كان الاردن جزءاً من سوريا، ويشكل المحافظة الجنوبية التي رأسها رضا الركابي الذي اصبح فيما بعد احد رؤساء الحكومات الاردنية، وبعد احتلال سوريا الشمالية بشقيها (سوريا ولبنان) وخضوع فلسطين للانتداب البريطاني الذي ابتدأ كاحتلال، بادر اهل شرق الاردن في محاولة منهم لتنظيم انفسهم بتشكيل حكومات محلية لادارة المناطق كانت على النحو التالي :-
حكومة اربد: وكان القائمقام فيها هو علي خلقي الشرايري يتولى شؤون الادارة .. وقد اوفد هربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين الميجر سمرست (Summerset) الى اربد وعقد اجتماعاً في ام قيس اسفر عن معاهدة او اتفاقية، هي في الحقيقة مجموعة مطالب تعبر عن الرغبة لدى اهل شرق الاردن في تنظيم شؤون شرق الاردن وتأسيس المناطق والادارات لتنتظم في دولة برئاسة امير عربي هاشمي
حكومة السلط: استمر في شؤون الادارة فيها مظهر رسلان، وهو نفسه الذي كان قائمقام السلط في اثناء العهد الفيصلي، وقد ساعده الميجر كامب(Camp) في شؤون الادارة اضافة لمجلس منتخب ضم ممثلين عن السلط ومادبا وعشيرة العدوان.
حكومة الكرك: وقد تولى الادارة فيها الشيخ رفيفان المجالي، وقد بدأ بممارسة اعماله بعد انتهاء الحكم الفيصلي في دمشق، وقد ارسل هربرت صموئيل مندوباً هو الميجر كلنفيك (Clinvick) الى الكرك للمساعدة في تنظيم الامور... وقد جرت انتخابات في الكرك تشكل اثرها مجلس اطلق عليه اسم المجلس العالي مؤلف من الشيخ رفيفان المجالي والشيخ حسين الطراونة وسلامة المعايطة والخوري عودة الشوارب وعبدالله العكشة ونايف المجالي، ومثلّ الطفيلة موسى المحيسن وعبدالله العطيوي.
وتشكلت مجموعة اخرى من الحكومات المحلية وهي لا تقل اهمية لدورها الكبير وهذه الحكومات:
حكومة دير يوسف: وقد شكلها كليب الشريدة
حكومة عجلون: وقد شكلها الشيخ راشد الخزاعي
حكومة جرش: وضمت قضاء جرش وعشائر بني حسن وناحية المعراض وتم تعيين محمد علي المغربي كقائم مقام لها ....
حاكمية الرمثا: وهذه كانت على شكل ناحية وقد كانت تابعة لحوران ثم الحقت بقضاء عجلون الذي كانت اربد جزءا منه وقد تولى ادارة هذه الناحية السيد ناصر الفواز الزعبي .
حالة الاردن العامة في عهد الحكومات المحلية
لقد كان الحال في شرق الاردن بعد انفصاله حكما عن مركز الادارة العاصمة في دمشق مضطرباً، والرؤيا المستقبلية غير واضحة، وكثرت التوقعات التي تحمل في مجملها التشاؤم والقلق، ولم تكن هذه الحكومات والادارات المحلية لتستطيع القيام باعباء الحكم المتكامل... اضافة الى ان نواحي البلاد اخذت تشهد اضطرابات وتشكيل حكومات وادارات قبلية مختلفة في اطراف البادية الاردنية وهذا أثر وزاد الامر سوءاً...
ولعل الوضع العام لهذه الحكومات لا يمنحها القدرات اللازمة، ونستطيع أن نصف هذه الحكومات كما يلي:-
اولا: لا زالت رواسب الخلافات العشائرية سائدة بين القبائل وهذه تؤثر في التأييد او القبول لانماط الزعامات المختلفة ، ويعني استمرار الخلافات الداخلية ....
ثانيا: عدم توفر اهم ادوات الحكم وهي القوة العسكرية التي تستطيع حماية الحدود والحيلولة دون العبث بالامن ....
ثالثاً: كانت الفترة التي هي بين انتهاء الحكم الفيصلي في 24 تموز 1920م وحتى بدء الاتصالات مع سمو الامير عبدالله بن الحسين ووصوله الى عمان في 2 اذار 1921م فترة تصفية حسابات عشائرية او انكفاء لعادات وولاءات سابقة وقيادات ضعيفة استندت على اسس من العشائرية والعصبية القبلية .
رابعاً: لم تكن هناك انظمة وقوانين او دستور يحكم بموجبه بل كانت تشريعات تستند على القضاء البدوي التي تعجز عن اعطاء الحق لضعيف او الفصل في القضايا الادارية الاخرى.
ان البحث في شرق الاردن في فترة الشهور السبعة التي سبقت وصول الامير عبدالله الى عمان يلقي الضوء ليس فقط على الجانب السياسي والاداري وانما على الجانب الاقتصادي والتربوي حيث كان هذا الجانب مغيباً تماما في ظل الانشغال بقضايا الزعامات والخلافات القبلية .. ولكن رغم كل ذلك فقد اجتمع الاردنيون واجمعوا على مصلحة البلاد وضرورة ان تكون هذه الديار بلد الخير والوفاء مثلما هي اصلا بلد الشهامة والاصالة...
هذه الحكومات المحلية لا تستطيع ان تقوم باعباء الحكم لافتقارها اصلا الى مقومات الدولة وعناصر الادارة الاولية... وهذا الحال انما هو نتيجة بقاء سوريا الجنوبية بلا ادارة او سلطة مباشرة فكانت المبادرات من اهل شرق الاردن لتنظيم شؤونهم وكان ذلك الاجتماع الذي رسم ملامح الدولة المستقلة للاردن في ام قيس في الثاني من ايلول 1920م.
عينت بريطانيا هربرت صموئيل مندوبا ساميا في فلسطين في شهر حزيران 1920م الذي بدأ اتصالات واسعة مع الزعامات العربية في شرق الاردن واستقباله للوفود العديدة منهم للبحث في شؤون البلاد، بعد الفراغ السياسي والذي نتج بمغادرة فيصل بن الحسين المنطقة في شهر آب 1920.
وللحقيقة فانه قبل مغادرة فيصل بن الحسين ميناء حيفا فقد وفد اليه العديد من شيوخ المنطقة ليستشيروه في العديد من القضايا، فكان نصحه بان يقيم اهل البلاد ببلادهم وان يتعاونوا مع الانجليز للارتقاء وللوصول للاستقلال التام، فقد كان مع فيصل بن الحسين في حيفا علي خلقي الشرايري الذي طلب منه فيصل ان يعود الى اربد ليحافظ على الاتجاه الوطني هناك وينظم شؤون منطقته، وكذلك زاره الشيخ رفيفان المجالي متصرف الكرك وطلب منه مثلما طلب من علي خلقي الشرايري...
وليس ذلك فحسب بل حمل الشريف محمد علي البديوي رسالة من الامير فيصل الى ميرزا بك في عمان والتي يأمل الملك فيصل ان تكون مركزاً للمقاومة الوطنية ضد الفرنسيين، وقد كانت رسالة فيصل شفوية تشرح ما يجب عمله، اما نص الرسالة فكانت قصيرة وكما يلي:
الاعز ميرزا بك رئيس عشائر الشراكسة . حامل هذه الرسالة الشريف محمد علي بن البديوي، وقد اخبرناه بما يلزم من الراس . المطلوب الاعتماد على اقواله كما هو المأمول...
نشطت الاتصالات الشرق اردنية مع بريطانيا من خلال المندوب السامي هربرت صموئيل ، هذه الاتصالات التي دفعت صموئيل لزيارة شرق الاردن حيث وصل الى السلط يوم 21 اب 1920م واجتمع بحشد كبير من عشائر الاردن في الجنوب والوسط والشمال ، تحدث الاردنيون فيه عن مطالبهم وحاجتهم لانهاض البلاد " وتجنيبها احتمالات الغزو او التجزئة .....
جاء هربرت صموئيل الى السلط بعد سلسلة من الاجراءات التي تمت من قبل، فقد ابرق للامير فيصل بن الحسين وهو في ميناء حيفا وقبل مغادرته ببرقية هذا نصها:
" اود ان ابلغكم انه بعد حوادث دمشق التي وقعت في الشهر الماضي، زارني بعض مشايخ شرقي الاردن، وطلبوا انشاء ادارة بريطانية، وردتني رسائل من عندهم ومن بعض اعيان السلط بهذا المعنى. ولما كان الاتفاق المعقود بين الحكومتين البريطانية والفرنسية يقضي بان تكون البلاد الواقعة جنوبي خط سايكس بيكو ضمن منطقة النفوذ البريطاني لا الفرنسي، فالحكومة البريطانية تميل في هذه الحالة الى تعيين عدد قليل من الضباط لمساعدة اهل شرق الاردن على تنظيم حكومتهم ووسائل الدفاع عنها. ولذلك دعوت زعماء البلاد من عجلون شمالا الى الطفيلة جنوبا لمقابلتي في السلط يوم السبت القادم للمشاورة في الامر"
ان هذه البرقية تلخص امرين هما:
اولاً: ان بريطانيا تحترم العرش الهاشمي ومكانته بين العرب، وتدرك احترام العرب ووفاءهم وولاءهم لهذه القيادة التي قادت حركة النهضة العربية.
ثانياً: ان بريطانيا ادركت رغبة الاردنيين في تنظيم انفسهم وانشاء الدولة منعاً لوصول الاطماع التي بدأت تلوح في الافق...
من هنا كان الاجتماع في السلط كما جاء في مضمون برقية هربرت صموئيل "وكانت كلمته التي تحدث بها في الاجتماع كما يلي:-
"منذ وقوع الحوادث الاخيرة في دمشق زارني في القدس كثيرون من مشايخ واعيان بلاد شرقي الشريعة ، واخذت رسائل من غيرهم ومن بعض كبار رجال مدينة السلط وقد التمسوا مني ان اسعى في امتداد الادارة البريطانية الى هذه البلاد، حيث انكم تعرفون ان الحكومة البريطانية اتفقت مع الحكومة الفرنسية ان لا يكون لها حق المداخلة بها قطعياً ....
من مدة قصيرة تلقيت برقية من لندن تفيد ان الحكومة الفرنسية قد ثبتَّتْ نفوذها في الشام فلذلك اصبح من اللازم فصل هذه المنطقة عن ادارة حكومة الشام ...ويستكمل هربرت صموئيل حديثه مع اعيان شرق الاردن:
"ستسألوني ما هو نوع المساعدة التي تقدمها لكم الحكومة البريطانية، انها لا تقصد إلحاقكم بإدارة فلسطين بل تريد تأسيس ادارة مستقلة تساعدكم على حكم انفسكم، وسيرسل لكم عدد قليل من المعتمدين السياسيين ورجال القضاء من ذوي الحنكة والدراية والمعرفة التامة بالاهالي وباللغة العربية من الذين تعرفون اكثرهم شخصيا، ليكونوا في مدنكم الكبيرة، ويساعدوكم على تنظيم القوات للدفاع عنكم امام اي تعد من الخارج، وتنظيم الدرك المحلي لتأكيد النظام وترويج التجارة السليمة، ان هؤلاء المعتمدين ينظرون في امر تنفيذ العدالة وانفاق الضرائب التي تدفعونها بامانة في سبيل احتياجاتكم، ويشاورونكم في الغايات التي تصرف الاموال لاجلها، وفي امر تحسين وتصليح الطرق وبناء المدارس وترتيب الرعاية الطبية..."
لقد كان هذا الاجتماع البداية لائتلاف اردني ينسج الوحدة الوطنية والاهتمام بكل قضايا المنطقة، فلا غرابة في ان يطالب الشيخ سلطان العدوان والشيخ رفيفان المجالي بالعفو التام عن الشيخ امين الحسيني وعن عارف العارف في نفس الاجتماع ويحصلا على ذلك ويتقدم عارف العارف ليتحدث في نفس الاجتماع ليشكر اهل شرق الاردن ويشكر المندوب السامي البريطاني....
لقد ارسل هربرت صموئيل توصياته وارسل ايضا رسالة للملك جورج الخامس بتاريخ 12 ايلول 1920م يصف الاوضاع في شرق الاردن يكرر فيها ما جاء في برقيتهِ لفيصل بن الحسين في حيفا وكذلك ما جاء في حديثه في اجتماع السلط ومداولاته مع شيوخ العشائر الاردنية.
عاد هربرت صموئيل الى فلسطين تاركا الميجر كامب (Camp) والكابتن برانتون (BrEnton) ومعهما 12 شرطيا من فلسطين وفي مصادر اخرى ذكرت انه ترك 50 شرطيا للاسهام في تنظيم شؤون البلقاء.
مؤتمر ام قيس: وعي عربي اردني مبكر
دفعت الاتصالات والمشاورات اهل شرق الاردن للعمل بشكل جدي وسريع فتداعوا لاجتماع ام قيس الذي حضره الميجر "سمرست" كمندوب عن المندوب السامي البريطاني في فلسطين والذي كان مقيما في طبريا حينها، وقد توصل المؤتمرون لاتفاق عرف باسم معاهدة " ام قيس" في 2 ايلول 1920م، اي بعد عشرة ايام تقريبا من اجتماع السلط الذي كان في 21 اب 1920م، وقد تشكلت المعاهدة من "16" بنداً تعكس الرؤيا البعيدة لأهل شرق الاردن ووعيهم السياسي، وحسِّهم الوطني وغيرتهم على الارض العربية جميعا، وتاليا بنود هذه الاتفاقية التي دعت لانشاء حكومة عربية واضحة الحدود.
اولاً: ان يكون لهذه الحكومة امير عربي.
ثانياً: ان يكون لها مجلس عام للادارة وسن القوانين.
ثالثاً: ان لا يكون لها ادنى علاقة بفلسطين.
رابعاً: الدعوة لمنع الهجرة اليهودية منعاً باتاً ومنع بيع الاراضي لليهود ايضاً.
خامساً: ان يكون للحكومة جيش وطني.
سادساً: للحكومة وحدها الحق في ابقاء السلاح مع الاهلين او تجريدهم منها...
نلاحظ في هذه البنود الست التصميم على استقلالية شرق الاردن في وحدة ارض لها جيش يدافع عنها، في جوار ارض عربية اخرى (فلسطين) لها استقلالها التام، واما بقية البنود فهي:
سابعاً: العفو عن المجرمين السياسيين داخل المنطقة.
ثامناً: حرية التجارة مع المناطق المجاورة، واعطاء البلاد حقها من واردات الجمارك في سوريا.
تاسعاً: الطلب بأن تتولى الحكومة الوطنية ادارة سكة حديد الحجاز كونها وقفا اسلاميا.
عاشراً: يكون شعار هذه الحكومة العلم السوري (الذي اصبح فيما بعد علم المملكة الاردنية الهاشمية).
حادي عشر: تقدم بريطانيا لنا السلاح والعتاد والادوات الفنية.
ثاني عشر: تكون بريطانيا منتدبة على عموم سوريا تأميناً للوحدة...
ثالث عشر: يكون نهر الاردن الحد الغربي للمنطقة.
رابع عشر: يكون للحكومة معتمدون في الخارج لتمثيلها.
خامس عشر: تكون المراجعات مع المندوب السامي باعتباره نائب ملك بريطانيا.
سادس عشر: تتعهد بريطانيا بصد الفرنسيين اذا ارادوا اجتياز الحدود...
هكذا كانت البدايات: الاردنيون يتحركون في كل اتجاه مدركين لكل الظروف المحيطة، آخذين العبر والدروس من الاحداث التي عاصروها وعايشوها، واتجه الاردنيون للتنسيق مع بريطانيا لتقوية مركزهم ولحفظ البلاد من التدخلات المحتملة التي تستهدف الارض والسكان.