في كل الثورات في التاريخ, أول من يحاربها هي الرجعية صاحبة السلطة في النظام القديم, والعامل الأساسي في هدمه; فماذا عن الرجعية المصرية سنة1952,
في مواجهة ثورة بيضاء, رفضت التصفية الجسدية لأعدائها, وعملت علي حل الصراع الطبقي سلميا؟ هل استسلمت الرجعية؟ هل تنازلت طواعية عن مصالحها وأطماعها؟
أري أن نراجع تجربة ثورة23 يوليو مع الرجعية المصرية; حتي نعي تماما أساليبها في مواجهة ثورة25 يناير, ونستعد للمواجهة; لنتحدي محاولات إجهاضها.
من أول يوم لطليعة23 يوليو كانت تجابه ثورتين; ثورة سياسية وثورة اجتماعية, وذلك هو نفس الموقف بالنسبة لثورة25 يناير; التي من أهدافها القضاء علي النظام البائد بكل رموزه, وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إن هذا الهدف الأخير هو الذي حتم علي ثورة23 يوليو أن تصطدم مع قطاعات مختلفة من أجل تحقيق أهدافها, ومن أجل القضاء علي الاستغلال بكل معانيه; الاستغلال الاقتصادي, والاستغلال الاجتماعي.
وعن تجربة ثورة23 يوليو في هذا الصدد; أترك الكلام لجمال عبد الناصر..
يوم23 يوليو لم يكن في خاطرنا بأي حال من الأحول أن نحكم… ولكنا كنا نعبر عن آمال الشعب في القضاء علي الملكية الفاسدة, والقضاء علي حكم القصور, وحكم الحاشية, وحكم السفارات الأجنبية, وحكم أعوان الاستعمار… كنا نعتقد أننا نستطيع أن ننفذ الهدف السادس من أهداف الثورة; وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة في أسرع وقت… خصوصا بعد ما خرج الملك, وبعد ما تخلصنا من سلطة القصر.
وفي أول أيام الثورة… طلبنا من حزب الوفد أن يطهر نفسه من المستغلين, وأن يستعد ليتولي الحكم; باعتباره كان قبل ذلك يمثل الأغلبية.
وكان الصدام الأول حول تحديد الملكية, الذي تم بعد ستة أسابيع من الثورة; فحدثت اتصالات مع الوفد, واجتمعت مع فؤاد سراج الدين أربع مرات من أجل بحث هذا الموضوع… ماذا كانت النتيحة؟ طوال هذه الاجتماعات كانت هناك محاولات من جانبنا لاقناعهم, ومحاولات من جانبهم لاقناعنا…
نحن كنا نطالب بتحديد الملكية وتوزيع الأرض علي الفلاحين; علي أساس أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تحرر الفلاح… هم كانوا ينظرون للأمر نظرة أخري; كانوا يقولون: إذا كنتم تريدون تحديد الملكية, فكروا في الضرائب التصاعدية التي تساعدكم في رفع دخل الخزانة… كان مفهومهم يختلف تماما عن مفهومنا; فكنا نقول: إننا لا نريد نقود للخزانة, ولكننا نريد أن نحرر الإنسان… الحرية ليس معناها بأي حال من الأحوال برلمان, وقبة برلمان, وشعارات ديمقراطية, ولكن الحرية هي حرية الفرد.
علي هذا الأساس رفضوا أن يعودوا الي الحكم مع تحديد الملكية… وكان الأمر بالنسبة لي في هذه الأيام غريبا كل الغرابة, ولكن بعد ذلك طبعا تبينت; كيف نتفاوض مع الاقطاعي وصاحب الأرض لتحديد الملكية, ونطلب صكا علي أخذ أرضه وتوزيع أملاكه؟! وكان حزب الوفد في ذلك الوقت طبقة من ملاك الأرض; من الاقطاعيين… إن معني ذلك من الناحية السياسية القضاء علي الحزب نفسه; لأن الحزب كان يعتمد علي نفوذ الاقطاعيين في كل دائرة وفي كل مديرية; ففي هذا الوقت كانوا يعتمدون علي الفلاحين الذين يعملون لديهم; إنهم يعطونهم أصواتهم…
وبعد ستة أسابع من23 يوليو-8 سبتمبر1952 اجتمع مجلس قيادة الثورة وقرر إقالة الحكومة المدنية التي كان يرأسها علي ماهر- وإقامة وزارة أخري تنفذ قانون الاصلاح الزراعي… لقد مرينا في معركة تدل علي صعوبة الثورة الاجتماعية; إن الثورة السياسية أسهل كثيرا!
بعد ذلك دخلت ثورة23 يوليو في معارك مستمرة; لعبت الرجعية فيها دورا عدائيا مناورا. وبدأت أول معركة من أجل تحقيق الجلاء, وقابل جمال عبد الناصر أحد الرأسماليين المصريين عبود باشا الذي قال له: إنت صغير يا جمال بيه, ما انتاش عارف الانجليز دول أبدا! الانجليز بيدوخوا الدنيا, إزاي حتقف قصاد الانجليز؟! وإذا كنت بتتكلم مع الانجليز, لا تنسي إن دول الانجليز.. الانجليز الذين كسبوا الحرب العالمية الثانية.. الانجليز الذين دوخوا ألمانيا!…
كانت الرجعية حتي ذلك الوقت تعتقد أن السفير الانجليزي أو السفير الأمريكي يستطيع أن يؤثر, وأن يكون له دخل في الوزارة… كانت الرجعية مازالت تجد في الانجليز حماية… إذن حتي الرجعية في كفاحنا مع الاستعمار البريطاني كانت دائما متخوفة; تبث روح التردد, وتدعو الي المساومة.
هل انتهي دور الرجعية من أول يوم من أيام الثورة؟ لم ينته بأي حال من الأحوال. في أزمة مارس,1954]; التي حدثت في مجلس الثورة; والتي وقف فيها محمد نجيب في جانب, والثورة في جانب; كانت أساسا بفعل الرجعية.
ما الذي حدث في هذه الأزمة؟ خرجت الرجعية من كل جحورها, من أجل ماذا؟ طبعا من أجل حماية مكاسبها, ومن أجل استغلال الفرصة حتي تنفذ لتستغل, ولتؤمن النظام الرأسمالي المستغل الذي كان موجودا قبل الثورة, خرجت لتحكم.. تحكم بمن؟ تحكم بواسطة سياسيين. إن الرجعية لم تكن أبدا تحكم بنفسها, ولم نر أبدا أصحاب ملايين أصبحوا رؤساء وزارات في بلدنا, ولكن رؤساء الوزارات هم الذين يعملون لديهم بمرتبات شهرية في الشركات; إما محامين للشركات, أو مستشارين لها.
إذن الرجعية تتربص دائما بالثورة, تنتظر أي فرصة لتنقض; حتي تستطيع أن تحكم… إن الرجعية تستطيع أن تكيف نفسها وفق العصر, ترفع شعار الديمقراطية إذا كان يجذب الجماهير; لأن سلاح الرجعية هو الجماهير.. الشعب نفسه تخدعه.. ترفع شعارات ثم تكبله, وبعد ذلك حينما تصل الي هدفها, طبعا تتناسي هذه الشعارات.