كتب فهمي هويدي
لا يستطيع المرء أن يخفى شعوره بالسعادة إزاء الحيرة التى يعانى منها المصريون هذه الأيام، قبل التصويت ،على انتخابات رئاسة الجمهورية. ذلك أنها المرة الأولى فى تاريخ هذا البلد التى يختار فيها المصريون رئيسهم، كما أنها المرة الأولى التى يتنافس فيها أكثر من عشرة أشخاص على الفوز بالمنصب، دون أن يستطيع أى أحد فى بر مصر أن يتحدث بيقين عن هوية الرئيس القادم. وهذا اللا يقين المسبق، إحدى مواصفات العملية الديمقراطية ومن القرائن الدالة على نزاهة الانتخابات، حيث أزعم أن البلبلة والحيرة على ذلك الصعيد من المعلوم بالضرورة فى العملية الديمقراطية.
بوسع أى أحد أن يهز كتفيه قائلا إن ذلك ليس اكتشافا أو اختراعا مصريا، ولكنه أمر شائع فى كل الدول الديمقراطية، وهو ما أوافقه عليه تماما، باستدراك بسيط هو أننا لم نكن من بين تلك الدول، وأننا سمعنا بالديمقراطية فقط فى خطب الذين جثموا على صدورنا طوال السنوات التى خلت، وظلوا يقنعوننا بأنهم يحكومننا ــ إلى الأبد وحتى آخر نفس ــ باسم الديمقراطية. وباسمها سوف يسلمون السلطة إلى أبنائهم.
لأن الأمر كذلك، فأحسب أن الجميع ينبغى أن يعذرونا ــ البعض سوف يحسدوننا ــ إذا تباهينا بأننا لا نعرف على وجه اليقين من سيكون الرئيس القادم، ليس ذلك فحسب وإنما ليس بوسع أى «كبير» فى بر مصر أن يحدد ذلك، بمن فى ذلك وزير الداخلية ورئيس جهاز الأمن الوطنى، اللذان كانا يحتفظان بنتائج أية انتخابات «حُرَّة!» قبل أن تتم بعدة أشهر، ولديهما تفاصيل الانتخابات الرئاسية لعدة سنوات مقبلة. إلى غير ذلك من الأسرار الانتخابية التى انتقل مصدر القوة فيها من الأجهزة الأمنية إلى أيدى الناس، كما انتقل اليقين فيها من مكاتب قادة الأجهزة الأمنية إلى صناديق الانتخاب، التى أصبح الفرز المحايد فيها هو المصدر الوحيد لإعلان الحقيقة.
إلى جانب ذلك فإننا ينبغى نعترف بأن جهلنا تجاوز تلك الحدود، وشمل أيضا خرائط المجتمع المصرى وتضاريسه، إذ فى ظل الموات السياسى الذى خيم على البلاد، لم يعد بمقدورنا أن نعرف شيئا عن أوزان القوى السياسية. والوصف الأخير لا يخلو من مبالغة نسبية، لأن ما كان لدينا لم يتجاوز الديكورات أو اللافتات السياسية. ورغم أننا بدأنا نتعرف على جانب من تلك الأوزان فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية وفى انتخاب أعضاء مجلس الشعب. إلا أن متغيرات «البورصة» الانتخابية غيرت فى الآونة الأخيرة من بعض معالم الصورة، فارتفعت فيها بعض الأسهم وانخفضت بشدة أسهم أخرى، أو هكذا بدا لنا على الأقل.
لقد توافرت لنا خلال الأسابيع الأخيرة استطلاعات للرأى تفاوتت فى نتائجها، إلا أننا فى اليومين الأخيرين تلقينا تباعا نتائج فرز أصوات المصريين فى الخارج. التى وضعت الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح فى المقدمة وبعده فى الترتيب كل من حمدين صباحى وعمرو موسى والدكتور محمد مرسى والفريق أحمد شفيق.. وهى نتائج محدودة الدلالة، خصوصا إذا وضعنا فى الاعتبار أن الرقم المتداول لأعداد المصريين فى الخارج يقدرهم بنحو عشرة ملايين شخص، فى حين أن الذين اشتركوا فى التصويت كانوا فى حدود 600 ألف فقط، الأمر الذى يعنى أن هذه النتيجة لا تعبر بدقة عن رأى المصريين المغتربين.
لقد تضاعفت حيرتنا حين اقترب موعد التصويت هذا الأسبوع وحل أوان «الصمت الانتخابى» ابتداء من غد، ذلك أن كل مرشح شمر عن ساعديه وكثف من نشاطه قبل إنزال الستار على حملة الدعاية، أملا فى تعزيز موقفه وتوسيع نطاق مؤيديه، فامتلأت شوارع مصر بالضجيج الانتخابى، فى حين حرص كل المرشحين على الحضور اليومى فى الفضاء الإعلامى، المرئى منه والمقروء. فى هذا الصدد لفت انتباهى أمران، الأول أن ثمة إنفاقا فى الدعاية باذخا ومثيرا للانتباه لحملة كل من السيد عمرو موسى وأحمد شفيق. وهناك علامات استفهام حول آلة الدعاية للأخير، التى بدا واضحا أن أصابع جهاز الإدارة ليست بعيدة عنها، الأمر الذى أثار قلق بعض المرشحين، وقد فهمت أن بعضهم نبه أعضاء المجلس العسكرى إلى هذه الملاحظة.
الأمر الثانى أنه يلاحظ فى حملات الدعاية للمرشحين أنها تستهدف قطاعات معينة من الأنصار، لكننى فوجئت فى المؤتمر الكبير الذى دعت إليه حملة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح فى القاهرة مساء يوم الجمعة الماضى (18/5) بتمثيل مختلف القطاعات على نحو عكس قدرا من الالتفاف الشعبى لم أجد له مثيلا فى الحملات الأخرى التى تابعتها، الأمر الذى بدا وكأنه تعبير إلى الحنين إلى أيام ميدان التحرير فى عِزِّها.
ذلك كله يظل من قبيل الانطباعات التى لا تحسمها سوى صناديق الانتخابات، التى وحدها صاحبة القول الفصل فى تجاوز التخمين إلى اطلاعنا على الخبر اليقين.
أكثر...