بعد كل ثورة، هناك طريق ومسار جديد، مختلف في الشكل والمضمون عن المسارات غير المفهومة والمرفوضة التي ادت الى اندلاع الثورة. ومصر، رغم مرور عام على ثورتها، ما زالت تبحث عن خياراتها السياسية، الداخلية والخارجية، التي ستشكل مضمون وشكل مسارها الجديد. القوى الاقليمية والدولية التي تفهم دور مصر واهميتها، في التأثير على الاحداث في الشرق الاوسط، دخلت في سباق على مصر ما بعد الثورة، وان كان هذا السباق لا يزال حذرا وبطيئا انتظارا لانقشاع بعض الضباب على الساحة المصرية. ولكن البعض في سلوكهم وقراراتهم، بدوا وكأنهم اختاروا مخاصمة مصر، وربما لو شاؤوا قدموها للمحاكمة، كقاتلة لمبارك وعهده، الذي يستحق بنظرهم،البكاء عليه طيلة الدهر!.
رئيس الوزراء المصري كمال الجنزوري، اراد مكاشفة برلمان بلاده ومن ورائه الشعب المصري، بعد ان طفح به الكيل، حين قال ان الاقتصاد المصري يمر في اسوأ حالاته، وان الدول، ويقصد العربية بالذات، التي وعدت مصر بنحو عشرين مليار دولار بعد الثورة، لم تنفذ وعودها، مفسرا هذا السلوك، بانه عقاب لمصر على ثورتها. وقد اثارت هذه الكلمات قطاعات واسعة من الشعب المصري ونخبه السياسية الاكثر حساسية على الثورة، وخاصة في هذه الظروف التي تجمعت فيها مجمل عوامل وقناعات، تشير الى ان الثورة مستهدفة ربما من الخارج اكثر من الداخل.
الارقام المصرية تقول بتراجع السياحة وانخفاض حجم الاحتياطي من النقد الاجنبي الى مستويات خطيرة، وانخفاض قيمة الجنيه، وارتفاع الاسعار وحجم المديونية والعجز في الموازنة ونسبة البطالة، وتحول ربع السكان الى ما دون خط الفقر، رغم الارتفاع الطفيف في تحويلات المصريين في الخارج، وعائدات قناة السويس. ولهذا اصبحت المشكلة الاقتصادية تتقدم على مشكلة الامن، بعد تزايد المطالب الفئوية المختلفة برفع الاجور المنخفضة اصلا منذ العهد السابق ، والتي تضاءلت قيمتها في ظروف ما بعد الثورة.
ولان هناك من اختار معاقبة مصر من اجل مبارك كما يقول الجنزوري، ولان واشنطن تساومها بالمعونة المالية مقابل جواسيس مؤسسات المجتمع المدني. فقد اصبح الباب الاقتصادي هو الباب الذي اختارته بعض الدول لاعادة فتح مصر وتحويل اتجاهاتها السياسية. وطبيعة الاشياء ومنها السياسة، تفرض ملء الفراغ بالسرعة القصوى اينما وجد. ويقول خبراء مصريون، ان مصر تشهد غزوا اقتصاديا ايرانيا، غير مسبوق، بعد ان تحمست ايران لعرض استثمارات تنموية وليست ريعية، كما كان يفعل العرب منذ سنوات، مركزين على الاستثمار في العقار الفاخر الذي يشتريه اغنياء مصر واغنياء العرب. ايران عرضت اقامة مصانع للبتروكيماويات والتنقيب عن النفط في الصحراء الغربية، ومصانع اخرى لتجميع احد انواع السيارات الايرانية، وللتكرير وتعبئة اسطوانات البوتاغاز وغيرها ، وهي جاهزة للتنفيذ فورا، ووفودها الاقتصادية مستعدة للسفر الى مصر برهن الاشارة، وقد وصل بعضها. وعندما تقدم الدول خدمات اقتصادية، فانها تطلب في مقابلها ثمنا سياسيا، بغض النظر عن حجم هذا الثمن. ومن هنا تتعالى الاصوات في مصر لاعادة العلاقات مع ايران، ووقف التضييق على محاولات التشيع المذهبي، ومن بعده التشيع السياسي.
المصريون بطبيعتهم حساسون لوطنيتهم ووطنهم، ولكن الجوع والفاقة والشعور بالنكران والخذلان، سيدفعهم الى اتجاهات اخرى، بدأوا بالتفكير بها بعد الثورة، لمخالفتها لاتجاهات النظام السابق، وخاصة في السياسة الخارجية. فلماذا يقودهم العرب الى هذه الاتجاهات قسرا بغيابهم عن مصر، وخذلانهم لها ولشعبها في لقمة العيش؟. هل يحتاج اصحاب المال من العرب، الى دروس في البراغماتية السياسية، لكي لا تطلع شمس ذات يوم، واذا بمصر وغيرها من بلدان الفقر العربي، قد خرجت من ايديهم، واختارت الرصيف الاخر من المسار؟ انه العقل السياسي العربي، الذي ما زال يعيش في اطار محدداته الضيقة!.