تتجاذب الوضع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي نظريتان: النظرية التقليدية السائدة، التي تدعو إلى الكفاح المسلح في مقاومة الاحتلال، والنظرية المقابلة التي يتبناها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الداعية إلى المقاومة الشعبية السلمية للاحتلال.
وفي التعامل مع هذه الدعوة الجديدة هناك موقفان: الموقف الذي يعتبر هذه الدعوة تراجعا إلى الوراء، وتخليا عن حق طبيعي من حقوق كل شعب محتل في مقاومة الاحتلال بالسلاح. ثم الموقف الذي لا يعارض هذه الدعوة من حيث المبدأ، ولكنه يرى أن للمقاومة السلمية شروطا يجب أن تتوفر، وإلا نكن قد أوقفنا المقاومة المسلحة ولم نستطع إطلاق المقاومة الشعبية السلمية.
المقاومة المسلحة تحتاج إلى تنظيم وتدريب وسلاح، ويمكن إنجاز هذه المهام سرا، والتعامل مع تنظيم يتلقى الأوامر وينفذها. أما العمل الشعبي السلمي، الذي يبدو للوهلة الأولى أنه أمر ممكن ومتيسر، إلا أنه يظهر، بعد نظرة متأنية، أنه عمل يحتاج إلى إعداد وتدبير وتنظيم، ربما يكون أصعب من إعداد وتدبير وتنظيم العمل المسلح.
العمل المسلح يتعامل مع تنظيم، أما العمل الشعبي فيتعامل مع جمهور واسع، ولذلك فإن ما يبدو سهلا للوهلة الأولى، يصبح صعبا ومتشعبا للوهلة الثانية.
والقيادة التي تدعو إلى نبذ الكفاح المسلح، واعتماد الكفاح الشعبي السلمي، لا بد أن تتوفر لها صلة عميقة مع الجمهور، صلة فاعلة ومنظمة. فهل هذا هو الأمر القائم فعلا فلسطينيا؟ نغامر ونقول لا. وفي ظل هذه «اللا» تصبح الدعوة للتوقف عن الكفاح المسلح، واللجوء إلى الكفاح الشعبي السلمي، خطوة إلى الوراء ليس إلا.
وحتى لا تكون هذه الدعوة خطوة إلى الوراء، فإن على القيادة الفلسطينية ألا تظهر بمظهر «المبشر» فقط بالابتعاد عن العنف واللجوء إلى العمل السياسي الشعبي. يقتضي الأمر أن تبدأ بنسج علاقات مع الشارع الفلسطيني، مع الأحزاب ومع النقابات ومع الجمعيات، لبلورة القدرة على تحريك الشارع لإنجاز النضال الشعبي المطلوب. أما حين يتم استهجان الكفاح المسلح، وحين لا يتوفر بعد ذلك عمل شعبي شامل ومنظم، فإن الأمر يصبح تعطيلا للمقاومة بكل أشكالها.
ويوجد للشعب الفلسطيني عبر تاريخه النضالي، من الاحتلال البريطاني إلى الاحتلال الصهيوني، تجربة طويلة ومتميزة، وسبق لها أن استخدمت أكثر من شكل من أشكال النضال، من المقاومة المسلحة إلى النضال الشعبي، إلى الإضراب العام والشامل عام 1936، مع إمكان الوصول إلى حالة العصيان المدني.
إن الوصول إلى حالة العصيان المدني، يمكن أن تكون خطوة متقدمة جدا إلى الأمام، ومن دون سلاح، شرط أن تتوفر قيادة تعمل لذلك، وتخطط من أجل ذلك، وتقيم البنى التنظيمية اللازمة من أجل ذلك.
أما الآن… فإن الأمر لا يخرج عن إطار الدعوات التبشيرية، بترك شكل من أشكال النضال، واعتماد شكل آخر، يطرح ويقدم على أنه الأسهل، بينما هو الشكل النضالي الأصعب. ولعل الخطر الأكبر الكامن داخل دعوات التراجع عن الكفاح المسلح واعتماد العمل السياسي الشعبي، أن يتوقف الكفاح المسلح، وألا يبرز بعد ذلك العمل السياسي الشعبي، ولا يجني أحد كسبا من خلال ذلك إلا الاحتلال الصهيوني.
وما نلاحظه، بكل أسف، أن القيادة الفلسطينية التي تدعو إلى هذا الأمر، لا تتوفر لها صلات عميقة، أو صلات وثيقة، أو صلات منظمة، مع الواقع الشعبي الفلسطيني.
ولذلك نقول إن المسألة ليست في خوض صراع نظري حول أسلوب النضال المسلح أو أسلوب النضال الشعبي السلمي، إذ المسألة تتركز حول إعداد المتطلبات اللازمة لهذا الشكل من النضال، أو لذلك الشكل الآخر من النضال.
ونستطيع أن نتصور منذ الآن، فترة من النضال المسلح، تتلوها فترة من النضال الشعبي السياسي، ثم تتطور هذه الفترة وتتصاعد نحو العصيان المدني الشامل. آنذاك يقف الاحتلال بكل قوته عاجزا عن الحركة والفعل، ويصبح عاريا أمام العالم كله. ولكن من يفكر بهذا الشكل النضالي المتطور لا يستطيع أن يكتفي بالشرح والمناشدة فقط، بل عليه أن يفكر بالحياة اليومية في ظل العصيان، بالموظفين، بالمدارس، بتوفر المواد الغذائية، بإيصال هذه المواد إلى البيوت… وأمور كثيرة أخرى. وإذا لم يتم التفكير بذلك، فإننا نكون قد قدمنا للاحتلال أكبر خدمة يتوقعها، إذ تتوقف المقاومة المسلحة للاحتلال، وهو حق مشروع، ولا تتوفر ظروف النجاح أمام المقاومة الشعبية السياسية.
لقد مارس الشعب الفلسطيني، منذ الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الصهيوني، أشكالا كثيرة من النضال، ولديه خبرة تاريخية مرموقة في هذا المجال، لعل أبرزها الإضراب الشامل عام 1939، الإضراب الذي هز بريطانيا ووضعها في موضع صعب حين اندلعت الحرب العالمية عام 1939، حتى إن الدول العربية المتحالفة مع بريطانيا ضد ألمانيا، تدخلت لدى قيادات الشعب الفلسطيني، طالبة وقف الإضراب، وهو ما حصل فعلا، من دون أن يجني الشعب الفلسطيني أي ثمن يتعلق بمطالبه، سوى وعود (الكتاب الأبيض) البريطاني، التي ما لبثت أن نقضت، حتى اضطر الشعب الفلسطيني أن يجدد مقاومته للاحتلال البريطاني وللتغلغل الصهيوني عام 1947، التي تلتها المواجهة العربية – الصهيونية، والتي انتهت للأسف، باحتلال فلسطين من قبل الصهاينة عام 1948.
وعلى الرغم من كل هذا نعود ونقول، إن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ليست مسؤولية فلسطينية فقط، بل هي مسؤولية عربية أولا وبالأساس. وحين يكون هناك تحرك عربي لدعم التحركات الفلسطينية ضد الاحتلال، نكون قد دخلنا فعلا في مرحلة جديدة يمكن أن نستبشر بها، من أجل إنهاء هذا الاحتلال، فالقضية الفلسطينية قضية عربية، كانت كذلك وستبقى كذلك.