الواقع ومرارة العيش وفاة والده وهو لم يغادر بعد سنته السادسة من عمره، فبقي مع والدته وشقيقه الأكبر رشيد الذي أصبح شاعراً معروفاً فيما بعد، ومعهم شقيقتهم ثريا، وقد تكفل بمساعدتهم جدهم رشيد في مدينة نابلس، ولعل هذا الواقع الجديد أثر في نفسية هذا الطفل حسني إلى حد كبير لاحقه طوال سني عمره التي امتازت بالتقلبات والاضطرابات وعدم الاستقرار. (معجم الأدباء الأردنيين).
لم تكن الأيام تخبئ ما هو أفضل، فيطل العمر بالجد وسرعان ما توفي، تاركاً أحفاده يواجهون مصيرهم، وسط ظروف قاسية ومربكة، مما أضطر هذه العائلة إلى ترك نابلس و الرحيل إلى السلط، مستعينين بخالهم الشيخ عبد الحليم الكيلاني، الذي كان إماماً ومفتياً للسلط، فهو من مد يد العون لأبناء أخته المعوزين، وقد استمرت إقامتهم حتى عمل شقيقه رشيد في الكرك فارتحلوا معه، وأقاموا فيها يتعكزون على بعضهم البعض، وقد طاب لهم الحال نسبياً في الكرك، وعندما تزوج الشقيق الأكبر، قامت العائلة بترحال جديد عائدين إلى السلط من جديد، وقد كانت السلط حينها مركزاً علمياً، وقصده الطلاب من كل مكان، وقد أتاحت له إقامته فيها الالتحاق بمدرسة السلط خلال الفترة من 1921م وإلى 1928م، وقد حال الواقع القاسي، والأحوال المعيشية الصعبة دون إكماله لدراسته، مما أضطره إلى ترك المدرسة والتوجه إلى مكابدة الحياة العملية في سن مبكرة، وهو ما تجلد عليه وأعد نفسه لمصاعبه.
تمكن حسني الكيلاني من العمل مدرساً في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث عين معلماً في الخليل، هذه الحال كانت مدعاة لرحيل جديد، فحمل حقائبه منتقلاً للخليل ترافقه والدته، فأقام هناك يعمل ويعيل والدته المريضة، وقد وصلت مدة إقامته فيها قرابة العشر سنوات، أي حتى حلول العام 1940م، عندما ترك الخليل وتوجه إلى عمان لا ترافقه في حله وترحاله غير والدته، وما عدا ذلك هو نهب للحزن والوحدة، ومحاط بالفقر ومرض أمه، وسوء الحظ، لكنه كعادته في الزهد والإخلاص والروح المتصعلكة، متمسك بالحلم وبالحياة البسيطة والعميقة في جوهرها، فكان شعره يمتح من هذا كله، ويؤنسه في مساءا ته وآلامه الدفينة.
في عمان كان يتلمس خطاه من جديد، وكان له شعر منشور في عدد من المجلات، وبما أن الأمير عبد الله بن الحسين كان شاعراً، ومقدراً لأهل الأدب، فقد بادر حسني الكيلاني بالاتصال به، وكتب شعراً في مدح سمو الأمير، وقد نشر قصائده هذه في ديوانه (أطياف وأغاريد) في باب هاشميات، وقد عينه الأمير عبد الله في الجيش العربي الأردني، برتبة كاتب مدني، وخلال هذه المرحلة ومع تقدمه بالعمر، تعاظم فيه الإحساس بالوحدة، وبدأت العبثية تتسرب إلى حياته، فكان كثيراً ما يهرب من همومه إلى التدخين المفرط، والمشروبات الروحية، وقد أثر ذلك على حياته العملية، فأحيل على التقاعد في العام 1960م، بعد ثلاث عشرة سنة قضاها في عمله المدني داخل المؤسسة العسكرية.
لم يهنأ حسني الكيلاني بتقاعد مريح يعوضه عن طفولة بائسة، أو عن شباب ضاع في الفقر وضنك العيش، فلقد لازمه سوء الطالع في كل مراحل حياته، بل وتفاقمت مع مرور الأيام، فبيته الصغير وغير الصحي الذي التجأ إليه في جبل القلعة، مع رفيقة دربه والدته المريضة، شب فيه حريق أتى عليه وكاد يقضي عليه، حيث أصيب بحرق دخل على أثره المستشفى، وعندما غادرها لم يجد مأوى، فسكن فندق البرج لفترة، عاد بعدها إلى جبل القلعة، وقد أصيب بمرض السكري الذي استفحل به حتى اضطر الأطباء إلى بتر ساقه اليسرى، وتردت صحته مع الأيام، فدخل المستشفى من جديد، قرر بعدها الرحيل إلى منطقة الأزرق في البادية الشرقية، حيث أقام فيها لمدة عامين، والعام 1977م انتقل إلى مدينة الزرقاء، وأستقر فيه المقام نسبياً في حي معصوم الزرقاوي، فلقد جاءه الرحيل النهائي هذه المرة، وتوفي حسني زيد الكيلاني في الزرقاء، في الخامس من أيلول عام 1979م، مختتماً الفصل الأخير من حياة هذا الشاعر والمكابد في الحياة، لتبقى ذكره الخجلة تذكر برجل، كان كما المعري، صابراً ومخلصاً وصاحب صعلكة خاصة، بقيه كحالة يصعب تكرارها.