كل الدلائل تشير إلى أن الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية إنما تخوض في سورية حربا تستهدف في المقام الأول حل مأزق خليجي داخلي, لكنها حرب تضع سورية في مأزق خارجي يؤجل إلى حين فقط حل أزمتها الداخلية التي تدل كل المؤشرات على أنها في طريق متسارع نحو الحل.
فالحراك الشعبي العربي يحاصر هذه الدول من كل الجهات, وهي إن لم تبقه خارج حدودها فإنه سوف يجتاحها الواحدة تلو الأخرى بطموحاته المشروعة في التغيير والاصلاح, وهذا هو التفسير الوحيد لمسارعتها إلى التدخل العسكري في البحرين, وإلى التدخل السياسي لوأد أي تغيير جذري في اليمن, وإلى التدخل المالي في سلطنة عمان والأردن, وإلى حجب الدعم المالي عن مصر وتونس بعد تغيير النظام فيهما وإغداق مثل هذا الدعم في الوقت ذاته على قوى سياسية للثورة المضادة في الأقطار العربية التي اجتاحها الحراك الشعبي أو في تلك المرشحة لاجتياحه, وإلى دعم التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا باعتباره الضمانة الوحيدة لمنع أي تغيير حقيقي من المؤكد أنه كان سيغني مصر وتونس عن أي دعم خليجي, ثم إلى التحريض على التدخل الأجنبي والعصيان المسلح وتوفير كل أسباب إطالة أمد الأزمة في سورية من أجل صرف أنظار شعوبها عن استحقاقات الاصلاح والتغيير الأكثر إلحاحا في الداخل بملهاة خارجية يدفع عرب سورية ثمن استمرارها من دمائهم.
والتفسير الآخر الوحيد لإصرار هذه الدول على التدخل الأجنبي والعصيان المسلح ورفض الحل السياسي والحوار في سورية ربما يرمز له قيام زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط بوضع علم سورية في عهد الانتداب الفرنسي الذي يرفعه بعض المعارضين السوريين علما لهم على قبر والده كمال جنبلاط الذي يتهم الحكم في سورية باغتياله, فإذا كانت مبادرته هذه ترمز إلى الثأر الشخصي فإن “الثأر الحزبي” لجماعة الإخوان المسلمين السوريين ليس بحاجة إلى أي رمز يدلل عليه, بينما لا يمكن استبعاد “الثأر” الخليجي من الرئيس بشار الأسد .
وتجد دول مجلس التعاون الخليجي نفسها اليوم, بإصرارها على التصعيد المفتوح على كل الخيارات ضد سورية, تقف وحيدة في موقف معاكس تماما لتطور الأحداث باتجاه شبه إجماع دولي على خيار الحل السياسي والسلمي بالحوار للأزمة السورية, في مفارقة تاريخية تجعلها تبدو لأول مرة “مستقلة” في موقفها عن مواقف حلفائها التاريخيين في الولايات المتحدة وأوروبا الذين يعلنون بلغة واضحة لا لبس فيها بأن خيار التدخل العسكري الأجنبي في سورية لم يعد ممكنا, حاليا في الأقل, وهو ذات الموقف الذي اعلنه وزراء خارجية مصر وليبيا وتونس بعد لقائهم في العاصمة التونسية نهاية الأسبوع الماضي, منضمين في ذلك إلى المواقف المعلنة للبنان والجزائر والعراق واليمن وموريتانيا والأردن في معارضة التدخل الأجنبي والعسكري, لتجد الدول الست نفسها تكاد تقف وحيدة عربيا كذلك.
والحل السياسي والسلمي بالحوار هو جوهر مهمة الأمين العام السابق للأمم المتحدة, كوفي عنان, في سورية. وإذا كانت الدول الست تأمل في أن يخرج عنان بصيغة “غموض بناء” يتستر بـ “حماية المدنيين” والدواعي الانسانية كمدخل للتدخل العسكري الأجنبي في تكرار للسيناريو الليبي, فإنها تنسى أو تتناسى بأن مهمة عنان محكومة في نهاية المطاف بـ “الفيتو” الروسي والصيني في مجلس الأمن الدولي وأن الموقف الروسي المعارض لتغيير النظام هو سقف مهمته ومن هنا الترحيب السوري بمهمة عنان والرعاية الروسية لها, ولم تكن هذه الحقيقة غائبة عن الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي عندما نفى أن يكون عنان قد طالب الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي.
ومن المؤكد أن انتصار الحراك الشعبي العربي في تحقيق أهدافه المعلنة في الديمقراطية والدولة المدنية والعدالة الاجتماعية والملكية الدستورية وتحرير القرار الوطني من الهيمنة الأجنبية عليه وغير ذلك من شعارات هذا الحراك في الأقطار العربية الأخرى سوف يضع الدول الست في موضع الاتهام, ففي نهاية المطاف إن لم تكن شعوب دول التجزئة العربية تنتمي إلى أمة واحدة فإن الجغرافيا السياسية التي وحدت أوروبا وهي أمم شتى لا يمكنها أن تعزل عرب شبه جزيرة العرب عن التأثر بمجريات التطورات في محيطهم المباشر, ليكون وصول هذا الحراك إليها مسألة وقت فحسب, قبل أن يتحول “الربيع العربي” إلى أزمة خليجية داخلية خالصة, ولذلك يجب ألا ينتصر هذا الحراك في الأقطار العربية التي اجتاحها, لأن انتقاله إلى دول الخليج الست في حال انتصاره سوف يكون توقعا محتما لا مهرب منه طال الزمن أم قصر.
ومن الواضح أن ما يسمى “الربيع العربي” لم يحقق حتى الآن أهداف الحراك الشعبي العربي الذي توقف في منتصف الطريق بين “إسقاط الرئيس” وبين تغيير نظامه, وبين الاصلاح في الداخل وبين عدم تغيير السياسة الخارجية, بفضل التدخل الخليجي أو التدخل العسكري الغربي أو كليهما لدعم قوى الثورة المضادة في تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين.
والمفارقة في سورية أن النظام ذاته يقود عملية تغيير تمكنت حتى الآن من إنجاز الأسس الدستورية والقانونية التي فشل الحراك الشعبي في الأقطار العربية الخمسة من إنجاز مثيل لها لبناء دولة مدنية عصرية حديثة, ومن المؤكد أن السماح لسورية بوضع هذه الأسس موضع التطبيق للدخول في ما تسميه دمشق عهد “الجمهورية الثانية” سوف يحقق للحراك الشعبي العربي أول إنجاز ملموس له, وسوف يقود بفعل نظرية “الدومينو” إلى تمكينه من استكمال مسيرته حتى تحقيق أهدافها في الأقطار العربية التي أوقفتها قوى الثورة المضادة في منتصف الطريق, ومن المؤكد أن دول الخليج الست معنية بأن لا ينجح هذا “النموذج السوري” في التغيير والاصلاح, لأن نجاحه سوف يعني أيضا بأن مده لن يتوقف عند حدود شبه جزيرة العرب المحروسة بأكبر حشد عسكري غربي في تاريخ المنطقة.
لذلك فإن النهج الذي تسلكه الدول الست تجاه سورية هو سيف ذو حدين, وطريق في اتجاهين, فأسلحة التدخل العسكري الأجنبي, وتسليح المعارضة ودعمها, والتحريض على التمرد المسلح, وعدم احترام السيادة الوطنية, والتدخل في الشؤون الداخلية, والدعوة العلنية إلى تغيير النظام, واللعب بنار الطائفية والمذهبية, إلى غير ذلك مما ينبغي أن يكون من المحرمات القومية, ناهيك عن كونه انتهاكا للقانون الدولي وميثاق جامعة الدول العربية والأمم المتحدة, هي اسلحة تضفي الدول الست شرعية عليها اليوم تسوغ لخصومها استخدامها ضدها عندما تسنح لهم الفرص.
إن إشغال الرأي العام العربي في دول الخليج الست بعيدا عن استحقاقات التغيير والاصلاح بإطالة أمد الأزمة السورية, أو بـ “شراء” صمته عن المطالبة بالتغيير والاصلاح, قد يمنحها مهلة تؤجل هذه المطالبة إلى حين, ومن الأجدى ان تستثمر الدول الست هذه المهلة في الاقتداء بالنموذج السوري في تغيير وإصلاح يقودهما “القصر”, بدلا من استثمارها في هدر إمكانيات ناضبة, الأمة بحاجة ماسة لها, في مهمة محكوم عليها بالفشل مسبقا لوقف عجلة التاريخ في سورية وفي غير سورية, فحل المأزق الخليجي التاريخي موجود في دول الخليج ذاتها, لا في سورية.