يفرك العربي عينيه. العربي شكّاك. كَوَته التجارب. يحملق مجدداً في الشاشة. يستهجن. ويستغرب. ويستفظع.
صدّق أو لا تصدّق.
هذا المشهد غير مسبوق. وغير مألوف. كان لبنان يتميز به، قبل ترويض الديموقراطية فيه، وتلقيحها بأمصال التعيين والتمديد.
صدّق أو لا تصدّق.
رئيس عربي يسلّم القصر لمن انتخبه الناس. يسلّمه الأختام والمفاتيح والشرعية. يقبل الرئيس المغادر لقب الرئيس السابق. وهو مرير أصلاً، فمن طبائع البشر عشق السلطة ورغبة الإمساك بالأعناق والأرزاق.
لم يكن من عادة الرئيس العربي أن يغادر القصر إلاّ إذا خانه قلبه، أو حطمت دبابات أسوار القصر وجدرانه. وكان المنقذ الجديد يسارع الى تحويل ساكن القصر الى جثة، وإن كان رحيماً دفعه الى المنفى بلا عودة.
كان الرئيس العربي يغرز في القصر أنيابه والأظافر. وكان الدستور يعامل ككلب طائع. يستدعى فينحني. والرئيس يجدد ويمدد. ويمارس متعته. القصر ملكه، والشعب ملكه، والأرض ملكه، والغيوم التي تعبر ايضاً. وكان العربي يولد في عهد الرئيس ويهرم في عهده. يتقاعد الشعب ولا يتقاعد الرئيس.
كانت الولاية مفتوحة، بلا عوائق، وبلا ضوابط. وكان الخطر الوحيد يأتي من الثكن. من شراهة ضابط يقيم فيها. يتظاهر بالولاء وينتظر موعد الانقضاض على الوليمة.
كان من المحظور الإشارة الى موعد انتهاء الولاية. ولاية المنقذ لا تنتهي. تكليفه جاء من التاريخ، وسيقيم حتى موعد اللجوء إليه. سيحرق أيامه من أجل شعبه. وسيحرق أعصابه أيضاً. تذكير الحاكم بموعد انتهاء ولايته شبيه بمصارحة المريض بإصابته بالسرطان.
ولاية الرئيس لا تنتهي. والمستشارون يطبخون الأعذار على نار التزلف والانحناءات. الديموقراطية الغربية لا تلائمنا. لا تناسب مجتمعاتنا. الديموقراطية التي تقيّد التفويض مؤامرة امبريالية وصهيونية.
في السنوات الأخيرة كان علي عبدالله صالح يسمع جرساً بعيداً يقرع. يسمع دقات الساعة. يجهز نفسه لتجرّع كأس المغادرة ولو بشيء من المناورة. كان يتحدث عن شوقه لملاعبة أحفاده، وعن اغتباطه بلقب الرئيس السابق. كان يحاول إقناع الصحافي الزائر. كان يحاول إقناع نفسه.
كم كان أفضل لو فعلها حسني مبارك. لو سلّم القصر ومضى، من دون هذه المشاهد المذلّة له وللعائلة. كم كان أفضل لو لجم زين العابدين بن علي شراهته وسلّم القصر وتفرّغ للذكريات. كم كان أفضل لو أفرج الأخ العقيد عن فريسته وتفرّغ لتنقيح «الكتاب الأخضر» ومن دون التسبب في نكبة لبلده ولنفسه ولعائلته، تماماً كما فعل فتى بغداد.
ما أصعب ان يستمع الحاكم الى نبض الناس. تفصله عنهم شهوات الحاشية، ومباخر المستشارين، ومدائح المتسلقين، وقصائد الفاسدين المفسدين، وتقارير الأمن المطبوخة على نار الولاء وأكاذيب الجلاوزة.
أفسد «الربيع العربي» هناءة التسلط والمتسلطين. تغيّر الزمن. وتغيّر الناس. على كل رئيس ان يسلّم سلفاً بأن لكل ولاية نهاية، ويستحسن أن يضع على مكتبه أو تحت ساعة الحائط عبارة ذهبية مفادها: «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك».