عرفت مصر خلال الفترة الأخيرة مظاهر متعددة لما أطلق عليه اصطلاح البلطجة. وأعتقد أن تعبير البلطجة يرجع إلي الممارسات التركية, حيث إن اللفظ جاء ـ فيما يبدو ـ من مقطعين بلطة. وجي أي حامل البلطة ويبدو أن هذا التعبير كان يطلق علي إحدي الفرق العسكرية العثمانية حاملة البلطة.
وكانت هذه الفرق تستخدم لضمان استقرار الحكم العثماني في مختلف الأمصار الخاضعة للدولة العثمانية حين تقوم الفتن والاضطرابات. وكانت هذه الفرق تستخدم الترويع والعنف للقضاء علي كل مظاهر المقاومة ضد استبداد الحكام. وإذا كان هذا التفسير التاريخي صحيحا, فإن البلطجة بدأت كظاهرة حكومية ثم جري تخصيصها حيث بدأ يستخدمها الأهالي أيضا. فجاءت ظاهرة البلطجة الشعبية كنوع من إفساد مفهوم الفتوة. فكان كل حي من الأحياء يعرف عددا من الفتوات الذين يحمون الحي من أي اعتداء من الأحياء الأخري.. وككل شيء يبدأ لأغراض نبيلة, فإنه لا يلبث مع مرور الزمن أن يتدهور ويتحول ليصبح مركزا للقوة لحماية المصالح الخاصة بدلا من حماية الأخلاق والمصلحة العامة. فالفتوة, وبعد أن استقرت سلطته ونفوذه, أصبح يستخدم هذه السلطة والنفوذ لصالحه أو يؤجرها لمن يدفع له أكثر. وبذلك تحول الفتوة إلي بلطجي يروع سكان الحي ويفرض عليهم الإتاوات, أو يؤجر خدماته لأصحاب المصالح.
وعندما قامت ثورة25 يناير علي أكتاف شباب طاهر ومثالي يدعو إلي الحرية والعدالة في مظاهرات سلمية ترفع أصواتها بهتاف سلمية.. سلمية, اندست فيها عناصر مجهولة من البلطجية تحاول اقتحام المتحف المصري وسرقة مقتنياته, وتشعل النار في المنشآت الحكومية وتسرق الأثاث وتهشم المحتويات. كذلك لم تلبث أن ظهرت السيوف والسنج والمطاوي الحادة, بعضهم مترجلا والبعض الآخر ممتطيا الجمال والخيول كما في واقعة الجمل المشهورة. وعندما بدأت تظاهرة سلمية ترفع شعار المحبة والاخاء سرعان ما انزلقت إلي مواجهات دامية أطلقت فيها طلقات الرصاص وقذائف المولوتوف وراح ضحيتها عشرات من القتلي ومئات من المصابين كما حدث أمام ماسبيرو. ثم جاءت أحداث محمد محمود ومجلس الشعب لتعيد نفس السيناريو, بداية بمظاهرات سلمية ثم نهاية مفجعة بمئات القتلي والمصابين وحرق المجمع العلمي ونهب المخطوطات الأثرية وحرقها. وبلغت الأزمة ذروتها في استاد بورسعيد في نهاية مباراة لكرة القدم لنشهد واحدا من أبشع المجازر, التي مازالت أسرارها غير معروفة. وفي كل هذه الأمثلة, كان الفاعل الظاهر هم البلطجية, أما الفاعل الحقيقي أو المحرك لهذه الأحداث فما زال مجهولا تحت اسمه الحركي: اللهو الخفي أو الطرف الثالث. وما أود الحديث عنه اليوم هو نوع آخر من البلطجية, فهو شيء من البلطجة الإدارية التي تقوم بها أجهزة إدارية حكومية أو خاضعة لها, حيث تجمع الأموال من المواطنين بدون وجه حق ودون أساس من القانون استنادا إلي قهر السلطة. فإذا كان البلطجي هو شخص يحصل لنفسه أو لغيره لمصلحة مالية أو ميزة سياسية أو غير ذلك من المنافع بغير حق, نتيجة لاستخدامه القوة المادية أو المعنوية, فإن ما تفعله بعض أجهزة الدولة أو من التابعين لها من فرض الإتاوات المالية علي الأفراد لا يعدو أن يكون نوعا من البلطجة الإدراية.