في التقرير الأخير لمجموعة الأزمات الدولية، بعنوان “تسويف الإصلاح في الأردن المنقسم على نفسه”، توصيف قريب من الواقع لطبيعة الأزمة الحالية وتضاريس المشهد السياسي واستراتيجية الخروج منه.
ما ورد في التقرير -وإن كان دقيقاً وعميقاً- لا يمثل اكتشافاً سياسياً للأزمة وحلولها، بل هو لا يتجاوز في توصيفه وخلاصاته ما تتحدث به النخب السياسية، التقليدية والجديدة.
والباحثة الجادة التي أعدت التقرير لم تقم سوى بمقابلة ممثلين عن أغلب القطاعات الناشطة في المعادلة الراهنة.القصة، إذن، ليست في الوصفة، فهي واضحة جلية، بل في التطبيق، وبصورة أدق في حسم الرهانات داخل مؤسسات القرار.
فصانعو القرار تارة يراهنون على انتهاء الحراك، وأخرى على تبخر الربيع العربي، وثالثة على شراء الوقت، ورابعة على الانقسام الاجتماعي.
المشكلة الأكثر خطورة أنّنا لسنا أمام رهانات واحدة أو قراءة مشتركة؛ ففي أحيان تظهر الحكومة، وفي أحيان أخرى تختفي وتكتفي بالنقد وإبداء عدم الارتياح، مثلما حدث في المفرق سابقاً، أو تصريحات وزير الإعلام النارية تجاه ما حدث في مجلس النواب في موضوع الفوسفات، أو الاعتقالات الأخيرة في الطفيلة وما وراءها من رهانات قد تأخذ المشهد السياسي بأسره نحو مرحلة أكثر خطورة! وما خلص إليه التقرير واضح تماماً، وأصبح مكرراً ومتداولاً في الخطاب الرسمي، وأحسب أنّ هنالك توافقاً كبيراً على:أولاً؛ نحن بحاجة إلى إصلاح سياسي جوهري وحقيقي، ينقلنا إلى معادلة سياسية جديدة، عبر قانون انتخاب يجمع الـ89 (على مستوى المحافظة) مع القائمة المغلقة على مستوى الوطن، كما تطالب أغلبية القوى السياسية، وصولاً إلى حكومة برلمانية مسؤولة، من دون التلويح الدائم أو الحسابات المعقدة في الغرف المغلقة حول الفزاعات التقليدية، بخاصة جماعة الإخوان!لماذا الإصرار على المتاهات والدوران حول الذات، والمراوحة في المنطقة الحرجة، فيما دولة -شقيقة وقريبة سياسياً- مثل المغرب تمكنت من عبور المرحلة بسلاسة وسهولة، وسلّمت الأزمة للمعارضة الإسلامية، وخرج النظام بأسره من منطقة الخطر؟
ثانياً؛ توحيد رسالة الدولة وتصليبها، بإطلاق الحريات العامة ولاسيما حرية التعبير، وعدم التردد أو التخبط في التعامل مع السقوف الجديدة، فهي ستعود إلى طبيعتها بعد أن نتجاوز المرحلة.
أما الاشتباك مع الحراك الجديد والاستسلام لفرضية أن المشكلة في عشرين أو ثلاثين شخصا ستنتهي باعتقالهم، فهذه فرضية كارثية، وليست صحيحة؛ فالمزاج الاجتماعي بأسره محبط وسلبي، وفي مناخ مثل هذا المطلوب تجنب تفجير الموقف، والقبول بالصداع الحالي أفضل من استخدام أدوية منتهية الصلاحية، ستفاقم الأزمة.
ثالثاً؛ تشكيل لجنة أو تكليف المجلس الاقتصادي الاجتماعي (الذي يعيش حالة من الموت الإكلينيكي) بتقديم تصور لإصلاحات في السياسات الاقتصادية، تضع استراتيجية زمنية لمعالجة المشكلات المتفاقمة في المحافظات من انعدام الاستثمار والفقر والبطالة وتدهور التعليم، بالتوافق مع النخب الاقتصادية والسياسية مجتمعة.
رابعاً؛ إعادة تنظيم حزمة مكافحة الفساد، وتحديد الصلاحيات والسلطات، وتسليم مفاتيح الملف لشخصيات على قدر كبير من الأهلية والاحترام والنزاهة، من إذا تحدثوا مع الرأي العام قوبلوا بالمصداقية والثقة، على أن يتم التعامل مع الملف وفق مبدأ “سرية التحقيق وعلنية النتائج”، فنتجنب اغتيال الشخصيات وتهريب الاستثمار، ونستجيب لمطالب الرأي العام، وفي الوقت نفسه تطوير وتفعيل قانون “الإثراء غير المشروع” لكبار المسؤولين السابقين.
الفوضى الحالية مقلقة، وتؤدي إلى نتائج أخطر بكثير، وتوسيع دائرة الاتهام والاعتماد على المزاودات والإشاعات والاتهامات، ما يهز شرعية الدولة ويهدم مصداقيتها، وهو ما لا نحتاجه أبداً في هذه اللحظة الدقيقة
الغد