لا تثير سمعة ايران في المراوغة اختلافاً ولا حتى مجرد نقاش. وهناك اجماع دولي، بناء لكل التجارب السابقة، على أن وحي «الاعتدال» الذي هبط فجأة على الوفد الإيراني المفاوض في الملف النووي، ليس سوى محاولة مكشوفة لكسب الوقت، فيما اجهزة الطرد المركزي تعمل بكل طاقتها في تخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين في المئة وفق ما هو معلن.
كما ان هناك قناعة اكيدة لدى معظم الدول، بأن ايران بطرحها خلال جولة المفاوضات الاخيرة اقتراحات وصفت بـ «الجريئة» انما تسعى لجعل مفاوضيها يعتقدون بأن القبول ولو المحدود بفرضية «سلمية» برنامجها يمكن ان يلقى تجاوباً أكبر من جانبها، لكن التأكد من حسن نياتها والتزامها بما تقترحه او تتعهد به عملية صعبة وطويلة تنطوي على مخاطر ليس اقلها اضاعة الجهد والوقت في التفاصيل بينما المخاوف الحقيقية لا تتبدد.
ولا شك في ان متابعي الشأن الايراني يدركون ان العقوبات التي فرضها الغرب بدأت تضغط بقوة على نظام طهران الذي تتراجع عملياً قدرته على بيع نفطه وقدرته على قبض ثمنه اذا نجح في بيعه، وهي مشكلة ستزداد تفاقماً مع دخول المقاطعة الاوروبية الشاملة للقطاع النفطي الايراني حيز التنفيذ في تموز (يوليو) المقبل، بما يحرم طهران ليس فقط من العائدات، بل ايضاً من المعدات التقنية اللازمة لتطوير انتاجها.
وهناك احتمال ايضاً بأن تتراخى قبضة واشنطن التي ترفض حتى الآن منح اسرائيل الضوء الاخضر لتوجيه ضربة عسكرية الى ايران، ولو ان مثل هذه الضربة لا يمكن ان تنجح من دون مشاركة اميركية فاعلة.
ولعل هذا هو «بيت القصيد» في الموقف الايراني المستجد، فإضافة الى الدوافع الظاهرة التي يدركها الجميع، ترغب القيادة الايرانية على ما يبدو في «رد الجميل» للرئيس الاميركي باراك أوباما المنهمك في حملة انتخابات رئاسية حامية تشتد يوماً بعد يوم، ويتعرض فيها لضغوط اللوبي اليهودي واليمين المحافظ الذي يدعوه الى اتخاذ قرار بضرب ايران يلهب اسعار النفط ويجرف آماله في اعادة انتخابه. وتجد طهران ضرورة لإثبات ان مقاربة البيت الابيض الحالية لملفها النووي «تؤتي ثمارها» وان أوباما على حق في التروي والتركيز على الديبلوماسية، رغم تكرار قوله انه لا يستبعد أي خيار آخر.
كما ان ايران الساعية الى تظهير نظام نوري المالكي دولياً باقتراحها عقد الجولة المقبلة من المفاوضات النووية في بغداد، تقدر لواشنطن ايضاً موقفها الرافض لأي تدخل عسكري مباشر في سورية او حتى لتسليح المعارضة السورية.
وكان مرشد الجمهورية خامنئي اعتبر قبل اسابيع قليلة ان مواقف اوباما «ايجابية»، وقلل من أثر العقوبات مؤكداً ان الاميركيين سيغيرون موقفهم في النهاية عندما يتبينون عبثيتها. ثم تحدثت صحف اميركية مرموقة عن رسالة من اوباما الى خامنئي نقلها رئيس الوزراء التركي اردوغان اواخر الشهر الماضي وتفيد بأن واشنطن قد تقبل بمواصلة طهران برنامجاً نووياً مدنياً مقابل ضمانات عدة من بينها التزام ملموس بأنها لن تسعى اطلاقاً الى امتلاك سلاح نووي.
ومع ان اياً من الطرفين لم يؤكد هذا التفاوض غير المباشر، فإن «مرونة» طهران المفاجئة تشكل اعلاناً عن تقدمه، وفي الوقت نفسه اقتراعاً لمصلحة أوباما.