من أسوأ المقولات التي يحاول البعض تسويقها أن الدولة “انتصرت” على الحراكات الشعبية، وأنها تحت الشعور “بنشوة” الفوز تريد ان تنقلب على مشروع الاصلاح وتعيد البلد الى المربع الاول.
هذه المقولات ليست خاطئة وحسب، وانما خطيرة ايضا، خاطئة لانها تضع الحراك في طرف والدولة في طرف آخر، والعلاقة بينهما علاقة خصومة وتناقض و”المنتصر” هو الذي يفرض شروطه على الآخر، ووفقاً لهذه القراءة فإن الذين خرجوا للمطالبة بالاصلاح “اعداء” للدولة، دخلوا في صراع معها ثم اكتشفوا بأنهم “أضعف” من أن يصمدوا في وجهها فانسحبوا من المشهد أو أنهم استسلموا ورفعوا الرايات البيضاء.
وهذه المقولات خطيرة ايضاً، لأنها تقدم “استنتاجات” قاتلة تسوّغ للبعض اتخاذ قرارات صادمة وغير مدروسة، فالحراكات الشعبية بقصد أو بلا قصد خدمت الدولة على مدى عام ونصف العام كانت فيه المنطقة تتعرض “لتسونامي” خطير لم يكن بلدنا “مستثنى” منه، وهي لم تندحر امام “خصوم الاصلاح” على العكس من ذلك، امتدت افقياً وعمودياً، وبدأنا نشهد زخمها في معظم محافظات المملكة، ومع أنها كانت “حضارية” بامتياز، وخجولة احياناً، الاّ أن أهم ما قدمته هو “اغراء” الناس على التظاهر وجرّ اقدامهم إلى الشارع، هذا الذي كان فيما مضى “خطاً” أحمر يصعب الاقتراب منه.
الأخطر من ذلك أن “إنهاء” حراكات الشارع المنظمة والعاقلة سيترك فراغاً كبيراً لا يمكن ان تسدّه الاّ “حركة” من الفوضى التي لا يمكن أن نعرف من هم الفاعلون فيها ولا من يقف وراءها.. ولا موعدها ولا عناوين مطالبها.
حين دعوت قبل ايام الى “تعليق” حراكات الشارع كنت أريد أن ابعث برسالة في اتجاهين: احدهما اتجاه الناشطين في الحراكات “لمراجعة” تجربتهم والتوقف امام اخطائها وايجابياتها، بحثاً عن مضامين وادوات جديدة وفاعلة تنقل الحراكات من دائرة “ردّة الفعل” الى الفعل، وفق اطار “المناورة” الى اطار “المبادرة”، والاتجاه الآخر هو المسؤول الذين يراهن على “عودة الهدوء” للشارع من خلال الانقضاض على الحراكات وافشالها، وربما غاب عن باله أن ما استفادته الدولة من الحراكات لا يمكن ان يعوّض، وأن “دحرها” من الشارع هو اكبر خطأ استراتيجي يمكن ان نرتكبه، سواءً كنا نريد الاستجابة لمطالبها في الاصلاح أو “نضمر” اشياءً اخرى.
للأسف، فهمت الدعوة في اتجاهات اخرى، وعاتبني بعض الاخوة في الحراكات لأنني “انقلبت” على فكرة التعاطف والتأييد التي سبق لي أن أشهرتها منذ اليوم الأول للحراكات، ولمن يكن يخطر في بالي هذا ابداً، ولكنني حين كتبت كنت اتطلع الى “مصلحة الدولة” اولاً، فهي أهم عندي من الاشخاص، اينما كانت مواقعهم، ومهما كانت مواقفهم، وفي ظني أن كل ما حدث في السنة والنصف سنة الماضية لم يكن في مصلحة أحد، فقد “استنزفنا” مجتمعنا وضربنا على أوتاره العصبية وابدعنا في العبث بنسيجه العام، وفي المقابل وضعنا النظام السياسي في حالة من الارتباك، وعجزنا عن دفعه الى سكة الاصلاح، الأمر الذي افرز “أزمة” شارك فيها الجميع، وسيدفع ثمنها الجميع ايضاً.
ما الحل إذن؟ اعتقد أن فرحتنا الوحيدة تكمن في الدخول الى مشروع اصلاحي تحت عناونين: احدهما عنوان “المصارحات” بما تقتضيه من مراجعات واعتراف بالاخطاء التي ارتكبت والاعتذار عنها والاخر عنوان “المصالحات” بما تشتمل عليه من احتفاء بالحراكات الشعبية واعادة “السلام” الداخلي للمجتمع واجراء ما يلزم من تسويات اجتماعية واقتصادية تطمئن الناس على أن مرحلة جديدة بدأت، أساسها “العدالة” والمحاسبة والتآلف والشراكة من اجل المصلحة العامة.
باختصار، لا يجوز أن نتعامل في هذه المرحلة بمنطق “المنتصر” والمغلوب ولا بمنطق الصراع بين الاطراف والانحياز لبعضها على حساب الآخر، كما لا يجوز أن تأخذنا المقولات المغشوشة التي يجري الترويج لها الى مقررات عاجلة مبنية على الانطباعات لا على المعلومات.. أو على مزاج عام لم تصلنا رسائله بوضوح حتى الآن.
حسين الرواشدة – الدستور