ربما لم تلق انتخابات رئاسة فى روسيا اهتماما منذ انهيار الاتحاد السوفييتى حتى الآن مثلما تحظى به هذه المرة، رغم أن المنافسة فيها شبه معدومة، والفائز معروف مسبقا، وهو رئيس الوزراء فلاديمير بوتين، الذى شغل منصب الرئيس لدورتين متتاليتين منذ عام 2000 وحتى عام 2008، وترك الرئاسة التزاما بالدستور الذى لا يمنح الحق فى أكثر من دورتين متتاليتين، ثم عاد للترشح للرئاسة وسط ترحيب كبير من الشعب يرشحه للفوز فى المرحلة الأولى بدون إعادة.
عودة بوتين تلقى رفضا وغضبا شديدا فى الغرب، خاصة فى الولايات المتحدة، ومنذ الإعلان عن ترشحه للرئاسة فى أكتوبر الماضى والحملات الهجومية ضده تتصاعد فى الخارج، وأيضا داخل روسيا من جهة المعارضة اليمينية التى يقودها مجموعة من رجال المال والأعمال المدعومين من واشنطن ولندن، والذين كونوا ثرواتهم من خلال الفساد الذى انتشر فى روسيا فى تسعينيات القرن الماضى فى عهد الرئيس الراحل يلتسين، وهم الذين نظموا بأموالهم المظاهرات الاحتجاجية الأخيرة ضد بوتين فى شوارع وميادين موسكو، ولأنهم ليس لهم أية شعبية، لم يحصلوا ولا على مقعد واحد فى البرلمان، ومرشحهم للرئاسة الملياردير بروخوروف هو الأضعف وسط المرشحين الخمسة للرئاسة.
عودة بوتين للكريملين تشكل مصدر قلق شديد للغرب لأنه معروف عنه طموحاته لبناء روسيا القوية صاحبة الهيبة والكلمة المسموعة على الساحة الدولية، ومعروف عنه اهتمامه بدعم وتطوير القوة العسكرية الروسية، كما أنه معروف عنه من خلال فترتى حكمه السابقتين قدرته على التعامل بكفاءة عالية مع الاقتصاد، وقد استطاع انتشال روسيا من الانهيار التام الذى وصلت إليه فى عهد يلتسين ليصبح اقتصادها الآن سابع اقتصاد فى العالم، وتصبح إحدى الدول الثلاث مع الصين والسعودية كله اللاتى لا تعانى من الأزمة المالية العالمية مثل غيرها، لدرجة أن كبرى الدول الأوروبية تستجدى منها المساعدات المالية لإنقاذ الوحدة الأوروبية من الانهيار بسبب تفاقم الأزمة المالية فى بعض دولها، مما يهدد وحدتها.
بوتين سيعود ليحكم روسيا لست سنوات قادمة ربما ستكون أصعب سنوات يشهدها العالم منذ مطلع هذا القرن، حيث تفاقم تداعيات الأزمة المالية التى تهدد الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة التى تراجعت مكانتها وهيبتها على الساحة الدولية بسبب حروبها الفاشلة فى أفغانستان والعراق، كما يعود بوتين للحكم مع تصاعد الثورات الشعبية فى إطار ما يسمى بـ”الربيع العربى” والتى من المتوقع أن تؤدى إلى تغييرات جذرية فى موازين القوى على الساحة الدولية، خاصة فى الشرق الأوسط ” قلب العالم”.
الفيتو الروسى الأخير فى مجلس الأمن ضد مشروع القرار الخاص بسوريا لقى غضبا شديدا فى الشارع العربى عموما، رغم أنه لقى استحسانا، وحتى شكرا من أكبر خبراء السياسة العرب، أمثال محمد حسنين هيكل، وهو المعروف عنه رفضه الشديد لتولى بشار الحكم فى سوريا بوراثة أبيه، لكنه شكر روسيا والصين واعتبر هذا الفيتو إنقاذا لسوريا والمنطقة من كارثة محققة.
بغض النظر عن الموقف فى سوريا فإنه على ما يبدو فإن روسيا تطمح للعب دور كبير فى منطقة الشرق الأوسط، وعلى ما يبدو فإن هناك ترحيبا من معظم أنظمة الحكم العربية بهذا الدور الروسى، خاصة وأن سياسة روسيا الخارجية على العكس تماما من أمريكا، حيث ترفض موسكو أى تدخل فى الشئون الداخلية للدول، وتدافع عن الشرعية الدستورية للأنظمة بغض النظر عن سياساتها تجاه شعوبها، وهذا بالقطع يرضى كثيرا الأنظمة الحاكمة، بما فيها أيضا الأنظمة التى ستأتى بها ثورات الربيع العربى.
عودة بوتين للكريملين مؤشر قوى على صعود نجم روسيا بقوة على الساحة الدولية مع توقعات كبيرة بأفول النجم الأمريكى، وهو الأمر الذى يفرض على العرب جميعا مراجعة حساباتهم وأجندات سياساتهم الخارجية.