قال رجب طيّب أردوغان, رئيس الوزراء التركيّ, إنَّ تركيّا قد تطلب مِنْ حلف الأطلسيّ حماية حدودها مع سوريَّة, بالاستناد إلى المادَّة الخامسة مِنْ معاهدة الحلف, بعد إطلاق القوَّات السوريَّة النار مرَّتين, خلال الأسبوع الماضي, على بعض معسكرات المجموعات المسلّحة في الأراضي التركيَّة.
والحقيقة أنَّ هذا التصريح يثير الدهشة ويطرح العديد مِنْ علامات الاستفهام; فحتَّى وقتٍ قريب كان أردوغان يهدِّد سوريَّة باجتياح أراضيها وإقامة مناطق عازلة عليها; وبأنَّه لن يقف مكتوف اليدين إذا لم تصدع دمشق لأمره فتوافق على شروطه لحلّ الأزمة الناشبة على أراضيها. فما الذي تغيَّر? هل أصبحت تركيّا عاجزة عن حماية حدودها بقوَّتها الذاتيَّة? بأيّ قوَّة, إذاً, كان أردوغان يريد إقامة المنطقة العازلة? ثمَّ كيف له أنْ يطلب حماية حدوده وهو يهدِّد حدود جيرانه? ولا يقف الأمر عند التهديد, حسب; بل يتجاوزه إلى حدّ احتضان المسلَّحين في الأراضي التركيَّة, وإقامة معسكرات علنيَّة لهم, وإطلاقهم, باستمرار, باتِّجاه الأراضي السوريَّة لينفّذوا هناك عمليَّات عسكريَّة دمويَّة. فماذا كان يتوقَّع, إذاً, من الطرف الآخر?
قبل سنوات, حشدتْ تركيّا قوَّاتها على الحدود السوريَّة, بحجَّة أنَّ دمشق تحتضن بعض قادة حزب العمَّال الكرديّ, وأنَّ مسلَّحين مِنْ هذا الحزب يتسلَّلون من الأراضي السوريَّة إلى الأراضي التركيَّة. وآنذاك, طلبتْ دمشق مِنْ عبد الله أوغلان, زعيم حزب العمَّال الكرديّ, أنْ يغادر أراضيها; وسوَّت الأمر بهدوء, مع الجانب التركيّ. أمَّا أوغلان, فتنقَّل بين عدَّة بلدان إلى أنْ حطَّتْ رحاله في كينيا, حيث اعتقلته المخابرات الأميركيَّة, هناك, وسلَّمته للأتراك, وسُجن, منذ ذاك, في جزيرة تركيَّة معزولة (ولا يزال). فوفق أيّ منطق, إذاً, يعتقد أردوغان وحلفاؤه الأطلسيّون أنَّ مِنْ حقِّهم استباحة حدود سوريَّة وأراضيها مِنْ دون استدرار ردِّ فعلٍ معاكس?
الأمر الآخر الذي يلفتُ النظر هو انتقال سوريَّة مِنْ مرحلة تلقِّي الضربات الموجعة, مِنْ حكومة أردوغان, بقدرٍ كبير مِنْ ضبط النفس, إلى مرحلة الردّ بالمثل. فهل ستعود, في خطوةٍ لاحقة, إلى الردّ عن طريق دعم الأكراد; كما يتوقَّع بعض المراقبين?
من المعروف أنَّ تحالف سوريَّة مع الأكراد يخدمها بأكثر من اتِّجاه; فهو, مِنْ جهة, يشكِّل عامل ضغط كبيرا على تركيّا وعلى حلف الأطلسيّ; ومِنْ جهة أخرى, يخفِّف ضغط المعارضين من الأكراد السوريين عليها. وقد بدأنا نرى مؤخّراً شيئاً من التباين بين الجسم الرئيس للمعارضة الكرديَّة وبين معارضي مجلس استنبول, بلغ حدّ انسحاب الأكراد مِنْ اجتماع ما سُمِّي بأصدقاء سوريَّة الذي عُقِد في تركيّا مؤخّراً. ويمثِّل مؤيّدو حزب العمّال في الجانب الكرديّ السوريّ قوّة ضغط مؤثِّرة لإبعاد الأكراد عن التحالف مع الأتراك ضدّ السوريين. وأعتقد أنَّ ما يحول ضدَّ لجوء السوريين إلى التحالف مجدّداً مع الأكراد هو أنَّ معظم الأحزاب والأوساط السياسيَّة التركيَّة, سواء أكانت علمانيَّة أم إسلاميَّة, إضافة إلى العسكر, لا تقرّ سياسة أردوغان وحزبه ضدَّ سوريَّة ولا تجد فيها مصلحة لبلادها. لذلك, فإنَّ السوريين, كما أعتقد, يأخذون هذا الأمر بعين الاعتبار, ويبنون سياساتهم وسلوكاتهم تجاه تركيّا عليه.
من الواضح أنَّ أردوغان يحاول, بطرق مختلفة, استدرار التدخّل العسكريّ الأطلسيّ ضدَّ سوريَّة. وحيث أنَّ الوصول إلى هذا الهدف باسم حماية الشعب السوريّ لم يعد ممكناً, فهو يجرِّب أنْ يصل إليه باسم حماية الحدود التركيَّة. خصوصاً أنَّه, كما هو واضح, لا يحظى بالمساندة التي يحتاجها من العسكر والقوى السياسيَّة التركيَّة الأخرى, لتحقيق أهدافه بواسطة الجيش التركيّ.
لقد ربط أردوغان نفسه (وحزبه) بمشروع إسقاط سوريَّة وتقاسم الهيمنة عليها. والآن بدأ التحالف الدوليّ والإقليميّ, الذي اصطفَّ لتحقيق هذا المشروع, يميل إلى التهدئة والبحث عن تسويات واقعية وممكنة وعن مخارج للبعض لحفظ ماء الوجه. وهذا, بحدِّ ذاته يُعدُّ فشلاً كبيراً لأردوغان وحزبه.