سليمان تقي الدين – السفير
لا يفاجئنا الإسلاميون في عدم وضوح رؤيتهم لكثير من القضايا السياسية الهامة. هناك مروحة واسعة من الآراء والمواقف والممارسات التي تؤكد الطابع التجريبي في السياسة المعاصرة.
لا يملك الإسلاميون نظرية واحدة للدولة ولعلاقة الدين بالسياسة والاقتصاد والهوية (الإسلام والعروبة) والعلاقة مع الغرب، وليست لديهم استراتيجية معلنة واضحة في المسألة الديموقراطية وقضية فلسطين والوحدة العربية أو الإسلامية والعدالة الاجتماعية. باختصار لا يملك الإسلاميون العرب نموذجاً فكرياً وسياسياً واحداً.
لدى الإسلاميين اجتهادات مختلفة في ميدان العمل السياسي عند الانتقال من «الدعوة» إلى المشاركة في صياغة الدساتير والأنظمة والقوانين والتحالفات وفي نظرتهم للحريات العامة والفردية. كل حركة سياسية تقدمت بآرائها الفقهية في ضوء موازين القوى والتجارب الخاصة وثقافة المجتمع. هذه الظاهرة إيجابية من حيث المرونة والواقعية حين يتحدث أحد زعمائهم عن «الملاءمة بين الإسلام وقيم العصر والحداثة»، خاصة في مسائل الأحوال الشخصية التي يلحقها الإسلاميون عادة بالأحكام الدينية الملزمة. ولا يمكن تجاهل ردة فعل شخص متحدر من حركة الإخوان المسلمين، كرئيس مجلس الشعب المصري، على شخص آخر سلفي في مسائل تتعلق بالنظام المدني، أو تجاهل شراكة الإسلاميين في صياغة أحكام دستورية مدنية، أو «وثيقة الأزهر» مع آخرين من اتجاهات فكرية ودينية مختلفة تعلن مدنية الدولة وفصل الدين عن السياسة واحترام ثقافة المجتمع التعددية والحريات.
لكن ذلك لا يلغي أن جمهرة الإسلاميين تدفع باتجاه ممارسة التضييق على حرية الفكر والضمير والتعبير، وأن قطاعات واسعة منها تمارس العصبية الدينية والسياسية ولا تقبل الآخر وثقافته.
الإسلاميون جاؤوا إلى السلطة في ركاب موجة تغيير سياسي تغتذي من أزمات متراكمة، سياسية اجتماعية ثقافية، ومن مناخ إقليمي ودولي ساهم وساعد وسهّل إضفاء الشرعية على صعودهم السريع إشغالاً لفراغ يحدثه تهاوي الأنظمة الاستبدادية. يحمل الإسلاميون إرث المجتمع العربي المتديّن، لكنهم لا يشكّلون «صحوة دينية روحانية» بمقدار ما يشكّلون انبعاثاً لهوية ثقافية طائفية. فليس هناك من ملمح تجديدي في الفكر الإسلامي يشكّل «نهضة» أو مشروع تحديث وتوحيد. فحيث ما صعد الإسلاميون أثاروا عاصفة من الاختلافات التقليدية والطقوسية والمذهبية أكثر مما أوجدوا حواراً يسعى إلى بلورة هوية ثقافية تقدمية جامعة.
في خلفية المشهد الإسلاموي صدام مع الليبرالية والقومية واليسارية، مع بعض الاستثناءات والتمايزات. بين الإسلاميين والغرب علاقة تضاد ثقافي وتماهٍ سياسي، وهذا عكس التجربة القومية. يقبل الإسلاميون العالم السياسي والاقتصادي بآلياته وقواعده وأحكامه ويرفضونه في منطق الهوية الثقافية. هم بهذا المعنى تجسيد لفكرة صراع الحضارات والثقافات كما طرحها الغرب المعاصر بدلاً من صراع المصالح الاجتماعية التي تجسدت وتتجسد في بيئات قومية أو بين شمال وجنوب وتقدم وتأخر وإمبريالية وتبعية واستقلال فعلي وعولمة.
منذ صعود الإسلام الشيعي في إيران أخذ المسار بُعداً عصبوياً أعطى شرعية للإسلام السني ليستنهض دوره السياسي ويجدده في مواجهة إرث المرحلة القومية العربية. تحوّل الإسلام السياسي في مصر والجزائر وفلسطين واليمن والسودان وليبيا والمغرب والكويت وسوريا ولبنان إلى ما يشبه «هوية وطنية طائفية».
ينتشر الإسلاميون في بيئات اجتماعية مختلفة. كانوا جزءاً من عصب السلطة الاقتصادية في مصر وفي سوريا منذ الستينيات. ناهضوا التدابير التعاضدية (التأميم وغيره) وقاوموا النخبة الجديدة التي أفادت من السلطة السياسية (الاحتكار ـ الامتيازات ـ الحد من الحريات الاقتصادية).
مع تصفية القطاع العام أو التحول عنه في مصر والجزائر وسوريا آلت الكثير من الثروات إلى كبار الضباط والموظفين والقادة السياسيين وحاشية الحكم والأقرباء والأصهار والأنصار. في وجه من وجوه الصراع أجنحة من الطبقة الوسطى. أما في أوساط المهن الحرة والحرفيين وصغار الكسبة فالإسلام السياسي يعبّر عن شعور بالإقصاء والتهميش وعدم تكافؤ الفرص. وفي أوساط الفقراء هو ثقافة الاحتجاج على غياب العدالة الاجتماعية وعلى الثراء والاستغلال والفساد المرتبط في الخيال الشعبي بثقافة الحداثة الاستهلاكية الغربية المستوردة. وتشكّل الاستهانة بالكرامة الوطنية عنصراً مضافاً لنظرة العداء للخارج القومي والديني والطائفي.
لكن بين الإسلام الشعبوي والإسلام النخبوي القيادي والحزبي دائماً هناك حيز من المسافة كما في كل تجربة. تستثمر النخبة رأس المال الشعوري والخيالي في التحريك والتأطير نحو شعارات وأهداف وقيم، وتمارس المناورة والمفاوضة والمساومة على توازنات القوى والمصالح. ليس من تجربة حتى الآن كانت خالية من ظاهرات الفساد والانحراف واستغلال السلطة. حين يتحوّل المشروع السياسي إلى سلطة و«نموذج دولة» يتصرف انطلاقاً من شبكة علاقاته الاجتماعية. الإسلاميون أصلاً لا يريدون تغيير قواعد الدولة بل النظام، وليس في منظورهم الفكري مسألة قومية أو كيانية سياسية إلا الجماعة و«الأمة» التي يجمعها رباط الدين لا رباط التشكيل الاجتماعي أو التعاقد الوطني. عقد الإسلام السياسي هو عقد ديني لا عقد وضعي. لذا هم يرفضون المرجعية الوضعية حيث السيادة لخيارات الناس ويصادرونها باسم المرجعية الدينية.
لا يفاجئنا الإسلاميون حين يكون الغرب بالنسبة لهم استكباراً في أحسن الأحوال وتحدياً لثقافتهم وليس لعيشهم. الغرب غرب والشرق شرق في عوالم منفصلة. ما هو خارج ديار الإسلام ليس إلا الغريب الذي «نعاهده» أي نعقد صلحاً معه أو نعد له رباط الخيل. هكذا هي النظرة إلى الصراع العربي الإسرائيلي وإلى اتفاقية كامب ديفيد أو وادي عربة وأوسلو ومكاتب الاتصال التجارية وحوار الأديان. لا يقاومون الحاكم الفاسد والجائر بل هم «يصلحون المجتمع» يعظونه ويردعونه عن المفاسد والمعاصي.
بهذا السلوك يقطفون السلطة حين تنهار ولا يواجهون النظام السياسي القائم في الخليج مثلاً كنظام إسلامي فاسد. الثورة على الظلم تحتاج إلى فتوى أو إلى «مسوّغ شرعي ديني» له أحكامه الخاصة. ومن بين عناصر هذه الأحكام أن يكون «آخر» وأن يبدأ بالعدوان أو يفض معاهدة.
لا يملك الإسلام السياسي مشروعاً لنهوض العالم العربي، ولا العالم الإسلامي. العالم الإسلامي هو اليوم في نظرهم ليس مجموعة دول وقوميات بل له بُعد ديني مذهبي أو فقهي. إيران ليست فارس بل هي كيان شيعي وتركيا ليست قومية سلجوقية بل هي كيان سني. الكيان بهويته المذهبية والسياسية لا بعنصره ولا بمصالحه «الدولتية الوضعية».
الرأسمال الأكبر للإسلام السياسي فرضية خلاص العالم من طريق الدين. الدين بما هو وعد ورجاء وبما هو سلوك يوفر راحة العقل والنفس. صعد الإسلام السياسي نتيجة أزمة وجودية احتاجت فيها الناس إلى «مخلص». فكرة المخلص قد تكون زعامة وقيادة فردية يضع الناس آمالهم عندها أو جماعة. الجماعة التي تعد بخلاص العالم عن طريق الالتزام الأخلاقي أو الإيديولوجي هي شكل من الاستبداد الجمعي الذي يسكّن الألم ولا يعالجه. نحن في عالم استيقظت فيه الهويات الفئوية في تعبير ديني أو عرقي أو ثقافي لكنه ليس عالماً دينياً روحانياً. هذه تداعيات العولمة المعاصرة وبعض تجلياتها.
في العولمة يجري استبدال الهويات. العروبة أو الأمة التي ما زالت تسعى إلى بناء دولتها الحرة قد تصير أمماً أثنية، وفلسطين تصبح خط تماس ديني مع دولة اليهود نحاورها ونعاهدها أو نحاربها ولكن لا مسألة حق شعب وإنسان وكيان مستقل لمجتمع مستقل بعناصره ومصالحه.
لا جدال في شرعية الإسلاميين اليوم لأنهم خرجوا من لا شرعية الأوضاع السابقة السائدة ونالوا تأييد جمهرة واسعة من حقها أن تكون شريكة بلونها وثقافتها وطموحاتها. يأتي الإسلاميون بمكتسب الثورة «الديموقراطية» وقد يأتون بمكتسب القوة.
ما هو مهم الآن هل يتكيّفون مع قيم العصر وحاجات المجتمع إلى وسائل التقدم الاجتماعي والإنساني أم ينقلبون على شرعيتهم التي جاءت من خيار الناس!؟ مع الثورات العربية، مع مشاريع الإصلاح المتعددة ثمة حاجة لفتح ملف الإصلاح الديني.