أفزعتنى صديقتى وهى تحكى لى، عن مشهد الفتاة التى دخلت إلى المقهى شبه عارية، بعد أن تعرضت لحادثة تحرش، وصفت صديقتى الفتاة بأنها محجبة، قليلة الجسد، ولا تضع أى مساحيق، كانت تقف على قدميها بصعوبة شديدة، وتستند إلى صديقتها المذعورة، كانت الفتاتان قد دخلتا إلى المقهى للاحتماء بمن فيه، بعد أن تعرضتا للتحرش داخل محطة السادات بمترو الأنفاق، منتصف يوم الجمعة الماضى، الذعر الذى تلبس صديقتى وهى تحكى المشهد، كان كافياً لجعله يتجسد أمام ناظرى، هو ذعر صار مألوفاً أن تشعر به نساء وفتيات المحروسة.. ولو فى عز الظهر!، أكملت صديقتى: سارع الشباب بخلع معاطفهم وقمصانهم لتغطية الفتاة، فى حين ذهب أحدهم واشترى لها ملابس جديدة لترتديها، والآخرون استمروا فى محاولة لتهدئة أعصاب كل من الفتاتين، اللتين غادرتا بعد أن تمكنتا من السيطرة على أعصابهما إلى حدٍ ما. تابعت صديقتى حديثها مندهشةً بشدة، من أن تصل الأمور فى شوارعنا إلى هذا الحد، إلى حد أن لم تعد فتاة آمنة فى وسيلة مواصلات عامة فى عز النهار، وفى أكثر مناطق القاهرة ازدحاماً بالبشر، وسألتنى ماذا تبقى لنا ولبناتنا إذن فى هكذا شوارع ؟!.
قبلها بيومين.. كانت «النوت» التى كتبتها الشابة الجريئة شيرين ثابت على صفحتها فى الفيس بوك، وحملت اسم «موقع إباحى»، قد تم تداولها بشغف على صفحات الفتيات والشباب على الشبكة العنكبوتية، حتى إنها حصلت على عدة آلاف من الـ like وshare، فى خلال عدة ساعات لا أكثر، شيرين التى اختارت نشر «تتويتات»، «تغريدات» صديقاتها عن حوادث تحرش جنسى تعرضن لها فى شوارع مصر المحروسة ووسائل مواصلاتها العامة، كانت كمن يبعث العنقاء من رماد التجاهل، فإثارة موضوع التحرش الجنسى الفج فى شوارعنا، صار موسمياً ؛ بعكس «التحرش» نفسه الذى تنتظم ممارسته فى شوارعنا انتظام فصول السنة الأربعة، وكأنه بات أحد قوانين الطبيعة: لا سبيل لتجاوزه!.
وفى الوقت نفسه تم الإعلان عن إطلاق مبادرة «اتكلمى» على الشبكة العنكبوتية أيضاً، لتتحول إلى تدوينة ترصد حوادث التحرش اليومية فى مصر، والخبرات النفسية السيئة التى تتركها لدى نساء «المحروسة»، وتطور الأمر إلى إطلاق حملة «قطع إيدك» بعدها على الفيس بوك، والتى قررت النزول إلى الشوارع بفاعليات على أرض الواقع، لفضح المسكوت عنه، والذى يتواطأ الجميع على تجاهله، وكأنه يحدث فى بلاد أُخرى!.
المدهش والرائع، أن إعلاماً بديلاً هنا قد توالد من رحم الاحتياج، هى لغة صنعها جيل يملك أدواتها، بل ويحسن استخدامها، إعلام لا يكذب ولا يتجمل، لا يجامل ولا يهادن، يفضح بهدف إبراز الحقائق، ويتواصل مع صانعيه ومتلقيه.. منتهى المتعة والعصرية!.
هو درس فى التوثيق والجدل لم تتعلمه وسائل الإعلام التقليدية، فى حين تجاوزها إعلام الإنترنت، وصحافة المواطن، وصحافة الشبكات الاجتماعية، ببساطة وتلقائية، دون تفسيرات تُعنى بالشكل على حساب المضمون، ولا بالقائم على صناعته على حساب الهدف منه، هو ببساطة: إعلام العصر القادم.. بل والحالى أيضاً.
أما اللافت حقاً، أن اشتباكاً.. أو حملة كهذه، لم تخش التجاهل تحت وطأة كل الأحداث الساخنة التى تمر بها مصر ؛ بل أعلنت عن نفسها بقوة، وانتشرت الدعوة لها بسرعة، والجميل أن تجاوباً حقيقياً تحقق معها من فتيات قررن مجابهة مخاوفهن بالإعلان عن «الاغتصاب» اليومى لإنوثتهن فى شوارع يفترض أن تحميهن، ومن شباب قرروا الاعتراف بالجرم، ومواجهة سلوكيات يمارسونها بأنفسهم.. على أمل أن تثمر المصارحة إيجابيات نأمل جميعنا فيها. حلمنا جميعاً «شوارع نظيفة ترتقى بالرجل والمرأة».. من وراء القصد.