المهدي المنجرة ، ليس اسلاميا ولا ماركسيا ولا ارهابيا ، ،ولا هو ابن اسرة فقيرة حاقد على الطبقات، بل هو ابن سلالة ارستقراطية كابرا عن كابر ، لكنه واحد من قلة قليلة من المثقفين العرب الذين لم يسلموا رؤوسهم للأوهام، وامنوا بكل جوارحهم ان لا شيء اسمى من الحقيقة ، فعاندوا زمانهم من اجل استرداد كرامة الانسان العربي الذي هان في وطنه اكثر مما هان خارجه، حتى لم يعد له حق طلب الاذن بالكلام وليس حق الكلام فحسب. وقبل عشر سنوات من خطاب المهدي ، كان قد انتزع الجزائري محمد اركون حق الكلام امام النخبة الباريسية، بمناسبة الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية ، مفندا هو الاخر اطروحة برنارد لويس ، وفاتحا الطريق لمرور اخرين بعده الى الاماكن المغلقة.
في وقت مبكر، طالب المهدي برد العولمة الى رشدها ، وتخليصها من اكاذيبها ، لانها تتغذى على العجرفة المرتكزة على الجهل واللامبالاة حيال اتجاهات انسانية اخرى ، مما يؤدي الى نشوء نزعة تسلطية عالمية تقول للاخر افعل مثلي ان كنت تتشبث بحقك في الوجود ، وهذا النوع من الابتزاز يغيض مليارات البشرالخاضعين لسوء المعاملة من قبل انظمة خضعت كليا للعولمة ، وينتهي المهدي للقول بأنه اذا لم تتغير الاشياء فان دمار العالم لا مفرمنه ، فالوضع غير قابل للاستمرار بل قابل للانفجار.
،دارت الايام ، وتغيرت الاشياء بأسرع مما كان متوقعا، لكنها لم تتغير بدون انفجار ، وبوسع كل مهتم ان يرى اسباب التغيير ومظاهره ونتائجه على المستوى العالمي والاقليمي والمحلي ، فالقوة العظمى الوحيدة في العالم ،صاحبة العولمة ، لم تعد وحيدة ، وهي تواجه الان الغضب الشعبي في داخلها، لكننا لا نعرف عن الازمة المالية العالمية المستمرة الا ما نعرف ، ولا نعلم عن اسبابها واثارها واخطارها الا بحدود ما نعلم.
في الاردن كنا قد بالغنا بالايمان بالعولمة والشرق اوسطية وتحمسنا لهما اكثر من اللازم ، لاننا في الحقيقة دولة متطرفة لا دولة معتدلة كما نعتقد ، ولطالما تحمسنا وتطرفنا في دروب كثيرة حتى اخر مداها ، مع ان بالامكان ان نسير بسرعة معتدلة ، وحجة بعض الذين يدعون المعرفة بالاسرار اننا مضطرون ان نفعل ذلك ، لكن هذه الحجة غير صحيحة في معظم الاحيان، والصحيح هو اننا دولة لا تمتلك رؤية استراتيجية حقيقية وواضحة ، ولطالما اتخذنا من القرارات الارتجالية والعاطفية والتلقائية مالا يمكن حصره ، وقد عانينا على مدى ثلاثين سنة من فراغ حقيقي في نظامنا السياسي وكافة انظمتنا الاخرى ، بشكل كان يسمح بكل سهولة ، لاي شخص حاذق في مهارات الاتصال والعلاقات العامة ، ان يخترق كل نظامنا وكل انظمتنا، وينفذ برنامجه الشخصي وينجح بتحويله الى برنامج وطني عام ، بحيث يصبح نقده او معارضته نقدا او معارضة للدولة، وصار بوسع كل من يشتهي السلطة في بلادنا ان يصل اليها عبر طرقها المختصرة والمعروفة،حتى تكرست المناصب العامة لمن يشتهيها بصورة باتت مثيرة للسخرية العمومية، وقللت من هيبة الدولة المغضوب لاجلها بشكل متأخر جدا ، ويعرف الناس الكثيرمن الحكايات والامثلة في هذا المجال مما يجعلناغير قادرين على الاضافة.
والاسوأ ، ان هذا الاختراق تعمم كثقافة في اروقة الدولة ، وفي المجتمع غير الرسمي ايضا ، او صار عقيدة يعتنقها كل راغب بالارتقاء اوالهبوط للاعلى ، وتمتلىء الادبيات الشفوية في الادارة الاردنية بكثير من الحكم والاقوال المأثورة التي تحث على سلوك الطريق المتعرج وتنهى عن السلوك المستقيم ، ويتعرض اصحاب الكفاءات الحقيقية في البلاد لحملات منظمة تحثهم على التواطوء والانحراف ، ويوصفون في احسن الحالات بانهم جبناء او مغفلون.
وبسبب الفراغ الاداري والسياسي والثقافي ، صار من الممكن ان تكون الادارة او المؤسسة او الدولة ، ضحية او مطية يتلاعب بشؤونها عدد من الشطار والمخادعين، والشاطرات احيانا ، عبر حركات وادعاءات وتلفيقات لا تخضع للفحص والتدقيق ، نتيجة استسلام الادارة عموما لافكار نمطية مضادة للتصحيح ، لا تسمح بالتمحيص ولا بالاختبار،فجهل الادارة العميق والمستتر، وضعفها الذي تغطيه بالتعسف، شكلا دائما بيئة مناسبة للاختلالات والاختراقات ، الى ان تكونت لدينا نخب ادعائية اصطناعية فارغة وجشعة ، لا تنتمي لاي شيء غير ذاتها ، ولا يملك كثير من افرادها سوى ادعاءاتهم التي تنطلي على بعضنا فيما بعضنا الاخر يساير ويغض النظر او يتواطأ، كأنه، ذكي ويستوعب المعادلة.
والفراغ الذي نشير اليه هو فراغ مزمن ، ناتج عن انسدادات وتناقضات داخل النظام نفسه ، فالنظام في حقيقته ليس الملك ولا الحكومة ولا المؤسسات اوالسلطات ، بل هو شيء اكبر من مجموع كل هذه المكونات لكنه ينبثق عنها ، لذلك تحتاج الدعوة لاصلاح النظام للتعرف على ماهية هذا النظام ، فاذا اردت اصلاح النظام فان عليك اصلاح النظام نفسه لا مكوناته فحسب ، كما جاء في نظرية الانظمة.
نقطة اخرى تستحق الاهتمام هي ان هناك اتجاها قديما ونشطا في الساحة ، يفترض جهل الناس عموما ، ويصور شعبنا على انه حالة فلكلورية، ويأخذ حريته في الحركة على افتراض ان الناس لا يتابعون ولا يعرفون ما يجري ، ونجح هذا الاتجاه من البداية بخلق ونشر صورة نمطية مشوهة عن الانسان الاردني والعربي عموما ، وعن المكونات الشعبية الاردنية وعلاقاتها ، ويتلاعب ببعض الحساسيات الداخلية خصوصا بين المكونين الشعبيين الرئيسيين ، كوسيلة لتحقيق اهداف خصوصية او مستعجلة ، ويعتقد اصحاب هذا الاتجاه انهم خارج نطاق المراقبة الشعبية.
وتبدو الحكمة في الاردن غائبة عن الميدان منذ زمن طويل ، وفي غياب الحكمة لا ينفع العلم ولا الدرجات العلمية سواء حصلنا عليها من الخارج او من الداخل ، ولا تنفع كذلك الشجاعة ولا الجاذبية، فالحكمة فوق العلم في فكرنا القديم ، وهي اعلى درجات المعرفة في المفاهيم الادارية الحديثة ، ولا حاجة للدولة بالمعلومات والمعرفة والاتصالات ، اذا لم تتحول هذه العناصر الاولية الى سياسات واجراءات حكيمة.
لقد بذلت جهود رسمية كثيرة من اجل التغيير في الاردن ، لكنها لم تنجح لانها كانت تفتقد لروح الاتصال الحقيقي بالناس ، وبوسع الاردن الان ان يعود الى نفسه وذاته ويتحكم في كثير من خياراته ويعتدل في مواقفه ويراعي مصالحه ، ويتكيف بصورة افضل مع بيئته ، ويحافظ على منجزاته المتحققة ، ويتحرر من الافكار التي تفرضها عليه اجندات ضيقة تتموه بالمصالح الوطنية العمومية ، فالاردن بلد رسالة ، ودولة لها معنى ، لا تلغيه العولمة ولا الهيلمة .
،ففي عام 1966، ،وقف وصفي التل محاضرا في رام الله، مبشرا بالطريق الثالث ، وشرح للمعلمين الذين علمونا ان (الدنيا لن تظل مثل شيوعية الصين ولامثل رأسمالية الولايات المتحدة،الدنيا تقترب اكثرفأكثر من الخط الثالث ،ونحن نعتقد اننا وصلنا الى هذا الخط عن فهم ووعي،نعتقد ان الدنيا في اخرالامرستلتقي بهذا الخط، لا يتسلط رأس المال على الدولة ولاتتسلط عليه،الدولة تأخذ حقها منه فقط، ويخيل اليّ ان المستقبل في الدنيا هوللمدارس الاقتصادية والاجتماعية التي تتبنى انظمة شبيهة بالنظام الموجود في اسكندنافيا.. ان حساب الزمن لايعمل دائما لمصلحتنا وقد يعمل ضدنا، فاذ اكنت اريد السفرالى نابلس اتجهت شمالا وسيكون الزمن معي لاني كل يوم وكل ساعة اقترب من نابلس،اما اذا اتجهت جنوبا في رحلتي الى نابلس فان الزمن ضدي كل يوم لانني ابتعدعنها،الا اذا اردت، ان ادورحول الكرة الارضية حتى اصل الى نابلس..)
الاردن بلد رسالة ودولة لها معنى وعلى ضفاف نهره كان الناس دائما يعبدون الله ويحبون الجلسات الارضية بشكل جماعي ،وعقدة الاصول والمنابت والجهات التي شتتت الناس وخلخلت المجتمع ،ما كانت لتكون وتكبر وتتضخم لولا سني القحط والجفاف السياسي والثقافي والتعليمي ، وتخريب رأس المال الاجتماعي ، والانتشارالواسع لعناصرالعبث في المساحات المؤثرة ،في ظل غياب الدولة اوعجزها عن تحديد اهدافها واولوياتها، فهدرت جهودها ومواردها في اللا اتجاه ، او في استرضاء اي اتجاه ، وفي اللا اتجاه او اي اتجاه لا تتحقق الاهداف الصحيحة.
،
،
،