فهد الريماوي
الزميل فهد الريماوي
غاب بهجت ابو غربية عن دنيانا، طواه الردى وغادرته انفاس الحياة، ولكنه سرعان ما حل ضيفاً عزيزاً على جنان الخلد، وديار التاريخ·
غاب “ابو سامي”، جمل المحامل، وجبل المبادئ، وعميد ثوار فلسطين، وفارس القومية العربية الذي اتخذ من النضال عادة يومية، وصلاة قدسية، وعقيدة راسخة، وفريضة دائمة، منذ وهج الصبا والشباب حتى خاتمة الحياة·
غاب “ابو سامي” الذي تنتمي اليه شجاعة الاسود، وصلابة الغرانيت، ونقاء البلور، ومضاء السيوف، واخلاق القديسين، حيث الصدق في القول، والزهد في المغنم، والبعد عن الدنية، والحرص على اداء الواجب، والعمل بما يرضي الله والوطن والامة، حتى لكأنه المقصود بقول الشاعر عنترة العبسي : “يغشى الوغى ويعف عند المغنم”·
اخيراً، آن لهذا الشهيد الحي ان يمتثل لاحكام الشهادة وقوانينها، وان يعاقر كأس الموت وطقوسه، وان ينتقل الى رحاب الابدية وجنان النعيم، بعدما امضى اعواماً طويلة وهو يؤجل استشهاده، وخاض معارك كثيرة وهو يتفادى موته، ونجح مراراً وتكراراً في البقاء شهيداً على قيد الحياة، ومقاتلاً مكلوءاً بعناية الله، اذ ليس في جسده شبر يخلو من ثقب رصاصة او شظية قنبلة او ضربة حربة·
عظمة هذا الرجل الاستثنائي تتمثل في الجمع بين الروح الفدائية، والصلابة المبدئية، والطهارة الاخلاقية، رغم انه قد عمّر لاكثر من تسعين عاماً، او ما يعادل حياة جيلين، ورغم انه كابد السجن والنفي والتشريد والتعذيب الفادح، ورغم ان الكثيرين ممن سبقوه، او عايشوه، او لحقوه قد زلت بهم القدم، او انحرفت بهم السبل، او نالت منهم الشيخوخة، او زينت لهم النفس الامارة بالسوء·· بينما ظل هو ابياً نقياً ما لانت له قناة، ولا اهتزت له قناعة، ولا تبدل له موقف، ولا هفت له نفس على اي منصب او مكسب·
ومع ان هذا المعلم الثوري النبيل كبير في ذاته، وعظيم في مواقفه ومواصفاته، الا انه يزداد اهمية واكبرية، لدى مقارنته بثوار هذا الزمان، وحكام الفساد والاستبداد، واصحاب المناصب والمراتب العليا الذين باتت فضائحهم تزكم الانوف، وسرقاتهم تملأ البنوك، واسماؤهم تتسربل بالعار، بعدما تمادوا في طعن المسؤولية، وخيانة الامانة، وبيع الشرف والضمير بثمن بخس ومال حرام·
هذا الرمز النبيل، ليس زاهداً في الثروة فقط، بل ايضاً في الوجاهة والسلطة والشهرة والنجومية، فهو رجل التواضع الذي ما استهوته الاضواء، وهو عاشق العمل السري الذي ما استبدت به شهوة الاعلام، وهو نبع التضحية والعطاء الذي ما احتاج الى ما يُضاف اليه، وهو رائد مدرسة “السهل الممتنع” الذي نجح في ترجمة البساطة الى عظمة، والعظمة الى بساطة، دون الحاجة الى قواميس الآخرين·
هذا الطود الشامخ شكّل على مدى نصف قرن قاسماً مشتركاً بين الوطني والقومي والاسلامي والاشتراكي، وظل موضع احترام كل اصحاب العقائد والتيارات السياسية المناضلة·· ليس لانه كان رمادياً او هلامياً، بل لانه كان واضحاً في قناعاته، وصادقاً في تحالفاته، وحاسماً في مواقفه ونضالاته، ومتفهماً، بحكم رجاحة عقله، لمواقف المختلفين معه واجتهاداتهم وتطلعاتهم، مادامت تدور داخل الصف المعادي للصهيونية والامبريالية والرجعية العربية·
وكم كان مدهشاً وباعثاً على الارتياح، هذا التكريم والتعظيم والاستذكار الواسع للفقيد الغالي عند رحيله، حيث شاركت في الجنازة، وامت بيت العزاء قوى كثيرة وجماهير غفيرة، فيما تناثرت النعوات وبيوت العزاء ومقالات الاشادة بهذا الراحل الكبير، من رفح وجنين الى دمشق وبيروت، ومن القدس وعمان الى تونس والجزائز·· وهو الامر الذي يثبت ان الدنيا مازالت بخير، وان الامة مازالت مؤهلة لتوقير وتكريم الاحرار والشرفاء، رغم كل هذا الضخ الاعلامي المضاد، والهادف الى خلط الاوراق وتشويه الوعي العام·
تشرفت بمعرفة “ابي سامي” اوائل عقد الستينات من القرن الماضي، حين اوفدني اليه من القاهرة العم المرحوم عبدالله الريماوي، وكلفني بوضعه في صورة الدواعي والحيثيات والخطوط العريضة لمشروع تنظيم “الحركة العربية الواحدة”، بعدما كان العم “ابو نضال” قد اقنع به الزعيم الخالد جمال عبد الناصر·
قصدت مكتب المحامي المرحوم محمد موسى الكسواني في القدس، وهو الذي كان استاذي في المدرسة الهاشمية برام الله، وتمنيت عليه ان يقدمني ويرتب لي لقاءً مع “ابي سامي”، وهكذا كان، ففي مغرب اليوم التالي وصلت منزله المجاور لفندق كان يتولى ادارته في احدى ضواحي القدس، حيث دار بيننا حوار مطول لم يضع نهاية له سوى صوت مؤذن المسجد الاقصى وهو يصدح باذان الفجر، وقد كان لزاماً عليّ عندئذ ان اغادر المكان، لدواعي السرية، قبل توافد الموظفين والعمال الى الفندق·
بعد التخرج من جامعة القاهرة عام 1965، عملت كاتباً ومحرراً في جريدة “الدفاع” بالقدس، وقد التقيت باستاذي “ابي سامي” مراراً وتكراراً، وما ان تجمعت نذر الحرب في شهر حزيران من عام 1967 حتى هب استاذنا، كعادته دوماً، لتشكيل سرايا مقاومة شعبية، استعداداً للذود عن حمى زهرة المدائن، غير ان العدو المتأهب سرعان ما انقض عليها واختطفها خلال يوم وليلة، وقبل وصول السلاح الموعود من مخازن الحكومة·
في عمان تجددت لقاءاتنا وتعددت، وحين ترشحت لخوض الانتخابات النيابية الديموقراطية التي اعقبت انتفاضة نيسان المجيدة عام 1989، وجدت في “ابي سامي” خير والد وسند وعضد، فقد امدني بالكثير من الدعم اللوجستي، وقاسمني معظم الجولات والندوات والمهرجانات الانتخابية في طول دائرة عمان الاولى وعرضها·· وحين جانبني النجاح قال لي بروحية ابوية عالية·· لقد سبقتك الى مثل هذه التجربة في عقد الخمسينات، وقناعتي ان الانتخابات عموماً تعتمد على الامكانات المالية والمهارات التنظيمية، باكثر مما تقوم على الشعبية والمؤهلات الذاتية للمرشحين·
اما حين انطلقت “المجد” عام 1994 فقد استقبلها هذا القومي العتيق بحماس شديد، لان الصحافة والكتابة كانتا عشقه الثاني بعد الكفاح المسلح، وقد اوعز لشريكه في “مطبعة التوفيق” المحدودة، الاخ عبدالكريم السيفي بتقديم الممكن من الدعم لها، علاوة على انه تكرم وتطوع بالكتابة فيها، واضاء بقلمه سطورها وصفحاتها لاكثر من عشرة اعوام كانت مرشحة للاستمرار، لولا ضعف البصر ودكتاتورية الشيخوخة·
في “المجد”، وعلى مساحة عقد من الزمان، كانت لنا مع هذا الصقر الباسل جملة حكايا وطرائف ومفارقات نأمل ان ترى النور ذات يوم، ذلك لان قلمه كان شديد الوطء على الحكام والحكومات عندنا وفي عموم الوطن العربي، وكنا نخشى غضبه ان سمحنا لانفسنا بشطب او تعديل او تبديل جملة او فقرة او حتى كلمة من مقالاته التي كثيراً ما كانت تتخطى الخطوط الحمراء، ليس على الصعيد الاردني فحسب، بل والعربي ايضاً، وقد حدث ذات مقال ان رفع من منسوب نقده للحكم والحزب في سوريا، وبما لا يمكن ان يؤدي الا لمصادرة العدد ومنع توزيعه هناك·
اتصلت به هاتفياً راجياً تبديل بعض المفردات الصارخة، ولكنه رفض الحديث في هذا الشأن من حيث المبدأ، وقال بحسم: اما نشر المقال كاملاً او حذفه كاملاً، اليست هذه هي القاعدة التي اتفقنا عليها منذ البداية ؟؟
قلت له : نعم، ولكني لا اريد لك الغياب عن قرائك في سوريا، ما دام الرقيب هناك سيلجأ حتماً الى مصادرة العدد·
غير انه – رحمه الله – بقي معانداً ومصراً على موقفه، وهو ما دفعني الى مداعبته بالقول : يا استاذنا، لماذا كل هذا التشدد، بينما انت مثلنا دمشقي الهوى واموي التوجه والهوية، حتى وان كنت اموياً على طريقة الخليفة الزاهد والعابد، عمر بن عبد العزيز·· انفجر بالضحك الذي فاجأني حقاً، ثم قال : اما انتم فمن حزب معاوية، وربما ابنه يزيد·· لا بأس من تبديل بعض المفردات، ولكن اياكم الاخلال بالمعنى والمضمون·
رحم الله هذا “الملاك المقاتل” الذي اجترح لنفسه معجزة خاصة تخالف ناموس هذه المرحلة، فكان الرجل الواهب وليس الكاسب·· الرجل الذي يملك القليل ويعطي الكثير·· الرجل الذي تفانى في خدمة قضية فلسطين، ولم يحولها – شأن الكثيرين – الى جارية تقوم على خدمته !!
عن المجد[/p]