بعد ظهر يوم مدرسي، كنت في المرحلة الالزامية، أحمل كتبي مغادراً قاعة الصف في مدرسة السلط الثانوية، باتجاه البيت، وكانت طريقي تمر بمقبرة الجادور المحاذية للمدرسة، ولمحت جمهرة من الرجال، بعضهم يغطي الطربوش الأحمر نصف جبهته ورأسه، وبعضهم يعتمر الكوفية البيضاء، وبعضهم الآخر حاسر الرأس، وقف عدد من الخطباء يؤبنون رجلا اسمه رفعت الصليبي. أثناء الدفن، كان من المؤبنين محمود الأفغاني، شاعر شباب فلسطين، كما يحب أن يلقب، قال:
أعينَيّ جودا بالمدامع جودا
ف رفْعَتُ عنكما أصبح بعيدا
وأبّنه سليمان المشيني وآخرون، كان احتشاداً غير طبيعي، وكان الأسى يطفح على وجوه رجال، بعضهم يبكي، وآخرون يتهامسون بحزن بالغ. قبل شهور من هذا التشييع أقامت مدرسة السلط الثانوية حفلاً خطابياً لطلبة المملكة، وكنت أحد الحاضرين، أُنظّم مع المنظمين، وأحمل الماء للعطاش في الحفلة، والقهوة المرة للمدعوين، أقدمها في فنجان السادة. قال لي صديقي الطالب الذي هو أسنّ مني، أثناء تشييع الجثمان: أتذكر الرجل الذي يلبس القبعة العراقية الذي أعلن نتائج الحفل الخطابي قبل شهور؟ قلت: أذكر شاباً أسمر الجبهة، تغطي رأسه قبعة هرمية سوداء، قرأ النتائج بنبرة فصيحة، وثقة الممتحن الواثق، وغابت صورة الرجل. قال: إنه هو الذي يؤبنه المؤبنون على هذه المقبرة! داهمني حزن شفيف، وكان الطالب إسحق الفرحان (الوزير لاحقاً) قد فاز بالمرتبة الأولى في الحفلة المذكورة بقصيدة مطلعها:
مالي وللنجم يهواني وأهواه
أضحى كلانا يعاف الغمضَ جفناهُ
وعندما كنت في سن العشرين، أتيح لي أن أزور بهجت الصليبي شقيق الشاعر، واطلعت على ديوان رفعت الصليبي بخط الطباعة، وتعرفت على تجربة شعرية مبكرة، وموهبة لامعة لم يُكتب لها العمر الطويل، وسمعت من خالد الساكت ثناء وتقديراً أدبياً على شعره، وقلما يثني خالد الساكت على عمل أدبي، فله معياره النقدي الخاص، واتفقنا على أنه موهبة أدبية رحلت مبكراً، ولم تقل الكلمات التي تملأ فمها، وحالت الطلقات الطائشة في رحلة صيد دون أن تثري الحركة الشعرية الأردنية بطعم شعري متقدم، يليق بالوطن، فكان كشجرة تين سلطية، انقصفت قبل أن تعطي الثمار الفجة التي تحتشد على أغصانها، وتحولها إلى ثمر شهي ناضج.
وُلد الصليبي في مدينة السلط، وتخرّج في مدرستها الثانوية التي كانت حاضنة لأبناء الأردنيين الأذكياء، والتحق بالجامعة السورية (دمشق حالياً)، ودرس الحقوق، وعمل في المحاماة، وشدته الحركات الوطنية والأدبية، وعمل مع عرار (مصطفى التل) في مكتب واحد، ثم انتقل إلى القضاء وعُرف بالنزاهة، وتحري الحقيقة، ومناصرة المظلومين، قال الشعر منذ صباه، وقاد الحركة الأدبية في الأردن، وأنشأ الندوة الأدبية التي ضمت أدباء الوطن العربي في مرحلة مبكرة من عمر الأردن.
دفعته حساسيته ووعيه وقلقه المعرفي، وحبه للجمال، إلى مراقبة الأحداث حوله، فكان هادئاً صامتاً، رافضاً للسائد من العادات غير المسوّغة، حفاظاً على منظومته الثقافية، عانى كوابيس التخلف والحماقات، وثار على تدني الوعي، وكان يحاور بترفع وصلابة، وتواضع المفكر الذي يتشظى ألماً، ورغبة بنقل الناس إلى مجتمع الحضارة الحديثة، رحل في الثلاثين من عمره، وترك ديواناً مخطوطاً غنياً بألوان الشعر، وأغراضه، نشر معظم أشعاره في صحيفة الجزيرة التي أصدرها تيسير ظبيان، وتناثرت موضوعات شعره بين الحب والوطنيات، والنكبة الفلسطينية وحب الطبيعة والرثاء والإخوانيات، وشعره يجنح للفصحى، وذلك لتأثره بالشعراء العرب من جاهليين وأمويين وعباسيين، وتطغى الرومانسية وهواجس الذات في شعره، يقول:
غنّ فديتك غنّ..
قد ضاعف البينُ حزني..
وقرّح الدمع جفني..
وبتُّ أشكو التجني..
غنّ لعلّي أسلو..
بانت ديارٌ وأهلُ..
يا ليت يجمع شملُ..
ويسمع الصبُّ لحني..
@@@
وسبق للدكتور سحبان خليفات أن قدم دراسة متقدمة عن شعره، نشرتها دائرة الثقافة (1987)، ويتجلى الوطن في قصائده التي ترشح غيرة على العرب، فالفدائي، وفلسطين، والشباب العربي، وسوريا، ولبنان، والمقاومة، موضوعات خطابه الشعري، يعالج موضوعاته بالأسلوب الشائع في عصره دون تجديد في أدواته وأساليب نسجه الحديثة، فلم يكن يتوقع الانهيارات السياسية، وتهشّم الروح الانهزامية، وضيق الهوية، وتشرذم الآراء. حمل الهمّ الاجتماعي، وشقاء الناس، ومعاناتهم، وتلمس سبل الخلاص، والتفكير بمشروع نهضة الوطن، وغياب المؤنسين والمواسين، ويضج لفقدان صديقه عرار فيصرخ باكيا:
آسفاً لقد طُفئ السراجْ
بليلةٍ، وخبا الشهابْ
وانفض عقدُ السامرين
فلا غناء، ولا شرابْ
قد عشت موفورَ الكرامة
سامياً فوق السحابْ
وشفعت للضعفاء في
البلوى ولا ترجو الثوابْ
@@@
رأسَ الصليبي الندوة الأدبية، وجمع حوله بذور الوعي الأدبي، وطلاب الثقافة، ومنهم حسني فريز، وعبدالحليم عباس، وناصر الدين الأسد، ومحمد سليم الرشدان، وصبحي القطب، فكانت مجالس وعي، ويقظة ثقافة. صهرته وعذبته نكبة فلسطين وحرمان اللاجئين من بلدهم، والقذف بهم في الخيام، فيشير بيده بلسان اللاجئ الطريد، وهو الشاهد على هذه المرحلة:
هناك بذلك القلم
منازلُنا من القدمِ
ترى عيني مرابعها
ولا تسعى لها قدمي
@@@
لم يستوعب رحيل الأصدقاء، فيشتعل في ذهنه التساؤل عن سر الموت:
قل لي بربك ما وراء
القبرِ ما تحت التراب؟
ويصرخ في لحظة تفكير موجع، بعد أن لاح له في الأفق طيف فكرة، وبعد شعوره بعقم الحياة، وقبضة الموت المترصد الداهم:
أنا لست أعبأ بالفناء
ولا أفكر بالخلود
أنا فكرة حيرى تسير
بذا الفضاء كما تريد
@@@
ويستمر في تأمله في رحلة الحياة، مع أنه فتى ثلاثيني، لم يبلغ خريف العمر، حيث تستوطن الحكمة الإنسان، ولعله تأثر بعمر الخيام، يقول:
لا كائن يبقى بهذا الورى
بل يخلد الحب وتبقى الصور
غداً يجف الزهر في روضه
وينضب الماء ويعرى الشجر
ويقفر الوادي فلا مؤنس
فيه، ولا صبٌّ يناجي القمر
والبلبل الغرّيد، واحسرتا
يطويه صرف الدهر فيمن غبر
@@@
يراقب الصليبي حركة سلوك الناس المريبة، فيقارن بينها وبين الحيوانات المفترسة:
وذئاب الأنام أضرى من الذئب.
وامضى في الفتك ناباً وظفراً.
لو أتيح ل رفعت أن يعمر طويلاً، لكان قامة عربية عالية في الشعر، وقامة أردنية لامعة، تسهم في بناء الوعي الأدبي في الأردن.