تنسحب الكلمة المكتوبة من مفهوم التمايز لتصبح الصورة أساس التأثير. يوم كانت الكلمة هي الأساس لم نكن لنعرف حجم التأثير على الناس إلا في حدود ضيقة هي مجال سطوع الكلمة، أما اليوم فإن الصورة تقرع أبواب العالم كله، تحيي وتميت، تصنع موقفا صارخا أو تعدمه.. لولا الصورة لما عرف العالم بمحنة غزة ابان الحرب الاسرائيلية الاخيرة عليها، ولما أوجدت تعاطفا من كل الدنيا وليس من أقرانها العرب فقط.
والصورة هي التي أدخلت الحراك العربي تاريخ التأثير والتأثر من الباب الواسع، فيما بقيت الكلمة المكتوبة تلهث وراءها متعبة ومشدودة إلى تأخرها الملحوظ عن ان تكون حاضرة لحظة الحدث. بعض الصحف اليوم تتحول كلمات فيها إلى مواقف مؤثرة ايضا .. يميل كاتب الكلمات تلك اما بعواطفه او بما هي سياسة الصحيفة حين تتحول ملكيتها إلى آمرة فتكون بالتالي كما يقول الشاعر العراقي بلند الحيدري بان ” الملك اساس العدل ” وليس العدل اساس الملك “، فتصبح بالتالي كما هي حال التشبيه بالصحافة الصفراء التي قال فيها يوما الشاعر الكببر محمد مهدي الجواهري ” وصحافة صفر الضمير كأنها سلع تباع وتشترى وتعار / وطاولة صنعت في لندن وفي باريس دق لها المسمار”. من يمول هو من يفرض شروطه على الكلمات، لكن الصورة مباحة لا يمكن اللعب فيها الا اذا كان هنالك غرض في ابتداع اشكال من التكاذب من خلالها، وهذه تحتاج إلى لعبة ماهرة من التزوير الذي يظل مفضوحا اذا ما ظهرت الحقائق على الأرض.
كم المحطات الفضائية الموجهة إلى المنطقة العربية بات هائلا وأكثره يسمم الفضاء مثلما يسمم عقول الناس.. هنالك خطط لتشويه الصورة ذاتها، ومثلها الاخبار والكلمات التي تزيد في تعميق الجرح بدل ان تداويه. يلعب اللاعبون كل ما يملكون من قدرات ويزيدون دائما في ابراز مواقفهم من خلالها ومن صور شاشاتهم. اللعب على المكشوف، والكلام كذلك، كانت بعض الانظمة في السابق لا تقدم مواقفها بشكل سافر كما هو اليوم، كانت تتأنى في دبلوماسيتها إلى الحد الذي تراعي فيه الاطراف الذين تواجههم، اما الآن فلم يعد من محرمات، تشكل الوجدان على الارهاب الفكري، وعلى تعديل الصورة بما يناسب الموقف حتى باتت مطية للإرهاب ايضا.
نحلم بالموضوعية التي باتت مفقودة .. هو صراع ارادات اذن، عض اصابع إلى اللحظة التي يقول فيها أحد المتصارعين فيسقط ويتلاشى. لكن القوة على الارض تظل اثبت، فيما عالم الصور الطائرة والكلمات المتناثرة التي تنقضي مدتها في لحظة قراءتها، لن تظل هي المؤثر طويلا.