يروى ان قارئة فنجان جلست لتقرأ فنجان قهوة لرجل فقير، وبعد ان اتسعت حدقتا عينيها، قالت للفقير.. «يا ولدي امامك ثلاث سنوات صعبة، من الفقر المدقع والمعاناة، وبعدها».. سكتت قارئة الفنجان ولم ُتكمل جملتها.
اشتدت لهفة الفقير ليعرف ماذا بعد هذه السنوات الثلاث، فألحَّ عليها، مثنى وثلاث ورباع لتخبره عما في فنجانه، فقالت له بعد طول انتظار: بعدها بتتعود يا ولدي! شهق الفقير من هول ما قالته العجوز، ومضى في طريقه.
هذه هي باختصار قصة اعتياد الناس للفقر، على يد الحكومات المتتالية، وتحول وسائل التعبير عن فقر الناس وحاجتهم، الى وسائل غير مؤثرة، بل ربما بات دورها تنفيسيا، اذ بات رفع الاسعار امرا عاديا، ولدينا ادلة كثيرة على ذلك، دون ان يعني هذا بحال من الاحوال قبول الناس بهذا الفقر، وتداعياته الاجتماعية، التي تعصف ببيوت الناس.
اخطر ما في الفقر تلك التداعيات الاجتماعية، لان الفقر سيؤدي الى جرائم وفساد، وتدهور في القيم الاجتماعية، واختفاء للحياء في تصرفات الناس، امام حاجة كثيرين لتخليص امورهم، وقد شهدنا في السنوات الاخيرة، وخصوصا، في المدن، تدهورا في هذه القيم، وهو ذات التدهور الذي نراه في المدن الكبرى الفقيرة في العالم.
مرة، جلس عربي الى اجنبي، فقال الاجنبي، اريد ان اسمع منك عن احلامك، فسكت العربي لوقت قصير، وقال احلم بأن اتعلم جيدا، وان احظى برعاية صحية جيدة، وان انال وظيفة جيدة، وان القى في النهاية تقاعدا جيدا، فابتسم الاجنبي بمكر وقال: انا اسألك عن احلامك وليس عن حقوقك!.
هذه قصة اخرى في ملف الفقر، فالانسان حين ُيبدد عمره من اجل حقوقه الاساسية ولا يحصل عليها، يصير عمره هباء منثورا، وفي دول كثيرة يتم ترك قطاع او قطاعين للناس، على سبيل التخفيف من حدة الحياة، وباعتبار ذلك حدا ادنى من الحقوق، فيتم ترك التعليم مجانيا للناس، والعلاج المجاني للناس، وبعدها لو تم رفع سعر البنزين الى عشرة دنانير للتر الواحد لكان مقبولا، خصوصا، اذا توفرت شبكات للمواصلات العامة.
الحكومات لدينا تتعامل مع الناس على طريقة قارئة الفنجان التي بشرت الفقير بثلاث سنوات صعبة جدا، ثم راهنت على ذكاء الفنجان وحدة بصيرتها اذ قالت له «بعدها بتتعود» والمفارقة في هذا الشأن ان كثرة لو تأملت كيف تعيش وماذا تفعل بدخلها القليل جدا، وكيف يتم حرمان اطفالهم من ابسط الحقوق، لعرفوا انهم اعتادوا الفقر، تحت عنوان «بندبر حالنا» وفي حالات «بدنا نكيف امورنا»؟!.
لم يعد مناسبا الاحتجاج فقط والصوت المرتفع والصراخ، نحن بحاجة اليوم الى قراءة مسبقة للتغييرات الاجتماعية التي ستحل على البلد والناس، اذ امامنا عاصفة من التغييرات الاجتماعية مقبلة على الطريق، وقد نصحو على انفسنا، ونحن مجتمع اخر، امام حدة الفقر، الذي سيأخذ الناس الى الرشوة وقبول المال الحرام، وانتشار ثقافة «الفهلوة» من اجل ان يعيش الناس، بالاضافة الى الكبت النفسي والفساد وغير ذلك من نتائج نراها في دول عربية فقيرة.
لو كان الفقر رجلا لقتلته، فما بالنا حين يصبح الفقر امة ممتدة بمئات الملايين من مشرق العرب الى مغربهم، فيما يستحوذ على الثروة بضعة الاف في كل بلد، يحكمون ويرسمون ويفعلون ما يشاؤون.
ليس من سيف في خاصرة الناس، كما الحرمان.
الدستور